القرآن من التفسیر الموروث الی تحلیل الخطاب الدینی

اشارة

نام كتاب: القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی
نویسنده: محمد ارگون / هاشم صالح
موضوع: وحی
تاریخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربی
تعداد جلد: 1
ناشر: دار الطلیعة
مكان چاپ: بیروت
سال چاپ: 2001
نوبت چاپ: اوّل
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی
alkra'n mn altfsir almourouth ila thlil alkhtab aldini
تألیف: محمد أركون تاریخ النشر: 01/04/2001
ترجمة، تحقیق: هاشم صالح الناشر: دار الطلیعة للطباعة والنشر
النوع: ورقی غلاف عادی،
حجم: 24×17،
عدد الصفحات: 176
صفحة الطبعة: 1 مجلدات: 1
اللغة: عربی

- 1- المكانة المعرفیة و الوظیفة المعیاریة للوحی مثال: القرآن‌

اشارة

وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْیاً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ یُرْسِلَ رَسُولًا فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ ما یَشاءُ إِنَّهُ عَلِیٌّ حَكِیمٌ. وَ كَذلِكَ أَوْحَیْنا إِلَیْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِی مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِیمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِی إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ.
(سورة الشوری، الآیتان 51- 52) «الأسطورة هی عبارة عن قصر إیدیولوجی مبنی بواسطة حصی و انقاض خطاب اجتماعی قدیم».
(كلود لیقی- ستروس) ان المكانة اللاهوتیة لما یدعوه المؤمنون التوحیدیون بالوحی كانت علی مدی قرون و قرون المصدر الأعلی و النهائی لحیاتهم. و كانت فی الوقت ذاته موضوعا للمناقشات و التفسیرات. و قد خاض المسلمون فی ما بینهم مناقشات حامیة حوله عند ما حاول مذهب المعتزلة أن یفرض رسمیاً تلك النظریة الشهیرة القائلة بأن القرآن هو كلام اللّه المخلوق.
و كان أول مذهب یبتدئ القول بذلك و ینظر له. ثم اندلع صراع بین المسلمین حول هذه المسألة، و وصل إلی ذروته عند ما حصلت المحنة ضد المذهب الحنبلی و زعیمه أحمد بن حنبل. و من المعلوم أن هذا الأخیر عبّر عن مبدأ قوی من مبادئ اللاهوت الإسلامی.
یقول هذا المبدأ: «لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق». لكن ینبغی الاعتراف بان منهجیة المعتزلة كانت تحتوی علی إمكانیة نظریة كامنة و واعدة. ثم جاء الخلیفة القادر (420 ه/ 1029 م) و أصدر مرسوما بحضور الشرفاء، و القضاة، و شهود العدل، و الفقهاء، الذین استمعوا إلی نصّ المرسوم و وقّعوا علیه. و قد قضی بتحریم نظریة المعتزلة و اعتبارها خارجة
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 12
علی القانون و إباحة دم من یعتنقها أو یقول بها «1». و الیوم ما ذا نلاحظ؟ نلاحظ أن الموقف السنّی الذی دافع عنه الاعتقاد القادری لیس فقط سائدا و مسیطرا حتی الآن، و إنما قد أغلق المناقشة حول مسألة مفتاحیة و أساسیة بالنسبة للحیاة الدینیة و الفكر الدینی فی مجتمعات عدیدة جدا من مجتمعات العالم. أنا لا أعرف أی مفكّر مسلم یجرؤ علی إعادة فتح هذه المناقشة التی كانت قد أغلقت قبل ألف سنة تقریبا بقرار سیاسی «*». نقول ذلك علی الرغم من أن المبدأ اللاهوتی الذی استخدمه الحنابلة ضد المحنة التی فرضها المأمون و الواثق كان یقول بأن المناظرة تظل مفتوحة بین علماء الدین ممّن یملئون الشروط الضروریة (أو یتمتعون بالشروط الضروریة) لممارسة الاجتهاد. و حتی التحلیل الألسنی و النقد الأدبی المطبقان علی الخطاب القرآنی كانا قد أدینا مؤخرا بصفتهما تجدیفا و كفرا أو عدوانا علی المكانة الأرثوذكسیة الراسخة لكیفیّة فهم أو تصوّر ظاهرة الوحی «2». و هناك فرائض شعائریة دقیقة ینبغی علی كل مسلم القیام بها قبل أن یمسك المصحف بیدیه، لكی یتلو بصوت مسموع، أو لكی یقرأ بشكل صامت كل النصّ أو جزءا منه. و ینبغی أن تسبق أی استشهاد به عبارة «قال تعالی»، و ینبغی أن تنتهی بعبارة «صدق اللّه العظیم».
ظهرت مؤخرا ثلاثة كتب، من بین كتب أخری عدیدة، یمكن أن نستشهد بها للتدلیل علی أن الفكرة الشائعة عن الوحی فی المجتمعات الإسلامیة لا تزال محصورة داخل دائرة ما ندعوه بالمستحیل التفكیر فیه بالنسبة للتراث الإسلامی منذ القرن الحادی عشر المیلادی.
و نقصد بالمستحیل التفكیر فیه هنا ما یلی: إنّ المكانة الارثوذكسیة اللاهوتیة للوحی كما كان قد نطق به من قبل النبی و جمع فورا أو لا حقا فی المصحف تحت الاشراف الرسمی للخلیفة عثمان بن عفّان، لا یمكن أن یكون موضوعا للدراسة أو مادة للتحرّی النقدی. فهذه المكانة محمیّة من قبل الاجماع الكونی لكل المسلمین منذ أن كانت الطائفة الشیعیة الإمامیة و الطائفة السنیة قد توصلتا إلی اتفاق بعد مناقشات طویلة و صراعات عنیفة حول صحّة المصحف.
______________________________
(1) انظر كتاب جورج مقدسی: ابن عقیل: الدین و الثقافة فی الإسلام الكلاسیكی «المنشور بالانكلیزیة).
. 8.p ، 1997،press University Edinburgh ،islam ciassical in culture and Religion :Agil Ibn :.G .Makdisi
* انظر كتاب جورج مقدسی: ابن عقیل و انبعاث الإسلام التقلیدی فی القرن الحادی عشر المیلادی (بالفرنسیة)، منشورات المعهد الفرنسی فی دمشق:de resurgence la et Agil Ibn :Makdisi Georges . 803.p ، 1963،Damas ،siecle xie au traditionnaliste Islam l ]ملاحظة: الهوامش المؤشّر علیها بنجوم: (*)، (**) .. هی تعلیقات للمترجم، أما تلك التی تحمل أرقاما: (1)، (2) ... فهی للمؤلّف] المحرّر.
(2) إن المحاولة القدیمة التی قام بها محمد أحمد خلف اللّه فی كتابه الفن القصصی فی القرآن أثارت مجادلات و ردود فعل حادّة، تماما كما حصل لنصر حامد أبی زید فی محاولته الأخیرة لتطبیق المنهجیة الألسنیة علی دراسة الخطاب القرآنی. أما كتابی المنشور عام 1982 بالفرنسیة تحت عنوان قراءات فی القرآن، فلم یثر أی ردّ فعل حتی الآن لأنه لم یترجم بعد إلی العربیة أو إلی الفارسیة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 13
لنتعرض الآن بشی‌ء من التفصیل إلی الكتب الثلاثة المذكورة آنفا. هناك أولا كتاب بعنوان: مقدمة للقرآن «*». و هو من تألیف السید أبو القاسم الخوئی، و قد ترجم إلی الانكلیزیة و أرفق بمقدمة من قبل الباحث المستشرق أ. أ. ساشدینا (منشورات جامعة أكسفورد، 1998)؛ و أما الكتاب الثانی فهو من تألیف مهندس سوری یدعی محمد شحرور. و عنوان كتابه: الكتاب و القرآن- قراءة معاصرة (طبعة أولی: دمشق 1990)؛ أما الكتاب الثالث فقد قدّم علی أساس أنه قراءة جدیدة للآیات التشریعیة الواردة فی القرآن.
و قد ألفه صادق بلعید، استاذ الحقوق فی الجامعة التونسیة، و عنوانه: القرآن و التشریع:
قراءة جدیدة فی آیات الأحكام (تونس، 1999).
المقدمة هو أهمّ كتاب من حیث المرجعیة الدینیة لأن مؤلّفه الخوئی كان یمارس قیادة دینیة علیا حاملا لقب «آیة اللّه» فی النجف و ذلك طیلة حیاته المدیدة (1899- 1992).
و نلاحظ أنه لم یذكر فی كتابه اسم أی باحث حدیث كان قد كتب حول تاریخ القرآن كنصّ، أو حول مفهوم الوحی كما كان قد انوجد فی التراثین الیهودی و المسیحی. كما انه لا یبدی أی اهتمام بالمنهجیة المقارنة التی تدرس العلاقات بین الكتابات المقدسة، علی الرغم من أن هذه المسألة كانت قد نوقشت مرارا و تكرارا فی مؤتمرات دولیة عدیدة منذ انعقاد المجمع الكنسی المعروف باسم مجمع الفاتیكان الثانی «**». یقول المؤلّف فی مقدمة الطبعة الأولی
______________________________
* فی ما یخص كتاب الخوئی، لم أستطع الحصول علی نسخته العربیة، و لذلك فانی أترجم مضمون ما قاله أركون عنه. فربما كان عنوانه «مقدمة للقرآن» أو «مدخل إلی القرآن»، و لكن المضمون واحد فی نهایة المطاف. و یبدو أن أركون اعتمد علی الترجمة الانكلیزیة لهذا الكتاب. و هو علی أی حال یمثّل وجهة النظر التقلیدیة الشائعة عن القرآن و التی یمكن للقارئ أن یجدها فی جمیع المكتبات الإسلامیة التقلیدیة سواء أ كانت سنّیة أم شیعیة. و الترجمة الانكلیزیة هی التالیة:Al -Sayyid by ،Quran the to Prolegomeno The . 8991،Press ،Univercity Oxford ،Sachedina .A .A by Introduction an with Translated ،Al -Khui Qasim -.Abu -l
** مجمع الفاتیكان الثانی‌II Vatican : هو المجمع الكنسی الشهیر الذی انعقد بین عامی 1962 و 1965 فی مقر الفاتیكان بروما و اتخذ قرارات جریئة فی الانفتاح علی العالم الحدیث. و معلوم أن الفاتیكان كان یعادی الحداثة بشكل عام طیلة القرنین التاسع عشر و العشرین و حتی انعقاد ذلك المجمع الكنسی. و یمكن القول بأن القرارات اللاهوتیة التی أتخذها تشكّل مصالحة تاریخیة بین المسیحیة و مبادئ عصر التنویر. فقد أقرّ، مثلا، بمبدإ الحریة الدینیة لأول مرة فی تاریخ اللاهوت المسیحی. ففی الماضی كان المرء كافرا و لا خلاص لروحه خارج الكنیسة. بمعنی أنه إذا لم یكن مسیحیا فمهما فعل، و مهما كان طیبا و خلوقا، فإن مصیر روحه إلی العذاب حتما. و بالتالی فینبغی علی جمیع الناس أن یصبحوا مسیحیین لكی ینجوا بأرواحهم و لكی یحظوا بعفو اللّه و مرضاته.
و أما بدءا من الفاتیكان الثانی فقد أصبح الانسان حرا فی أن یؤمن أو لا یؤمن. و إذا ما آمن عن إكراه و قسر فلا نفع لإیمانه. بل و أن أتباع الدیانات الأخری غیر المسیحیة كالهندوسیة، و البوذیة، و الإسلام، و الیهودیة یستحقون الاحترام، و إیمانهم له قیمته، و إن كان الایمان المسیحی یظل هو
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 14
من كتابه ما معناه: «یجب علی كل مسلم، عالما كان أم غیر عالم، أن یسعی إلی فهم القرآن، و أن یكشف عن مكنوناته، و أن یستضی‌ء بأنواره و هدایته. فهو الكتاب الذی یضمن للبشر السلام، و السعادة، و النظام. إنه یرفع من مكانتهم، و یزید فی رفاهیتهم بل و یساعدهم علی التوصل إلیها. یضاف إلی ذلك أن القرآن هو مرجع لكل علماء اللغة و المعاجم، و دلیل لعلماء النحو، و مستند أعلی للفقیه المجتهد، و نموذج یحتذی للأدیب، و غایة البحث المواظب للحكیم، و معلّم للواعظ المبشّر، و مثابة لكل رجل ذی خلق و دین. منه اشتقت العلوم الاجتماعیة و مبادئ الإدارة العامة للدولة. و علیه ترتكز العلوم الدینیة. علی ضوء هدایته اكتشفت أسرار الكون و قوانین الطبیعة. إن القرآن هو المعجزة الخالدة للدین الخالد.
إنه المصدر النبیل و الشریف للشرع النبیل و الشریف [الشریعة الإلهیة] (ص 26).
یمكننا أن نقرأ نفس التصریحات التبجیلیة و نفس الانتماء الحارّ و القوی للمعتقدات الشائعة بین جمیع المؤمنین الإسلامیین فی مئات الكتب المكتوبة عن هذا الموضوع نفسه منذ أن أخذ النقل الشفهی للتراث الدینی یجمع و یكتب من قبل العلماء فی القرون الوسطی.
و السمة الأكثر إدهاشا فی هذا الخطاب المتجذر عمیقا فی وعی الملایین هی الاقتناع التالی الذی كان مفهوما فی القرون الوسطی، و لكنه أقلّ موثوقیة فی السیاقات المعاصرة المتعدّدة الثقافات. مؤدی هذا الاقتناع ما یلی: إن القرآن هو عبارة عن المرجع الأعلی و النهائی لكل البشر. فهو یحتوی علی كل جواب لأی سؤال. كما و یحتوی علی الحلول التی یحتاجها البشر فی كل زمان و مكان. و هو یتعالی علی أی نمط من أنماط ما ندعوه الیوم بالتاریخیة، و لا یتأثر بها علی الإطلاق «*».
و الآن انتقل إلی الكتاب الثانی. لا أعرف كیف انتقل السید شحرور من مجال الهندسة إلی مجال آخر مختلف تماما هو: مجال الدراسات الإسلامیة. و لكننا نلاحظ منذ القرن التاسع عشر أن المسلمین المتخصصین فی العلوم الدقیقة یتدخّلون بسهولة فی الدراسات القرآنیة و یكتبون عنها كتبا تحظی بنجاح كبیر فی المكتبات. فمثلا كان المهندس الجزائری مالك بن نبی قد فرض نفسه فی النصف الأول من القرن العشرین بصفته مفكّرا مسلما كبیرا
______________________________
- الأمل. كما و اعترف المجمع الكنسی المذكور بحقّ العلماء فی دراسة التوراة و الأناجیل طبقا للمنهج التاریخی. و كان ذلك یمثّل حدثا تاریخیا بالفعل.
* مفهوم «التاریخیة» غیر وارد علی الاطلاق بالنسبة للوعی الإسلامی التقلیدی. فالنصوص الدینیة تتعالی علی التاریخ فی نظره. و لكن البحث التاریخی الحدیث یثبت لنا أن القرآن مرتبط بظروف عصره و بیئته: أی بشبه الجزیرة العربیة- و بخاصة منطقة الحجاز- فی القرن السابع المیلادی. فألفاظه و مرجعیاته الجغرافیة و التاریخیة تدلّ علی ذلك. یضاف إلی ذلك أن حیاة النبی و تبشیره بالدعوة و معارضة أهل مكّة له و ما حصل من أحداث و حروب، كل ذلك نجد أصداءه واضحة فی القرآن. هذا لا ینفی بالطبع أنه كتاب موحی من قبل اللّه أو مستلهم منه، و لكن الوحی یتخذ فی كل مرة صیغة اللغة و القوم الذین وجه إلیهم هذا الوحی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 15
عن طریق إصدار كتاب سطحی جدا یدعی: الظاهرة القرآنیة. و هو كتاب لا یزال یقرأ بشكل واسع و یعلّق علیه حتی الآن. و نلاحظ أن السید شحرور، كالكثیر من المؤلّفین الآخرین، یستخدم بعض المقاطع المتبعثرة من المعرفة العلمیة المعاصرة، مازجا بین العلوم الدقیقة و العلوم الإنسانیة أو الاجتماعیة. و هو یهدف من وراء كل ذلك إلی إعادة تقییم الصحة الإلهیة و الصلاحیة الكونیة للقرآن بصفته الكتاب الذی یحتوی علی الوحی فی اللغة العربیة، و هو یزعم بأنه یعتمد علی «معرفة علمیة لا تناقش» فی إعادة التقییم هذه. و هكذا نلاحظ أن الوحی لم یتعرّض للمساءلة، و لم یصبح إشكالیا، و إنما تمّ تثبیته مرة أخری بالنسبة للمسلمین الذین قد یتعرّض إیمانهم للاهتزاز أو الزعزعة تحت تأثیر الفكر العلمی الحدیث.
أما الصادق بلعید فیحاول أن یختبر القیمة القانونیة للآیات التشریعیة الواردة فی القرآن. و لكن كتابه لا یحتوی إلّا علی مراجع قلیلة من الأدبیات الحدیثة المختصّة بنقد العقل القانونی. و قد انتهز فرصة المناخ السیاسی السائد فی تونس و المؤید بالأحری لتحدیث القانون الإسلامی لكی یؤكّد علی بعض الوقائع و المواقف التی أصبحت بمثابة تحصیل حاصل منذ عدّة عقود بالنسبة للفكر الأوروبی أو الغربی. یقول بلعید بما معناه: إن الآیات المدعوة بالتشریعیة كانت قد أعدت للمجتمع القبلی، و لیس للأنظمة القانونیة و السیاسیة الحدیثة. فالهمّ الرئیسی للقرآن كان التثقیف الروحی للجنس البشری، و لیس تأسیس نظام سیاسی أو بلورة قانون قضائی و تشریعی جدید. إنّ القرآن لا یزوّد المؤمنین بنموذج سیاسی، و لا یستخدم مفردات المعجم السیاسی علی عكس ما تزعم التفسیرات التبجیلیة المنتشرة منذ ظهور جماعة الاخوان المسلمین عام 1928. فالخطاب التبجیلی یعتبر مغالطة تاریخیة كاملة، و هو أبعد ما یكون عن فكرة تاریخیة المعنی.
هذا ملخص ما یقوله الصادق بلعید. و لا ریب فی أن هذا النوع من النقد البدائی مفید و ضروری فی السیاق الحالی المهیمن علیه سوسیولوجیا، و المهدّد سیاسیا، من قبل الاستخدام الحركی، الأصولی، الدوغمائی للنصوص القرآنیة. قلت الاستخدام و كان ینبغی أن أقول الافراط فی الاستخدام أو التعسّف فی الاستخدام. و لكن هذا النقد یعطینا صورة عن التراجع الفكری الذی حصل للفكر الإسلامی طیلة الخمسین سنة الماضیة، أكثر مما یعطینا فكرة عن انبثاق التیارات الجدیدة أو المواقع الجدیدة لنقد أكثر جذریة. و هو نقد یرتكز علی القضایا الأساسیة التی أحاول أنا شخصیا إدخالها و إعادة تنشیطها و بعثها بصفتها مساهمة فی انجاز المهام الخصوصیة لما أدعوه بالعقل الاستطلاعی، المستقبلی، المنبثق حدیثا «*».
______________________________
* هذه العقلانیة الجدیدة التی یدعو إلیها أركون یرفض أن یدعوها بمرحلة ما بعد الحداثة، أو بعقل ما بعد الحداثة، كما یفعل الكثیر من فلاسفة أوروبا و أمریكا. و إنما یخترع لها اسما جدیدا هو العقل الاستطلاعی الجدید المنبثق‌emergente raison la ، و هو عقل یشتمل علی عقل الحداثة و یتجاوزه فی
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 16
إنّ هدفی لا یكمن فی بلورة نظریة لاهوتیة «حدیثة» للوحی و تمكین المثقفین المؤمنین من إقامة التوافق و الانسجام بین إیمانهم و بین أزمة المعنی التی نشهدها حالیا. كنت أتمنی أن أفعل ذلك لو أن الفكر الإسلامی كان هیّأ منذ القرن التاسع عشر الشروط العلمیة الكفیلة بتحقیق مثل هذه المهمة الصعبة. أقول ذلك و نحن نعلم أن المسیحیة الكاثولیكیة و البروتستانتیة كانت قد أجبرت علی أن تستوعب فی تنظیراتها اللاهوتیة كل الاعتراضات، و التفنیدات، و المعرفة العلمیة الوضعیة المتراكمة من قبل العلوم الإنسانیة و الاجتماعیة منذ القرنین الثامن عشر- التاسع عشر «*». و هی الآن فی طور بذل محاولات جدیدة لكی تعید تقییم مفهوم الوحی. و لكنها لم تنجح حتی الآن فی توسیع أشكلة المفهوم كما كان قد نشأ علیه فی الأدیان التوحیدیة الثلاثة «1». و من المعلوم أن طموحی كان یهدف دائما إلی القیام بذلك، منطلقا لتحقیقه من مثال الإسلام. أقول ذلك و نحن نعلم أن مثال الإسلام كان دائما یهمل أو یعرض علی حدة من قبل المسار اللاهوتی السائد داخل الفكر الیهودی- المسیحی.
لكی نشمل كل جوانب الموضوع فسوف أبتدئ بالتحلیل الظاهراتی أو الفینومینولوجی للتحدید الارثوذكسی للوحی كما كان قد استقبل و عیش علیه من قبل جمیع المسلمین منذ القرن العاشر أو الحادی عشر المیلادی «**». علی هذا الأساس
______________________________
- آن معا. بمعنی أنه ینقد الحداثة و یغربلها لكی یطرح سلبیتها و لا یبقی إلا علی إیجابیتها، ثم یشكل عقلانیة أكثر اتساعا و رحابة. و هی عقلانیة تتجاوز عقل التنویر بعد أن تستوعب مكتسباته الأكثر رسوخا. إنها عقلانیة لا تحتقر الجانب الروحانی أو الرمزی من الإنسان كما كانت تفعل العقلانیة الوضعیة الظافرة منذ القرن التاسع عشر و التی سیطرت علی الغرب حتی أمد قریب.
* یشیر أركون هنا إلی التقدم الهائل الذی حقّقه الفكر المسیحی فی أوروبا خلال القرنین الماضیین. و السبب هو أنه أضطر إلی مواجهة تحدیات الحداثة منذ القرن الثامن عشر. و لذلك قام الفكر المسیحی (الأوروبی و لیس الشرقی) بعدة ثورات لاهوتیة لكی یستطیع أن یتماشی مع حركة المجتمعات الحدیثة و تقدم الفكر العلمی و الفلسفی. فلاهوت التنویر، أو اللاهوت اللیبرالی الذی نشأ فی القرن التاسع عشر كان یعتبر ردا علی تحدیات الحداثة. و من أهم اللاهوتیین اللیبرالیین كارل بارت‌Barth Carl )6881- 8691(، و ردولف بولتمان‌Bultmann Rudolf )4881- 6791(، صاحب النظریة الشهیرة عن نزع الأسطورة عن الكتابات المقدسة، و كلاهما المانی بروتستانتی. إنما هناك أیضا لاهوتیون كاثولیك كبار حاولوا عقلنة الإیمان المسیحی لكی یتماشی مع روح الحداثة.
(1) كان الباحث الفرنسی جان آیف لاكوست قد أشرف علی قاموس اللاهوت الذی صدر مؤخرا فی باریس عن المطبوعات الجامعیة الفرنسیة، 1998. و قد أرفقت مادة «وحی» بمراجع غنیة جدا و عدیدة. فننصح القارئ باستشارتها:،Paris ، «Revelation¬.art ،Theologio de Dictionnaire :Lacoste -Yves Jean . 8991،.P .U .F
** أركون یعتقد أنه یقدّم شیئا جدیدا بالنسبة لاضاءة مفهوم الوحی لیس فقط علی المستوی الإسلامی، و إنما أیضا علی المستوی الغربی و الأوروبی ككل. فهو یشمل أیضا الدینین الیهودی و المسیحی فی بحثه، و إن كان یركّز تحلیلاته علی المثال الإسلامی أساسا. و المقصود بالتحلیل الظاهراتی (أو الفینومینولوجی)
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 17
المعرفی سوف أجعل الأبعاد التاریخیة و الانتربولوجیة و اللغویة لمفهوم الوحی أكثر وضوحا، و ذلك لكی أفتح إمكانیات جدیدة من أجل توضیح مكانته المعرفیة «*». و هذا البحث الواسع ینبغی أن ینجز تحت رایة ثلاثة موضوعات عامة هی: «الوحی، التاریخ، الحقیقة»، ثم «العنف، المقدس، الحقیقة»، ثم «من أهل الكتاب إلی مجتمعات الكتاب المقدس/ الكتاب العادی». فلنحاول أن نفصّل الكلام فی كل واحد من هذه المحاور.

المقاربة الظاهراتیة (أو الفینومینولوجیة)

إنّ التعریف التبسیطی للوحی فی السیاقات الإسلامیة یقدّم من خلال عبارتین شعائریتین مستخدمتین علی نحو عام أو شائع من قبل أی مسلم عند ما یستشهد بأی مقطع من القرآن. فهو یبتدئ كلامه قائلا: «قال اللّه تعالی» ... و ینهاه قائلا: «صدق اللّه العظیم». لا یوجد أی مجال للمناقشة حول التألیف، أو حول المكانة الإلهیة لمضمون النص المستشهد به، أو حول تناسب الاستشهاد مع الموضوع أو مع الظرف الذی استشهدوا به من أجله. قبل السنوات الخمسین الأخیرة كانت الاستشهادات فی النص المكتوب أو فی المحادثات الجاریة تتمّ من قبل أصوات مأذونة: أی من قبل أولئك الذین یمتلكون لیس فقط سیطرة جیدة علی النص القرآنی، و إنما یسیطرون أیضا علی تفسیره (أو یجیدون ذلك).
و لكن طرأ تغیّر سوسیولوجی ضخم علی هذه الممارسة عند ما تم إدخال تعلیم الدین إلی المدارس الابتدائیة الرسمیة. و هكذا راح الأساتذة غیر المدرّبین جیدا یعلمون الأطفال الصغار «تفسیرا» وحشیا، هلوسیا، غیر مسیطر علیه. و لعبت وسائل الإعلام دورا كبیرا فی هذه الظاهرة عند ما ساهمت فی زیادة الطلب علی التدیّن الدیماغوجی الشعبوی. إنّ هذا الجانب الهام مما دعاه المراقبون و الصحفیون ب «عودة الدین» (أو الصحوة الدینیة)، یدل فی الواقع علی تفسّخ الخطاب الروحی و الاستخدام المبتذل أو الردی‌ء للقرآن نفسه.
لقد تشكّلت نسخة مبسّطة جدا عن تاریخ الوحی و أصبحت فی متناول المؤمنین
______________________________
- وصف الأشیاء كما هی، قبل أن تنقل إلی مرحلة تالیة من النقد و التقییم. و لذلك یبتدئ أركون دراسته باستعراض ما یقوله التراث الإسلامی عن الوحی، ثم ینتقل بعدئذ إلی نقد هذا التصور، أو أشكلته، أو الكشف عن إهماله للبعد التاریخی و الانتربولوجی. و عندئذ یوسّع المفهوم و یقدّم عنه صورة جدیدة كلیا.
* نلاحظ أن أركون سوف یقوم أولا بتفكیك المفهوم التقلیدی للوحی، هذا المفهوم المسیطر علی البشریة منذ آلاف السنین، و ذلك قبل أن ینتقل إلی المرحلة التالیة المتمثّلة باعادة تقییم هذا المفهوم المركزی و بلورة فهم آخر جدید له. و عملیة التفكیك هی ما یدعوه بالأشكلة: أی جعل المفهوم إشكالیا بعد أن كان یفرض نفسه علینا كشی‌ء بدیهی غیر قابل للنقاش. فالصورة التقلیدیة السائدة عن الوحی فی الأدیان التوحیدیة الثلاثة تفرض نفسها علینا بحكم العادة، و القرون المتطاولة. و ینبغی تفكیك هذه الصورة الراسخة فی الاذهان و العقول لكی نعرف كیف تشكلت و نشأت أول مرة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 18
الأمیّین الذین لا یعرفون القراءة و الكتابة منذ أن كانت المذاهب التقلیدیة قد أخذت تقدم المواعظ المشكّلة من مبادئ بسیطة سهلة و موجزة، و هی مبادئ تقول للمؤمن ما الذی ینبغی الإیمان به و ما الذی ینبغی نبذه. و انتشرت هذه العقیدة التبسیطیة بدءا من القرن العاشر المیلادی. كنت قد بیّنت مدی أهمیة هذه النسخة الشفهیة الشعبیة المقتطعة من العقیدة الارثوذكسیة المبسّطة و الدور الذی لعبته فی تشكیل الإیمان الإسلامی منذ ذلك الوقت و حتی یومنا هذا «1». و هذا التراث التعلیمی ساد و هیمن علی امتداد قرون طویلة.
و استخدمت كلمة اللّه لدعم المعتقدات، و التقالید، و العادات، و الشیفرات الثقافیة لفئات عرقیة- لغویة عدیدة موجودة فی جمیع المجتمعات التی انتشر فیها «الإسلام». و هذه الفئات المتواجدة فی إندونیسیا، و الهند، و الصین، و إفریقیا، و آسیا الوسطی لا تستطیع حتی الآن التوصل إلی القرآن فی نسخته العربیة. و هی تقیم علاقة مع اللّه، أو محمد، أو القرآن، من خلال التلاوة الشعائریة جدا لسور القرآن القصیرة. كما و تقیم علاقة معهم من خلال الحكایات الاسطوریة التی تروی قصص الملائكة و الأنبیاء الذین نقلوا الوحی أیضا. و هذه الحكایات تحكی شفهیا للأطفال و البالغین باللهجات المحلیة الوطنیة «2».
إن هذه التجربة النفسانیة تحصل لجمیع الفئات الاجتماعیة الأمیّة التی اعتنقت دینا مثقفا مرتكزا علی كتاب أعظم، و علی لغة مقدّسة، و تراث كتابی مقدس أیضا. لقد انتشر الإسلام و المسیحیة عبر العالم أكثر من غیرهما من الأدیان الكبری، و رسّخا هیبة الكتاب الموحی به عبر قناتین مختلفتین هما: قناة التراث المثقّف، المكتوب، المرتكز علی معرفة اللغة المختارة من قبل اللّه: أی العربیة بالنسبة للإسلام، و الإغریقیة ثم اللاتینیة بالنسبة للمسیحیة، و ذلك قبل أن تحل اللغات الأوروبیة الحدیثة محل اللاتینیة بقرار كنسی. أضف إلی ذلك تعلیم الإیمان الارثوذكسی من خلال المفاهیم اللاهوتیة؛ ثم قناة التداخل بین العناصر اللاهوتیة المبسّطة للدین الجدید، و بین الثقافات الشفهیة الشعبیة المعبّر عنها فی اللهجات المحلّیة. ثم جاءت العلمنة و العقل الحدیث لكی یشكّلا فی كل مكان و علی كافة المستویات الثقافیة و المفهومیة صدعا حقیقا أو حدا فاصلا بین أولئك الذین یقبلون بالمحتوی و الوظیفة الروحیة للوحی، و أولئك الذین یرفضونه باعتبار أنه باطل «علمیا» أو تجریبیا «*».
______________________________
(1) أنظر الفصل الخاص ب «الاعتقاد» من كتاب سیصدر لنا لاحقا باللغة الانكلیزیة.
(2) كطفل، كنت شخصیا قد تعلّمت الإسلام ضمن هذه الظروف فی تاوریرت- میمون. و هی قریة بربریة موجودة فی منطقة القبائل فی الجزائر، حیث اللغة العربیة، و علماء الدین الذین یعرفون القراءة و الكتابة، و المكتبات، لم تكن موجودة، و لا تزال نادرة جدا حتی یومنا هذا.
* لم یحل العقل العلمی و الفلسفی الحدیث محل الوحی (أو العقل اللاهوتی) إلّا فی أوروبا و الغرب بشكل عام. أما فی العالم الإسلامی، فلا تزال الأولویة للعقل اللاهوتی الدینی. لما ذا؟ لأن العلم لم یتطور عندنا حتی الآن بالشكل الكافی، و لأننا لم نشهد الثورات الفلسفیة، و التكنولوجیة، و العقلانیة التی شهدتها
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 19
دعونا الآن نعود إلی المبادئ اللاهوتیة الأساسیة المشتركة لدی جمیع المسلمین فی ما یخصّ الوحی. دعونا نذكّر بها لأنها تشكل مسلّمات لا تناقش بالنسبة للجمیع:
1- كان اللّه قد بلّغ مشیئته للجنس البشری (أو لمخلوقاته البشریة) عبر الأنبیاء. و لكی یفعل ذلك فإنه استخدم اللغات البشریة التی یمكن للشعب المعنی أن یفهمها. و لكنه فی حالة آخر تجلّ للوحی عبر النبی محمد، فإنه بیّن كلماته بلغته الخاصة بالذات، و بنحوه، و بلاغته، و معجمه اللفظی بالذات. و كانت مهمة النبی/ الرسول تكمن فقط فی التلفّظ بالخطاب الموحی به إلیه من اللّه كجزء من كلام اللّه الأزلی، اللانهائی، غیر المخلوق. لقد ألحّ التراث علی دور الملاك جبریل بصفته الأداة الوسیطة (أو صلة الوصل) بین اللّه و النبی محمد.
2- إن الوحی الذی قدّم فی القرآن من خلال محمد هو آخر وحی. و هو یكمل الوحی السابق له و الذی كان قد نقل من خلال موسی و عیسی. كما أنه یصحّح التحریف الذی لحق بالتوراة و الانجیل. إنه یحتوی علی جمیع الأجوبة، و التعلیمات، و المعاییر التی یحتاجها البشر من أجل تدبیر حیاتهم الأرضیة و هدایتها و تنظیمها ضمن منظور الحیاة الأبدیة (تاریخ النجاة، الفرائض الدینیة، الشعائر و الطقوس، الأعیاد الدینیة، المعاییر الأخلاقیة و الشرعیة، المعرفة الصحیحة، التصوّرات عن المخلوقات و العلاقات معها، السماوات، الظواهر الفیزیائیة، الكون ...).
3- الوحی المتجلی فی القرآن شامل و كامل و یلبّی كل حاجات المؤمنین و یجیب علی تساؤلاتهم (و احتمالا كل الجنس البشری یرغب فی التعرّف علی التراث حتی فی یومنا هذا، و ذلك بحسب الرأی الأصولی). و لكن هذا الوحی القرآنی لا یستنفد كلمة اللّه كلها. فالواقع أن الوحی ككل محفوظ فی الكتاب السماوی (فی أمّ الكتاب كما یقول القرآن، أو فی اللوح المحفوظ). ینبغی أن نعلم أن مفهوم الكتاب السماوی المعروض بقوة شدیدة فی القرآن هو، فی الواقع، أحد الرموز القدیمة للمخیال الدینی المشترك الذی كان شائعا فی الشرق الأوسط القدیم. و قد برهن علی ذلك المستشرق السویدی جیوفیدینغرین‌Geo Widengren فی كتابه: محمد، رسول اللّه و صعوده (أوبسالا، 1955). انظر كذلك كتابه الآخر بعنوان: صعود الرسول و الكتاب السماوی (اوبسالا، 1950). هذا و سوف نعود إلی هذه النقطة فیما بعد لأنّها لم تدمج كثیرا أو بشكل صحیح فی النظرة التقلیدیة
______________________________
- أوروبا علی مدار أربعة قرون. صحیح أن المسافة بین باریس و بعض العواصم العربیة قد لا تتجاوز الثلاث ساعات بالطائرة، و لكنها حتما تتجاوز الثلاثة قرون من حیث العقلیات و المنهجیات. هذه النقطة إذا لم نفهمها أو لم نأخذها بعین الاعتبار، فإننا لن نفهم فكر أركون و كل الفكر العلمی الحدیث. و لن نفهم موقعنا علی خارطة العالم و لا حجم المهام الضخمة الملقاة علی عاتقنا.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 20
إلی الوحی «*» (أو بالأحری لم تؤخذ بعین الاعتبار).
4- إن جمع القرآن فی نسخة مكتوبة و محفوظة مادیا بین دفتی كتاب یدعی المصحف یمثّل عملیة دقیقة و حرجة. و لكنها ابتدأت بكل دقة أیام النبی ثم أنجزت مع كل الضبط اللازم فی ظل الخلفاء الراشدین و بخاصة فی ظل عثمان. و بالتالی، فالقرآن المحفوظ عن ظهر قلب، و المتلوّ، و المقروء، و المشروح من قبل المسلمین منذ أن انتشر مصحف عثمان، هو النسخة الكاملة، و الموثوقة، و الصحیحة للوحی الذی بلّغ إلی محمد.
5- إن الوحی القرآنی یمثّل الشرع الذی أمر اللّه المؤمنین بأتباعه بحذافیره. فاتباعه یمثّل علامة علی الاعتراف بمدیونیّة المعنی تجاه اللّه و رسوله اللذین رفعا المخلوق البشری إلی مستوی الكرامة الشخصیة عن طریق ائتمانه علی الوحی (أی وضع ودیعة الوحی لدیه).
إن الأحكام (أو المعاییر) السیاسیة، و الأخلاقیة، و القانونیة التشریعیة مشتقة من الشرع الإلهی عن طریق الجهد الفكری و الروحی الذی یبذله «العلماء» المجتهدون (أی كبار رجال الدین). و لا یمكن لأی كائن بشری أن یغیّر النظام السیاسی و الاجتماعی المبنیّ علی هذه الأحكام و المحافظ علیه من قبلها.
6- إن التوتر الكائن بین هذه المكانة الإلهیة للوحی و غایتها البشریة، و بین التصوّر الحدیث للقانون الوضعی و للنظام الاجتماعی و السیاسی قد وصل إلی ذروته منذ أن كانت أنظمة ما بعد الاستعمار قد فرضت الإسلام كدین للدولة، ثم أعطت فی الوقت ذاته مكانة متسعة أكثر فأكثر للتشریع العلمانی أو الدنیوی. و هذا التناقض غالبا ما یظهر أثناء مناقشة قانون الأحوال الشخصیة الذی لا یزال خاضعا للأحكام القرآنیة. فعدد النساء اللواتی یطالبن بإلغاء هذه القوانین المدعوة بالإصلاحیة یتزاید أكثر فأكثر. و هذا ما سیحصل عاجلا أو آجلا. و عندئذ فإن مشكلة الوحی سوف تقلّص أو تختزل إلی أبعادها التاریخیة و النفسانیة، كما هی الحال فی ما یخص المسیحیة راهناً.
إن كل هذه المبادئ هی نتیجة سیرورة تاریخیة طویلة من البلورة و التعلیم و التلقین.
و لكن قواعدها الأساسیة فی القرآن نفسه لم تقبل مباشرة من قبل معاصری محمد بن عبد اللّه عند ما ابتدأ بتبلیغ رسالته فی مكّة. كنت قد بیّنت فی مقالة قدیمة بعنوان «موقف المشركین
______________________________
* فی الواقع إن النظرة التقلیدیة إلی الوحی لا تعترف بأی علاقة بینه و بین الشئون الأرضیة. هذا ما یعتقده المؤمنون التقلیدیون فی كل الأدیان و الطوائف ... و لكن المشكلة هی أن علم التاریخ الحدیث الذی ینبش عن أقدم الحضارات استطاع أن یكشف عن علاقة بین الكتب المقدسة و بین الحضارات التی ازدهرت فی منطقة وادی الرافدین. و قد مثّل هذا الكشف حدثا صاعقا لا یقل أهمیة عن اكتشافات داروین أو كوبرنیكوس من قبله. للمزید من الاطلاع علی هذا الموضوع الخطیر انظر كتاب العالم الفرنسی جان بوتیروBottero Jean : ولادة فكرة اللّه الواحد لأول مرة. الكتاب المقدس و المؤرّخ،.deieu Naissance . 6891،Gallimard ،Paris ،lhistorien et Bible La
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 21
من ظاهرة الوحی»، كیف أن إمكانیة حصول الوحی الإلهی كانت قد نوقشت بقوة هائجة و رفضت و أنكرت من قبل مجموعات معارضة عدیدة فی مكّة (یجد القارئ نص هذه الدراسة فی الفصل الثانی من كتابنا هذا). إن هذه الحقیقة الاجتماعیة و السیاسیة و الثقافیة قد خلعت علیها الصبغة اللاهوتیة فورا و حوّلت من قبل الخطاب القرآنی إلی موضوع للمماحكة الجدالیة بین فئة المؤمنین الأوائل الصغیرة العدد، و بین الكفّار الذین جحدوا اللّه و مبادرته الكریمة. علی هذا المستوی التاریخی، نلاحظ أن الخطاب القرآنی قد صیغ (أو ركّب) لغویا بصفته جهدا ذاتیا مبذولا لرفع نفسه إلی مستوی كلمة اللّه الموحی بها. هذا فی حین أن المعارضین المكیّین كانوا یرفضونه بوصفه كذبا، أو اختراعا شیطانیا یرمی إلی تدمیر التقالید، و العقائد، و النظام الاجتماعی السائد. نحن نقول الیوم بأنه كلام ذو سلطة مشابهة لسلطة العدید من الأقوال الأخری السابقة التی شهدتها منطقة الشرق الأدنی. كانت السیدة جاكلین شابیّ قد قامت بقراءة تاریخیة منتظمة و دقیقة للخطاب القرآنی ذاته و لم تأخذ بعین الاعتبار التفسیرات اللاحقة له، أو التبحّر الأكادیمی الاستشراقی. و نتج عن ذلك كتاب مهمّ بعنوان: رب القبائل- إسلام محمد «*».
سوف نری كیف أن هذه البدهیة التاریخیة المدعّمة من قبل التحلیل الألسنی و السیمیائی للخطاب القرآنی سوف تقودنا إلی صیاغة المقترح التالی الاستكشافی (أی القابل للأخذ أو الرد): ما كان قد قبل و علّم و فسر و عیش علیه بصفته الوحی فی السیاقات الیهودیة و المسیحیة و الإسلامیة ینبغی أن یدرس أو یقارب منهجیا بصفته تركیبة اجتماعیة لغویة مدعّمة من قبل العصبیات التاریخیة المشتركة و الإحساس بالانتماء إلی تاریخ النجاة المشترك لدی الجمیع.
سوف نخضع هذا المقترح الاستكشافی لجمیع أشكال التحریّات أو التمحیصات الممكنة. و منذ الآن سوف أفسّر لما ذا أنّ هذا المقترح الاستكشافی یعطی الأولویة للمقاربة المنهجیة. و هذا یعنی أننا سوف نعلّق أو نعطّل كل الأحكام اللاهوتیة التی تقول بأن الخطاب القرآنی یتجاوز التاریخ كلیا إلی أن نكون قد وضّحنا كل المشاكل اللغویة، و السیمیائیة، و التاریخیة، و الانتربولوجیة التی أثارها القرآن كنصّ. قلت سوف أعلّق هذه الأحكام، و لم أقل سوف أسقطها أو أتجاهلها أو أحذفها كما یفعل علماء الألسنیات
______________________________
*. 1997،Noesis ،Paris ،Mahomet de tribus .LIsiam des Seigneur Le :Chabbi .Jacqueline هذا الكتاب یعتبر حدثا بالمعنی الحقیقی للكلمة. فهو یشكّل أكبر عملیة أرخنة للنصّ القرآنی حصلت حتی الآن. و نقصد بالأرخنة هنا الكشف عن تاریخیة الخطاب القرآنی عن طریق ربطه بالبیئة الجغرافیة و الطبیعیة و البشریة- القبائلیة لشبه الجزیرة العربیة فی القرن السابع المیلادی. و معلوم أن الخطاب القرآنی كان قد برع فی التغطیة علی هذه التاریخیة عن طریق ربط نفسه باستمرار بالتعالی الذی یتجاوز التاریخ الأرضی كلیا أو یعلو علیه.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 22
و التاریخ المعاصرون بنوع من العنجهیة و الغرور (و هذا الموقف المتغطرس موجّه ضد المؤمنین فقط، هؤلاء المؤمنون الذین یرذلون رذلا فی ركن الفئة غیر العلمیة). و لكن لیس هذا موقفی. و لا أرید اختزال الظاهرة الدینیة أو نفی الوحی كما یفعل الكثیرون ...
لما ذا أقول ذلك؟ لأن المؤرّخین و علماء الألسنیات المحدثین یحلّون التفسیر الوضعی و العلموی محل غیره من دون أن یعوا أن النصّ الدینی هو أولا مرجعیة وجودیة إجباریة بالنسبة للمؤمنین. و لكننا لا نستطیع أن ننكر أن هؤلاء العلماء الوضعیین یساهمون فی القیام بأول خطوة منهجیة لا بد منها.
إنّ المبادئ السابقة التی عدّدناها تعنی ضمنیا وجود تعایش بین مستویین من مستویات الوحی، و كثیرا ما یخلط بینهما فی التعبیر الشائع أكثر من غیره: أی كلام اللّه.
نقول ذلك علی الرغم من أن القرآن نفسه یلح علی وجود كلام إلهی، أزلی، لا نهائی، محفوظ فی أمّ الكتاب، و علی وجود وحی منزل علی الأرض بصفته الجزء المتجلّی، و المرئی، و الممكن التعبیر عنه لغویا، و الممكن قراءته «*». و هو جزء من كلام اللّه اللانهائی بصفته إحدی صفات اللّه. هذا التمییز بین نوعین من الوحی أو بین مستویین من الوحی بالأحری موجود فی نظریة المعتزلة القائلة بخلق القرآن. و لكنه عملیا مشطوب أو غائب عن التصوّر الشائع عن القرآن بصفته كلام اللّه، و الوحی، و الكتاب المقدّس، و الشریعة الإلهیة فی وقت واحد.
إنّ الفكرة القائلة بأن الوحی قد أعطی كله من قبل اللّه و أرسل إلی البشر عبر الأنبیاء و الملائكة، أصبحت بالنسبة للیهود و المسیحیین و المسلمین التصوّر العضوی المركزی ل «الدین الحق». ینبغی القول بأن المسلمین یضیفون إلی ذلك أن الآیات المعبّر عنها باللغة العربیة تمثّل الكلام الأصلی و التركیب النحوی و الصرفی لله نفسه. و هو كلام یتحدّث عن جمیع أنماط المخلوقات، و الكائنات البشریة، و العوالم، و الأشیاء المتجذّرة أنطولوجیا فی المبادرة الخلاقة للّه. إنّ هذا التصوّر یؤثّر بشكل صریح أو ضمنی علی جمیع الأبعاد التاریخیة و الثقافیة للمجتمعات التی اعتنقت الإسلام. بهذا المعنی، فإن هذه المجتمعات
______________________________
* هذا التمییز الذی یقیمه أركون بین المستوی المتعالی كلیا للوحی، و بین المستوی المتجلی تاریخیا فی لغة بشریة معینة و من خلال حروفها و أصواتها، و نحوها و صرفها، أمر بالغ الأهمیة. فالمستوی الأول لا یمكن أن یصل إلیه أی بشری و لا حتی الأنبیاء لأنه یمثّل «أمّ الكتاب»، أو «اللوح المحفوظ» عند اللّه فقط. و أما المستوی الثانی الذی تجلّی للبشر فی الحیاة الأرضیة فهو ذو بعد تاریخی علی الرغم من استلهامه المستوی الأول، و هو یتجسّد فی المصحف، أو فی التوراة، أو فی الانجیل. إنه یمثّل كلام اللّه المخلوق كما تقول المعتزلة. و لكن بما أن أطروحتهم سقطت أو هدمت تاریخیا، فإن المسلمین راحوا یخلطون كلیا بین كلا مستوی الوحی، و راح القرآن یفقد طابعه التاریخی بشكل كامل.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 23
یمكن أن تحلّل أو تدرس و تفهم بصفتها مجتمعات الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی «1».
و هذه المجتمعات من یهودیة، و مسیحیة، و إسلامیة تتصوّر نفسها علی أساس أنها مقودة من قبل اللّه، و منظّمة و محكومة طبقا لشرع اللّه الموحی فی الكتاب المقدس. و هذا الكتاب المقدس محمیّ و مدعوم من قبل الخلیفة، أو السلطان، أو الملك، أو الأمیر المحلّی، أو الامبراطور، أو البابا. كما أنه منطوق و مفسّر بواسطة اللّغات الكهنوتیة للحاخامات، أو الكهنة، أو علماء الدین (رجال الدین)، فی ما یخصّ الإسلام. و فی كل تعالیمه المعیاریة نلاحظ أنّ الكتاب المقدس مستوعب أو مدموج فی كلا مستوییه: الكتاب السماوی الذی یقابله فی اللغة المسیحیة الأب و الروح القدس، و مستوی الكتاب المادی، المتجسد كتابة فی مجلّد كالتوراة، و الانجیل، و القرآن، و هو یحتوی علی «كلام اللّه الموثوق» الذی أصبح فی متناول الناس من خلال اللّغات البشریة.
بعد أن وصلنا فی الحدیث إلی هذه النقطة ینبغی أن نوضّح مسألة لاهوتیة.
فالمسیحیون یرفضون المطابقة بین مكانة التوراة و الانجیل من جهة، و بین یسوع المسیح من جهة أخری. لما ذا؟ لأن یسوع المسیح هو ابن اللّه: لیس بالمعنی النسبیّ البیولوجی المدان من قبل القرآن، و إنما بمعنی اللّه مجسدا علی الأرض فی شخص بشری هو یسوع الناصری.
أما المسلمون فیرفضون للسبب نفسه إقامة مطابقة بین المكانة الإلهیة للقرآن و بین المكانة البشریة و النسلیة لعیسی ابن مریم «*». و إذا ما واصلنا هذه المقارنات فإننا سنقول بأن محمدا ابن عبد اللّه یتخذ المكانة المحددة له فی نسبه الاجتماعی و السیاسی المعروف، تماما كما یتحدث القرآن عن عیسی ابن مریم مشدّدا علی طبیعته الجسدیة الدمویة و منكرا المكانة اللاهوتیة التی یخصّصها له المسیحیون. و بحسب ما تقول نظریة جمالیات التلقّی «**»
______________________________
(1) فی ما یخص هذا المفهوم، انظر دراستی التالیة: «مفهوم مجتمعات الكتاب المقدس/ الكتاب العادی».
و هی دراسة منشورة فی كتاب جماعی صدر عام 1991:a Interpreter .Hommage :Collectif Ouvrage 1991،Cerf ed .Le ،Paris ،Geffre Claude ؛ و كذلك القسم الأخیر من هذا الفصل (ص 80 و ما بعدها).
* هنا ینبغی أن ندخل فی المقارنات و التفاصیل الدقیقة الشدیدة الأهمیة. فالذی یقابل المسیح لدی المسلمین لیس هو النبی محمد علی عكس ما نتوهم، و إنما هو القرآن. لما ذا؟ لأن المسیح لدی المسیحیین أكثر من نبی، علی عكس محمد الذی هو نبی فقط،. بل و بشر. أما یسوع المسیح فقد تجسّدت فیه كلمة اللّه، أو الأب و الروح القدس. و بالتالی، فله طبیعة فوق بشریة، أی إلهیة، تماما كالقرآن. هكذا نجد أن اللّه تجسّد لدی المسیحیین فی شخص بشری هو عیسی ابن مریم، و تجسّد لدی المسلمین فی نص لغوی هو القرآن.
هنا تكمن فائدة تاریخ الأدیان المقارن الذی یوضّح لنا ظاهرة التقدیس التی تبقی واحدة فی كل الأدیان علی الرغم من اختلاف تجلیّاتها.
** نظریة جمالیات التلقّی‌reception la de Theorie هی إحدی النظریات السائدة حالیا فی مجال النقد الأدبی. و یعتبر الناقد الألمانی هانز روبیر یوس‌Jauss Robert Hans ، زعیم هذه المدرسة التی تدعی ب «مدرسة كونستانس» لأنها اشتهرت فی جامعة هذه المدینة الالمانیة (یوس معاصر لنا، و قد
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 24
المعروفة فی النقد الأدبی، فإن الشی‌ء الذی یقابل یسوع المسیح فی الإسلام هو القرآن بصفته الكتاب المقدّس الذی یحتوی علی كلام اللّه الموحی به. و أما یسوع المسیح بصفته تجسیدا لكلمة اللّه، فإنه یشبه المصحف الذی تجسّد فیه كلام اللّه.
إن هذه المقارنات التشبیهیة تعتبر صحیحة و متینة بالنسبة للمؤرّخ المحترف، و عالم الاجتماع، و عالم الانتربولوجیا. و لكنها حتما مرفوضة من قبل المؤمنین الذین تربّوا علی لغة جوهرانیة مثالیة، و سیظلّون مخلصین لها أو متعلّقین بها ما داموا لم یكتشفوا بعد الاستخدام النقدی و التحلیلی و التفكیكی للّغة. فی الواقع، إن هذا التعارض بین الجانبین یعود إلی ما دعاه مؤرّخو الفكر بالتغیّر المعرفی و القطیعة الابستمولوجیة. و هذا ما یفسّر لنا سبب وجود معركة مستمرة بین اللاهوتیین حول الرمز و المجاز. بمعنی: هل ینبغی أن نقرأ خطاب الوحی بشكل حرفی أم بشكل مجازی؟ كان المذهب الحنبلی قد فرض فی الإسلام الرفض القاطع لكل تفسیر مجازی لكلام اللّه، غیر عابئ بانعكاسات مثل هذا الموقف علی قضیة أخری أكثر كونیة و عمومیة، و أقصد بها مسألة التداخل بین اللغة و الفكر. إن الموقف الأصولی المتشدد فی الأدیان یحیلنا إلی ذلك الخیار الفلسفی المتعلق بمنشإ المعنی من خلال التفاعل بین اللغة و الفكر. فالفضاء الواسع و الغنی الذی فتح من قبل كلام اللّه الموحی من أجل مفكّر فیه متجدّد باستمرار، كان قد أغلق و اختزل إلی ما ندعوه ب المستحیل التفكیر فیه». و هذا ما حصل بالضبط مع المناقشة التی فتحها مفكّرو المعتزلة. سوف نری أیضا كم هو مخطئ رأی أولئك المؤرّخین الذین یتحدثون فقط عن دور الممكن التفكیر فیه فی التطوّر التاریخی لتراث فكری ما. و عند ما نعترض علی موقفهم یقولون لنا بأنهم لا یمتلكون أی وثیقة مكتوبة عن المستحیل التفكیر فیه لكی یدخلوها بصفتها عنصرا مشكّلا من عناصر الأنظمة و الأفكار المدروسة. هذا و سوف نتحدث بشكل مفصّل أكثر عن هذه المسألة الأساسیة فی الفقرات التالیة.
لا یمكن تأسیس تاریخ مقارن للأنظمة اللاهوتیة إذا ما رفضنا القیام بتحلیل الاستراتیجیات المعرفیة السائدة داخل كل تراث دینی علی حدة. و هی استراتیجیات تهدف إلی ترقیة الذات أو تمجید الذات، ثم اعتقاد كل طائفة دینیة بأنها تمتلك وحدها النسخة الموثوقة، و الصحیحة، و الكاملة، عن الحقیقة الموحی بها (أو حقیقة الوحی). هذا ما ولد عام 1921). و هو یسیر بعكس النقد الأدبی المألوف: فبدلا من أن ینطلق من المؤلّف أو من العمل الأدبی ذاته، فإنه ینطلق من القرّاء الذین تلقّوه أو استقبلوه أو قرءوه. و هكذا یدرس الجمهور القارئ و التأثیرات الجمالیة التی یحدثها هذا العمل فی الجمهور. من هنا جاء اسم:
جمالیات التلقی فمثلا كیف أثّر دیوان أزهار الشر لبودلیر فی جمهور عصره و فی جمهور الأجیال التالیة؟ و من أهم كتب یوس المترجمة إلی الفرنسیة كتاب: من أجل جمالیات التلقی:une Pour . 8791،Gallimard ،Paris ،reception la de esthetique P
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 25
تعتقده الطائفة الیهودیة، و الطائفة المسیحیة، و الطائفة الإسلامیة ... و كل طائفة تحذف ما عداها.
إننی إذ أقول هذا الكلام، لا أقصد أن الاختیارات و الانتفاءات التی یقوم بها كل تراث دینی تؤدی فقط إلی نتائج سلبیة. فلا أحد یستطیع أن ینكر خصوبة الموضوعات اللاهوتیة الكبری المختارة من قبل المسیحیة. و أقصد بها: تجسد اللّه بشكل أرضی أو تجسّده فی المسیح، أی اتحاد الصفتین اللاهوتیة و الناسوتیة فیه. كما و أقصد بهذه الموضوعات اللاهوتیة الكبری موضوع الافتداء أو التخلیص من الخطیئة: أی خلاص البشر علی ید المسیح. و كذلك موضوع البعث، و الصلب، و القربان المقدس. أما الخط التوحیدی المدافع عنه من قبل الإسلام، فله أیضا غناه الخاص و المبتكر. و لكن طیلة قرون و قرون كان كل تراث یحوّل الخیارات اللاهوتیة المعتمدة من قبل «العدو» إلی مماحكات جدالیة. و كل تراث راح یبقی فی دائرة «المستحیل التفكیر فیه» أفضل ما علّمه «الآخر»، أو كل ما علّم بصفته «المفكّر فیه» الأثمن و الأرفع من قبل الآخر. و لو أتیح لنا أن نكتب التاریخ المقارن للأنظمة اللاهوتیة المبلورة من قبل كل طائفة، لكنا انتهینا من ضرورة إعادة التفكیر بجمیع القضایا المتعلقة بالحقیقة الدینیة، و الوحی الصحیح/ أو المزیّف و المحرّف، و التراثات الحیّة بمعجمها اللفظی الجوهرانی المثالی المستخدم من قبل الفكر اللاهوتی و الأنظمة المیتافیزیقیة الكلاسیكیة فی آن معا. و هی أنظمة تعود إلی أفلاطون و أرسطو و أفلوطین و أتباعهم العدیدین علی مرّ العصور.
علی هذه القواعد أو الأسس النظریة سوف نستمر فی وصفنا الفینومینولوجی (الظاهراتی) للوقائع و الحقائق. أیّا تكن القناة الأصلیة أو الناقل الأصلی للوحی الأوّلی، فإننا نلاحظ أن التلفّظ الشفهی به كان قد نطق أولا من قبل وسیط. و هذا الوسیط فی حالة الإسلام یدعی الرسول أو النبی؛ و فی حالة المسیحیة یدعی تجسید اللّه علی الأرض أو یسوع المسیح. إنه شخص یتوسّط بین اللّه و الجنس البشری. ثم سجّل هذا الوحی كتابة فیما بعد علی الرق أو الورق لكی یصبح كتابا عادیا یمكننا أن نخزّنه، أو نفتحه، أو نقرؤه و نفسّره. و هذا الكتاب نفسه أصبح من خلال سیرورة تاریخیة: «الكتابات المقدسة». و هذا یعنی أنه قدّس أو خلعت علیه أسدال التقدیس بواسطة عدد من الشعائر و الطقوس، و التلاعبات الفكریة الاستدلالیة، و مناهج التفسیر المتعلّقة بالكثیر من الظروف المحسوسة المعروفة أو التی تمكن معرفتها، و أقصد بها الظروف السیاسیة، و الاجتماعیة، و الثقافیة.
و هكذا تمّ تحویل كلام اللّه المتمثّل بنطقه الشخصی ذاته و بصفته أزلیا، أبدیا، متعالیا، لا نهائیا و غیر قابل للاستفادة من قبل أی جهد بشری، إلی كتاب عادی مادّی نلمسه بالید و نتحسّسه و نفتحه و نقرؤه ... و لكنه یتمتع فی الوقت عینه بمكانة «لاهوتیة» بصفته «كتابات مقدّسة»، و شرعا مقدّسا (أی قانون مقدّس و شریعة)، و أخلاقا مقدّسة، و معرفة متعالیة أو
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 26
تخلع التعالی علی الأشیاء. و هناك مشاكل عدیدة ینطوی علیها مثل هذا التحویل. فالعملیة التحویلیة و الأسالیب اللغویة و الأدبیة و البلاغیة التی كانت قد استخدمت من أجل خلع الصبغة التنزیهیة و التقدیسیة و المتعالیة و الأنطولوجیة علی الكتاب كانت قد أوضحت و برهن علیها علمیا فی ما یخصّ التوراة و الأناجیل، و لكنها لم تحصل حتی الآن فی ما یخصّ القرآن. لما ذا؟ لأن الظروف السیاسیة و الثقافیة و التربویة السائدة تحول دون القیام بمثل هذا العمل فی كل السیاقات الإسلامیة (أی فی جمیع المجتمعات العربیة و الإسلامیة).
نحن نری من خلال هذه المصطلحات اللاهوتیة كیف یمكن أن نصل إلی المقولات أو التحدیدات الرمزیة الأساسیة من مثل: كلام اللّه السماوی، أو التجسید/ أو نطق اللّه المنقول عبر شخص بشری أو لغة مختارة و مصطفاة، أو توصیل كلام اللّه إلی البشر عبر وسیط. و هی مقولات رمزیة كانت قد بلورت فی سیاقات ثقافیة مختلفة، و مصحوبة بأنظمة لغویة مختلفة للإیحاءات الدلالیة (فی العربیة و العبریة و الآرامیة من جهة، ثم الإغریقیة و اللاتینیة من الجهة الأخری). و هذه الأنظمة اللغویة هی التی تمیّز الطوائف عن بعضها البعض عن طریق التمایز فی النماذج الدینیة. و هذا ما یقودنا إلی استخلاص الدروس الحاسمة التالیة:
إنّ الأنظمة اللاهوتیة تستمر فی إهمال المقولات الانتربولوجیة و الجانب التاریخی الظرفی من السیاقات الاجتماعیة و الثقافیة و السیاسیة التی كانت قد رسّخت فیها الحقائق «الإلهیة»، المعصومة و المقدسة و العقائدیة. و من وجهة النظر هذه یمكن القول بأن الأنظمة اللاهوتیة تملأ الوظیفة الایدیولوجیة نفسها التی یملؤها جدار برلین. نقول ذلك علی الرغم من أنها یمكن أن تزود الطوائف الدینیة، بل و تزودها فعلا من بعض النواحی بثقافة رمزیة مخصبة، و مقوّیة، و مقتدرة.
بالطبع، إن الجدران تظل صلبة و قائمة بین الطوائف كالحجاب الحاجز لأننا لم نبلور بعد الاستراتیجیات المعرفیة المناسبة من أجل هدمها، ثم من أجل استكشاف الفضاء الانتربولوجی و الثقافی و الفلسفی الحقیقی «*». أقصد فضاء التفسیر للثقافات و التراثات، و الذی یفسّر لنا جمیع الأنظمة الرمزیة للتصوّر سواء أ كانت موروثة عن الماضی، أم
______________________________
* یقصد أركون بجدار برلین القائم بین الیهود و المسیحیین و المسلمین، ذلك الحجاب الحاجز الذی یمنعهم من التواصل و الحوار، كما كان جدار برلین یمنع العالم الشیوعی، و العالم اللیبرالی الغربی عن التواصل و الحوار. فمتی سینهار «جدار برلین» بین الدیانات التوحیدیة الثلاث الكبری؟ لا ریب فی أن ملتقیات الحوار الإسلامی- المسیحی تلعب دورا إیجابیا فی هذا المجال. أما مسألة الحوار الإسلامی- الیهودی فلا یمكن أن تنطلق قبل أن یحلّ النزاع العربی- الإسرائیلی. و لكن ملتقیات الحوار هذه و ندواته و مؤتمراته لیست كافیة فی نظر أركون. لما ذا؟ لأنها لا تطرح المشاكل بشكل جذری عمیق، و لا تؤدی إلی تفكیك الأنظمة اللاهوتیة أو الجدران الطائفیة التی تفصل بین أتباع هذه الأدیان الثلاثة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 27
حاضرة، أم مستقبلیة. و لكن ما ذا نلاحظ؟ أن الجدران لیس فقط تظل قویة، و إنما هی تزداد قوة و صلابة، بل و یعاد بناؤها إذا جاز التعبیر، و ذلك تحت تأثیر ثلاثة أحداث عظمی حصلت فی القرن العشرین. هذه الأحداث هی: كارثة المحرقة (الهولوكوست) التی لا یمكن غفرانها؛ الإلحاد الرسمی المفروض من قبل النظام الشیوعی طیلة سبعین سنة، و تأسیس دولة إسرائیل علی ید الدول الأوروبیة الاستعماریة و العلمانیة مع إهمالها لمسألة التمركز الكثیف للتجلّیات الدینیة أو الرمزیة المتصارعة فی الأرض المقدسة، أو أرض المیعاد، أو أرض المقدسات الثلاثة، أو الذاكرات الجماعیة التقدیسیة (أی التی تخلع التقدیس علی الأشیاء). أقصد بذلك أن الأدیان التقلیدیة كانت قد استخدمت و لا تزال تستخدم حتی الآن كملاذ سیاسی، و احتمالا كوسیلة أو كقاعدة انطلاق من أجل الاستیلاء علی السلطة. و ما دام هذا الضغط التاریخی واقعا علی الأدیان، فإن أكثر الأنظمة اللاهوتیة انفتاحا، و أعظم العلوم استنارة لن ینجحا فی موازنة تأثیر التصورات الدینیة الطائفیة بصفتها قوة إیدیولوجیة محرّكة للجماهیر. و هكذا نلتقی بمسألة نظریة أخری، و سوف أطرحها علی النحو التالی: هل یمكننا أن نتوصل فی یوم من الأیام إلی تحریر الخطاب الدینی بشكل عام، و الخطاب المنعوت و المتلقّی علی أساس أنه وحی بشكل خاص، من وظیفتیهما بصفتهما نطقا و تعبیرا عن سیادة اللّه المنقولة إلی سلطة الملك، أو الامبراطور، أو الخلیفة، أو السلطان، أو الرئیس؟
بعد أن وصلت فی الحدیث إلی هذه النقطة ینبغی أن أوضح للقارئ ما الذی سأفعله الآن بالضبط. أنا أخرج الآن أو أتخلّص من، نظام فكری قدیم من غیر أن أبالی بانعكاسات ذلك علی دینی و تضامناتی التاریخیة و الثقافیة مع طائفتی الإسلامیة. و لكنی أعرف أن جمیع الطوائف الدینیة الأخری من یهودیة و مسیحیة معنیّة تماما، و بالدرجة نفسها، بالمسائل النظریة التی أثیرها الآن فی ما یخصّ مفهوم الوحی. فهذه المسائل تشكّل تحدیا أو ربما استفزازا للجمیع.
أقول ذلك و نحن نعلم أن مفهوم الوحی كان قد بسّط، و ضیّق، و حطّ من قدره، ثم أخیرا هجر من قبل العقل العلمی المستنیر و ترك ل «مسیری أمور التقدیس»، أی لرجال الدین فی كل طائفة أو ملّة «*». ما سأفعله أنا الآن یتمثّل فیما یلی: إننی أزحزح المسائل القدیمة فی اطار معقولیتها الانغلاقیة، الثنویة، الحرفیة، الجوهرانیة، أو الفیلولوجیة، التاریخویة، الوضعیة، العلمویة، إلی إطار آخر مختلف تماما و أوسع بكثیر. إننی أزحزحها إلی إطار
______________________________
* كان عالم الاجتماع الالمانی ماكس فیبر هو الذی اخترع مصطلح «مسیری أمور التقدیس» أو المشرفین علی شئون التقدیس، و یقصد بهم رجال الدین. و فیبر یتحدث عن الدین كظاهرة سوسیولوجیة، أی منتشرة فی الشعب و مهیمنة علی عقله.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 28
الأشكلة التعددیة «*» و المتنوعة الوجوه لمفهوم الوحی المعقد جدا و الذی لم یفكّك بعد.
أقصد مفهوم الوحی بصفته مرجعیة إجباریة مشتركة لدی كل مجتمعات الكتاب المقدس/ الكتاب العادی.
من المهمّ أن نبیّن كیف أن جمیع الخطابات المشتقة من كلام اللّه الموحی و الهادفة إلی تفسیر أوامره و وصایاه و تطبیقها، قد ساهمت فی تشكیل البنی الانتربولوجیة للمخیال الدینی، السیاسی، الاجتماعی. إن تفكیك هذه البنی یقع علی كاهل المؤرخ المحترف القادر علی الحفر و التنقیب عن العملیات النفسانیة، و الثقافیة و السیاسیة الناتجة عن تأثیر الوحی، و المتواصلة عبر التنافس المتكرر للفاعلین الاجتماعیین «**» فی مجالین مترابطین:
مجال البحث عن المعنی، و مجال إرادة القوة و الرغبة فی الهیمنة «1». و كان عزیز العظمة قد انتهی للتوّ من تقدیم تحلیل دقیق و مناسب لهذه العملیة التاریخیة المتواصلة فی مختلف حضارات الشرق الأدنی و الموسّعة لكی تشمل منطقة حوض البحر الأبیض المتوسط، و ذلك فی ما دعاه بالدول الإسلامیة، و المسیحیة و الوثنیة «2».
______________________________
* الأشكلةProblematisation تعنی جعل الشی‌ء إشكالیا بعد أن كان یبدو بدیهیا أو تحصیل حاصل.
فالوحی مثلا، من لا یعرف الوحی؟ كلنا نتوهم أننا نعرف ما هو، و لكننا فی الواقع حفظنا قصته التقلیدیة عن ظهر قلب منذ أن كنا أطفالا. ثم یجی‌ء محمد أركون لكی یؤشكله، أی لكی یجعله إشكالیا، و یقدم عنه صورة جدیدة تماما. هذا هو معنی الأشكلة. و هنا مصطلح آخر ینبغی أن ننتبه إلیه هو مصطلح الزحزحة.deplacement فأركون یزحزح أولا المفهوم عن موقعه التقلیدی الراسخ، ثم یفككه ثانیا، لكی یتجاوز معناه التقلیدی الراسخ ثالثا.
** «الفاعلون الاجتماعیون»sociaux acteurs les مصطلح سوسیولوجی یعنی البشر بكل بساطة، أو البشر العائشین فی المجتمع. و ككل المصطلحات السوسیولوجیة، فإنه یبدو باردا، جافا، موضوعیا. و معلوم ان البشر یتنافسون علی شیئین أساسیین: المال و السلطة، أو المعنی و الخیر.
فالانسان یتنازعه دافعان: دافع القوة و التوسع و التسلّط علی الآخرین؛ و دافع المحبة و فعل الخیر و زیادة المعنی الإبداعی أو الأخلاقی فی هذا الوجود. و بالتالی، فهناك صراع علی مدار التاریخ بین إرادة القوة و التسلّط، و إرادة المعنی. أحیانا تتغلّب هذه علی تلك، و أحیانا یحصل العكس.
فالانسان لیس ذئبا كله، و لیس ملاكا كله، و إن كانت نسبة الذئب فی بعضهم أكبر بكثیر من نسبة الملاك. لكأن مسیرة التاریخ كلها تتلخص بقصة الصراع بین الخیر و الشر.
(1) انظر بحثی المنشور بالانكلیزیة تحت العنوان التالی: «الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنی و إرادة القوة». بحث منشور فی كتاب جماعی صدر فی لندن عام 1998:،Europe ،Islam ¬:M .Arkoun Modernity .Muslim and Islam :in ، «Powerto Will the and Stake at west .Meanings the . 8991،I .B .Tauris ،London ،Respond Intellectuals
(2) انظر كتاب عزیز العظمة الذی یحمل العنوان التالی: الملكیّة الإسلامیة: دور السلطة و المقدّس فی النظم السیاسیة الإسلامیة و المسیحیة و الوثنیة.Sacred the and Power ،Kingship Muslim :Al -Azmeh Aziz . 7991،I .B .Tauris ،London ،Polities Pagan and Christion ،Muslim .in
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 29
عند ما أقول المخیال، أو أستخدم مصطلح المخیال، فإنی لا أرید أن أفرّغ نموذج العقلانیة المستخدمة فی كل تراث دینی من أی وجهة نظر عقلانیة. و إنما أرید بالأحری إدخال مقولة انتربولوجیة لكی أفسّر كیف أن تصور الوقائع، و كل اللغات اللاحقة المستخدمة للدلالة علی هذه الوقائع، قد نقل من إطار التحلیل العقلانی إلی الدائرة الخیالیة للتصوّرات العقلیة و التعلّق العاطفی. إن الخیال، علی طریقته، هو ملكة من ملكات المعرفة. ان المخیال یساهم فی هذه الفعالیة بصفته وعاء من الصور و قوة اجتماعیة ضخمة تكمن مهمتها فی إعادة تنشیط هذه الصور بصفتها حقائق رائعة، و قیما لا تناقش، تكون الجماعة مستعدة لتقدیم التضحیة العظمی من أجلها. إن أعضاء الجماعة الذین ماتوا من أجل القیم المشتركة یصبحون شهداء و یضیفون بذلك أبعادا تقدیسیة و تنزیهیة إلی هذه القیم.
و عبر هذه العملیة التاریخیة و الاجتماعیة و النفسانیة تغتنی الذاكرة الجماعیة، و یمتحن المخیال الاجتماعی و یظل حیا.
و لكن التحدید المناسب و النقدی و العقلانی للرهانات الحقیقیة المنخرطة فی التاریخ الفعلی للجماعة تكون قد قلّصت أهمیته، و حجبت، و أجّلت. إن التجدید المعرفی و الابستمولوجی الذی أقترح مدّه لكی یشمل التراث الإسلامی كان قد طبق سابقا علی التراث الیهودی- المسیحی. و لكن هذا التجدید لا یزال یؤجّل و یرفض بل و یحرّم عند ما یتعلق الأمر بإدراج الوحی نفسه داخل برنامج البحث. یقول عزیز العظمة: «ما یجدر ذكره هنا هو نطاق الحضارة القدیمة المتأخرة لمنطقة الغرب الآسیوی المتوسطی (أو الشرق الأدنی). فقد كان لهذا النطاق الحضاری تماسكه الملحوظ من حیث التواصلیة المكانیة و الزمانیة. و هذا النطاق كان مشكّلا من قبل التصوّرات و المؤسسات و النظم الهلنستیة و الرومانیة- البیزنطیة. و هذه التصوّرات و المؤسسات و النظم كانت متناغمة جدا مع ما یدعی بالمفاهیم الشرقیة المتعلقة بالنظام الملكی و الألوهة (أو اللّه). و هی مفاهیم كانت شائعة أو منتشرة فی منطقة الشرق الأوسط القدیم لدی الفرس و البابلیین، ثم إلی حد ما قبلهم لدی المصریین ...» (عزیز العظمة، مصدر مذكور سابقا، ص‌x (.
قبل أن نواصل طریقنا للتحدّث عن التحوّلات المتلاحقة التی طرأت علی التراث الإسلامی، دعونا نستبصر الأمور أكثر حول مفهوم الوحی انطلاقا من القرآن نفسه. فمن المعلوم أن هذا المفهوم سوف یتلاعب به لا حقا من قبل أشخاص مأذونین (أو أكفیاء)، و غیر مأذونین مع الكثیر أو القلیل من استخدام الأسئلة و الأدوات و المناهج الملائمة و ذلك لتلبیة أغراض شتی. كنت قد وضّحت ذلك فی مقالات عدیدة سابقة جمعت فی كتابی قراءات فی القرآن (الطبعة الثانیة، تونس، 1991). أما هنا فسوف أتخذ كمثال تطبیقی للتحلیل سورة العلق لأنها تتیح لنا أن نكتشف مقدارا أكبر من الوقائع و التحدیدات الواردة فی التراث الإسلامی الارثوذكسی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 30

سورة العلق‌

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِی خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ یَعْلَمْ. كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَیَطْغی. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی. إِنَّ إِلی رَبِّكَ الرُّجْعی. أَ رَأَیْتَ الَّذِی یَنْهی. عَبْداً إِذا صَلَّی. أَ رَأَیْتَ إِنْ كانَ عَلَی الْهُدی. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوی. أَ رَأَیْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّی. أَ لَمْ یَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ یَری. كَلَّا لَئِنْ لَمْ یَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِیَةِ. ناصِیَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. فَلْیَدْعُ نادِیَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِیَةَ. كَلَّا لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ.
بحسب ما یقول التفسیر الاسلامی الموروث، فإن هذه السورة، التی تحتل الرقم 96 فی المصحف، هی فی الواقع أول وحی نقل الی محمد فی جبل حراء من قبل الملاك جبریل الذی یطابقون بینه و بین الروح القدس. فقد سأله ثلاث مرات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ! و محمد یجیب: «ما أنا بقارئ»! و نمتلك فی هذه القصة روایة أدبیة عن العملیة المستخدمة لنقل الوحی من اللّه إلی الناس عبر محمد. فجبریل یتردد باستمرار بین اللّه (أی السماء) و محمد (أی الأرض) لكی یجلب الوحی، تماما كما كان یفعل سابقا مع یسوع و بقیة أنبیاء التوراة. و هكذا یضمن الملاك جبریل عن طریق وجوده صحة أو موثوقیة الوحی المنقول علی طول الخط بدءا من آدم و انتهاء بمحمد.
یوجد فی التراث الإسلامی شی‌ء یدعی «قصص الأنبیاء»، و هی تحتوی علی العدید من القصص. و نخصّ بالذكر منها تلك التی جمعها یهودیّان اعتنقا الإسلام و هما: كعب الأحبار، و وهب بن منبه. و هذه القصص العدیدة تشكّل الخلفیة الاسطوریة التی تفسر لنا سبب نزول كل آیة من آیات القرآن (و الآیة هنا تعنی القطعة الشفهیة أو ما یدعوه علماء الألسنیات بالوحدة النصّیة). إن هذه القصص تبیّن لنا العلاقة القویة بین تفاسیر القرآن، و بین المخیال الدینی الذی ساد طیلة القرون الهجریة الثلاثة الأولی فی «الوسط الطائفی» «1» لمنطقة الشرق الأدنی. إن معنی العجیب المدهش أو الخارق للعادة بصفته مقولة نفسانیة- ثقافیة، منتشر فی جمیع هذه القصص و منعكس (أو مسقط) علی الخطاب القرآنی نفسه.
و حتی الیوم نلاحظ أن تصوّر الوحی لا یزال مهیمنا علیه من قبل هذا المعنی الخارق للعادة بصفته الأرضیة الثقافیة القاعدیة «2» التی ترتكز علیها المعرفة الاسطوریة التی یدعوها المؤمنون بالحقیقة الدینیة.
______________________________
(1) هذا هو عنوان كتاب المستشرق ج. وانسبرو الصادر عام 1978. و هذا الكتاب بالاضافة إلی كتابه الآخر:
دراسات قرآنیة، الصادر عام 1977، مفید جدا لموضوعنا، و له به علاقة وثیقة:- 1:J .Wansbrough . 7791،Press University ،Oxford ،Studies -Quranic 2؛ 1978،Press University Oxford ،Milieu .Sectarian
(2) أشیر هنا إلی دراستی التی تحمل العنوان التالی: «هل نستطیع أن نتحدث عن العجیب المدهش، أو الساحر الخلّاب فی القرآن؟» و هی دراسة بالفرنسیة منشورة فی كتابی: قراءات فی القرآن، الصادر فی-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 31
إن سورة العلق نفسها توحی لنا بالموضوعات الكبری للوحی و لكیفیة التركیبة اللغویة (أو التمفصل اللغوی) لخطابه. فاللّه یتبدّی و كأنه الذات الفاعلة الأساسیة. فهو الذی ینظّم نحویا، و بلاغیا، و معنویا الخطاب كله. و لكن یوجد هناك فاعلان أو لاعبان اثنان فی الساحة: الأول هو النبی الذی وجّه إلیه الأمر، و الثانی هو الانسان الذی یمثّل الهدف النهائی أو المخاطب الأخیر الذی وجّهت إلیه المبادرات أو الأوامر و الوصایا المعبّر عنها فی القرآن بواسطة العدید من الأفعال. إن البنیة النحویة أو القواعدیة للسورة تدلّ علی العلاقات الكائنة بین الضمائر الشخصیة: أی بین نحن، لك أو خاصتك (محمد)، أنتم (أی المؤمنین)، هم (أی الناس)، أو هو (أی الانسان). إن شبكة الضمائر هذه و العلاقات الكائنة بینها هی التی تؤسّس الفضاء الأساسی المتواصل و المنتظم للتواصل و المعنی فی كل الخطاب القرآنی من أوله إلی آخره.
إنّ كل القصص، و الأحكام أو المعاییر، و الموضوعات، و المجادلات، و الایضاحات، و التعالیم، و الأحداث المعبّر عنها خلال عشرین سنة بصفتها كلام اللّه مركّبة نحویا من خلال مراتبیة هرمیة صارمة تدور حول شخصین: الأول هو اللّه الذی یمثل الأصل الانطولوجی و المرجع النهائی لجمیع المخلوقات، و النشاطات، و المعانی، و الأحداث التی تقع علی هذه الأرض؛ و الثانی هو النبی أو الرسول محمد الذی یمثّل الوسیط بین اللّه و الانسان. أما الانسان فهو المخلوق الذی اصطفاه اللّه. و هو مدعو لأن یخضع أو یسلّم حیاته إلی اللّه. و نلاحظ عند ما نتمعّن فی الخطاب القرآنی أنه یوجد توتر دائم بین اللّه (المعبّر عنه بالضمیر «نحن») و بین الانسان/ أو الناس (المعبّر عنهما بالضمیرین «هو»، «هم»). و المقصود بالوحی أن یقود الانسان و یهدیه إلی الصراط المستقیم أو «النهج القویم» الذی یقود فی النهایة إلی النجاة الأبدیة فی الدار الآخرة. أما أولئك الذین یواجهون اللّه بالعصیان أو التمرد فقد وجّه إلیهم الخطاب عن طریق ضمیر الغائب لكی یرعووا أو یفهموا بشكل أفضل مكانتهم و مصیرهم المحدد. إن هذا الوضع لا یعبّر عن تعارض ثنائی بین قطبین، و إنما عن جدلیة مستمرة من التوتر الصراعی الذی ینبثق من خلاله الوعی بالذنب و الخطیئة. و عندئذ یحوّل الانسان إلی وعی، و ذات مفكرة مسئولة أخلاقیا و شرعیا. إنه مسئول عن كل فكرة، أو كل عمل، أو كل مبادرة تصدر عنه فی حیاته.
ینبغی أن نضیف إلی التحلیل النحوی (أو القواعدی) ثلاثة جوانب كبری من الخطاب القرآنی. و هذه الجوانب هی: 1) تركیبته المجازیة؛ 2) بنیته السیمیائیة أو
______________________________
- باریس عام 1982، ثم فی تونس فی طبعة ثانیة عام 1990:de parler Peut -on ((:M .Arkoun e 2؛ 1982،Larose et Maisonneuve ،Paris ،.lered ،Coran du Lectures :in ) )؟Coran le dans merveilleux . 0991،Tunis ،..ed
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 32
الدلالیة؛ 3) تداخلیّته النصّانیة (أو البین نصوصیة. أی علاقة النصّ القرآنی بالنصوص الأخری أو تداخله معها). و سوف نفصّل حالا الحدیث فی كل هذه القضایا.
هنا أیضا نلاحظ أن مثال القرآن كان قد أهمل كثیرا سواء من قبل المفكّرین المسلمین، أم من قبل التبحّر الأكادیمی الاستشراقی (أو المستشرقین). فلا توجد إلّا محاولات قلیلة جدا لتطبیق أدوات الألسنیات الحدیثة و مفاهیمها علی الخطاب القرآنی، من دون تقدیم أی تنازل للمعجم اللاهوتی القدیم. أما التفسیر الارثوذكسی فلا یزال محصورا بالتحدید التقلیدی للمجاز بصفته مجرد وسیلة بلاغیة هدفها تحلیة الاسلوب أو تجمیله.
و هذا التفسیر یأخذ كلمات القرآن علی حرفیّتها و بحسب المعنی القاموسی. و لا یأخذ بعین الاعتبار الدلالات الحافّة أو المحیطة (أی ظلال المعانی) عند ما یفسّر القرآن «*». و من المعلوم أن الناقد نور ثروب فرای‌N .Frye كان قد درسها بالنسبة للتوراة و الأناجیل باعتبارها تمثّل الرمز الكبیر (أو القانون الكبیر، أو الشیفرة الرمزیة الكبری). و نلاحظ
______________________________
* هناك مصطلحان فی علم الالسنیات الحدیثة: مصطلح الدلالات الحرفیة أو القاموسیة للنص‌denoiaiion ، و مصطلح الدلالات الحافّة أو المحیطة بالنص:.connotation و التفسیر الإسلامی لا یأخذ إلّا بالمعنی الحرفی و یهمل المعنی الثانی. أما فی ما یخصّ الناقد الكندی الكبیر نور ثروب فرای فیمكن أن نقول ما یلی: ولد فی تورنتو عام 1912 و فیها مات عام 1990. و من أشهر كتبه بالاضافة إلی تشریح النقد، كتاب بعنوان: الرمز الكبیر- الكتاب المقدس و الأدب (الترجمة الفرنسیة، 1984) مع مقدمة لتزفتان تودوروف. و فیه یری المؤلّف أن كل أدب هو عبارة عن تشغیل أو توظیف لأسطورة ما، أی لنظام لفظی للثقافة الخاصة بالمجتمع. و الاسطورة الغربیة مهیمن علیها من قبل الأساطیر التوراتیة و الإنجیلیة المقدسة بالنسبة للیهود و المسیحیین و التی عرفت كیف تستوعب أو تدمج بعض العناصر من الأساطیر السابقة أو المعاصرة لها (أی أساطیر البابلیین و الآشوریین و المصریین و حضارات الشرق الأوسط القدیمة بشكل عام). و بالتالی، فالمؤلف یدرس فی هذا الكتاب النص التوراتی و الإنجیلی من خلال انعكاساته، و تأثیراته علی الآداب الأوروبیة و الغربیة بشكل عام. و یری المؤلّف أیضا أن الكتاب المقدس بجزئیه العهد القدیم و العهد الجدید شكّل المناخ الاسطوری أو الرمزی الذی اشتغلت داخله الآداب الأوروبیة حتی القرن الثامن عشر.
بعدئذ حصلت القطیعة مع الدین فی أوروبا. و لكن علی الرغم من ذلك، فإن هذه الآداب لا تزال تشتغل أو تمارس دورها داخله إلی حد كبیر. ثم أصدر المؤلّف تتمة لهذا الكتاب بعنوان: الكلام الأعلی- الكتاب المقدس و الأدب (II(. و ترجم إلی الفرنسیة عام 1994. و فیه یواصل دراسته للعلاقات الكائنة بین البنیة الموضوعاتیة للكتاب المقدس، و هی بینة متجلیة فی قصصه و خیالاته، و بین التقالید و الأنواع الأدبیة التی شهدتها الآداب الأوروبیة و الغربیة علی مرّ القرون. و هكذا یدرس تأثیر التوراة و الانجیل علی أعمال أدباء كبار من أمثال دانتی، ویلیام بلیك، میلتون، و الشعراء الرومانطیقیین من أمثال ت. س. إیلیوت، ییتس، عزرا باوند، جیمس جویس، ملارمیه، جیرار دونیرفال ... إلخ. انظر كتابی فرای:-،Paris ،litterature la et Bible code .La grand -Le 1. 4991،Seuil ،II .Paris litterature la et Bible souveraine .La Parole -La 2؛ 1984،.Seuil
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 33
أنه حتی كلمات تؤدّی إلی تفسیرات تجسیمیة أو تشبیهیة من مثل: «ثم استوی علی العرش» و «علّم بالقلم» و «إنه سمیع علیم» تؤخذ علی حرفیّتها من قبل التفسیر الإسلامی التقلیدی. و قد ولّدت مناقشات جدالیة لاهوتیة بین المسلمین. و هی مماحكات تبعدنا كثیرا جدا عن التحلیل الألسنی الدقیق و الصارم للخطاب القرآنی. أما الدراسات الفیلولوجیة التی طبّقها المستشرقون علی التراث الإسلامی فقد أهملت هی الأخری أیضا بلورة نظریة حدیثة للمجاز و الكنایة ثم تطبیقها علی الخطاب الدینی. و هذا القصور الابستمولوجی یبدو لنا واضحا جلیا إذا ما اطلعنا علی الأعمال الكلاسیكیة للمستشرقین من أمثال نولدكه‌Th .Noldeke ، و بلاشیرR .Blachere ، و وانسبروJ .Wansbrough
و ماسون‌D .Masson ، و پاریت‌R .Paret ، و آخرین عدیدین. فكل ترجمات القرآن إلی اللغات الأوروبیة تعكس الخیارات اللاهوتیة لنماذجهم المتّخذة كقدوة (أی المفسّرین المسلمین الكلاسیكیین). و كانت السیدة جاكلین شابّی قد اتخذت موقفا قویا فی كتابها المذكور سابقا ضد هذا الموقف الذی ساهم فی نشر النموذج اللاهوتی المحافظ و غیر المناسب خارج حدود التراث الإسلامی. و لكنها، هی الأخری أیضا، أهملت الإشارة إلی ضرورة بلورة نظریة عامة للرمز الكبیر و تطبیقها علی جمیع الخطابات الدینیة «1».
من السهل أن نبیّن كیف أن المفسّرین القدامی رفضوا كلیا القیمة المجازیة الواضحة لتعابیر من مثل: «علّم بالقلم»، «أ لم یعلم بأن اللّه یری»، «لنسفعا بالناصیة، ناصیة كاذبة خاطئة»، «الزبانیة» .. و هی كلها تعبیرات واردة فی السورة التی تهمنا هنا: أی سورة العلق.
و لكن هناك تعبیرات كثیرة غیرها فی أماكن أخری متفرقة من القرآن. فكیف یمكن أن نقرّر ما هی الجمل أو الكلمات المجازیة فی هذه الآیات، و ما هی تلك التی ینبغی أن نأخذها بحرفیتها؟ كان التیار الباطنی فی التراث الإسلامی قد ولّد أدبیات ضخمة أو هائلة عن كلمات مثل «القلم»، و «اللّه الذی یری»، و «زبانیة الجحیم» الواردة فی السورة المشار إلیها. و لكن هذا یرینا فقط كیف أن الخطاب القرآنی كان قد استخدم و لا یزال یستخدم كوسیلة أو كعلّة من أجل الاستغراق فی التأملات التجریدیة الغنوصیة. ثم إنه یستخدم بالطبع كمصدر للإلهام بالنسبة للتجارب الصوفیة فی علاقتها مع الإلهی. و یمكن القول بهذا الصدد إنّ الأعمال الهائلة لابن عربی تمثّل مدوّنة مستقلة بذاتها، و هی تبیّن لنا مدی إمكانیات التوسّع الاحتمالیة للخطاب القرآنی كما كان قد تلقاه خیال خلاق (كخیال ابن عربی). و لكن هذا البعد نفسه
______________________________
(1) فی ما یخصّ هذه النقطة الحاسمة، فإنی أحیل القارئ إلی دراستی التی صدرت فی الموسوعة القرآنیة، الجزء الأول، تحت عنوان: «الممارسات النقدیة المعاصرة و القرآن». و الموسوعة المذكورة ابتدأت تصدر منذ عام 2000 عن مطبوعات بریل فی مدینة لیدن بهولندا.، 1.Vol ،Quran the of Encyclopaedia . )M .Arkoun:by ( ) )Quranthe and Practices Critical emporary 0Cont ((.art ، 2،brill ،Leiden
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 34
یحتاج إلی تحلیل بصفته مجموعة من النصوص، و ذلك ضمن منظور تداخلیة نصّانیة واسعة للخطاب القرآنی قبل ظهوره و بعد ظهوره فی التاریخ الثقافی و الدینی. فالفلاسفة هم أیضا فسّروا مجازیا الخطاب القرآنی، و لكنهم عجزوا عن تقدیم نظریة ملائمة للمجاز و الكنایة. و هذا النقص یشكّل فصلا طویلا آخر من فصول «المستحیل التفكیر فیه»، و بالتالی تراكم «اللامفكّر فیه» الناتج عنه فی الفكر الإسلامی المعاصر. و سبب حصول هذا المستحیل التفكیر فیه و اللامفكر فیه هو إعطاء الأولویة الوجودیة و السیاسیة لعلم اللاهوت و التشریع. منذ سنوات عدیدة كنت أنا شخصیا قد خطّطت لكتابة دراسة أكادیمیة معمّقة عن «التركیبة المجازیة للخطاب القرآنی»، و لكنی لم أجد الوقت الكافی بعد لإنجاز مشروع العمر هذا.
یمكننا أن نسوق الملاحظات ذاتها عن التحلیل السیمیائی للخطاب القرآنی. عند ما دشّنت مدرسة باریس للدراسات السیمیائیة أثناء السبعینات و الثمانینات مختبرا من أجل دراسة أدیان الكتاب، فإن الذین اهتموا بدراسة القرآن من الطلاب كانوا قلّة قلیلة. و عند ما أخذت المناقشة النظریة تعید الاعتبار إلی الذات الإنسانیة و الدور الذی تلعبه فی تولید المعنی، و ذلك ضد البنیویة التی كانت قد أعلنت عن «موت الإنسان» بعد «موت اللّه»، فإن مثال القرآن قد أهمل أیضا. إن عودة الذات إلی الساحة قد ساهمت فی تحبیذ انتشار التأملات الروحانیة التجریدیة، و لكنها أبعدتنا عن التحلیل الألسنی بصفته مرحلة منهجیة أولی و ضروریة «*». إنه یمثّل المرحلة الأولی التی لا بد منها قبل أن ننخرط فی أی تفسیر لكی نبلور القانون، أو لكی نبلور لاهوتا دوغمائیا سوف یدعّم فیما بعد من قبل أی نظام سیاسی راسخ.
إنّی لا أزال مصرا علی موقفی، و لا أزال أقول بأن التحلیل السیمیائی (أو العلاماتی الدلالی) ینبغی أن یحظی بالأولویة و بخاصة عند ما یتعلّق الأمر بالنصوص الدینیة التأسیسیة
______________________________
* بمعنی أننا وقعنا فی التطرّف المعاكس بعد انحسار البنیویة و انتقلنا من النقیض إلی النقیض: أی انتقلنا من الذات المسحوقة تحت وطأة الاكراهات و القیود، إلی الذات المنفلتة أو المتحررة من كل الاكراهات و القیود. و هكذا استغرقنا فی التأملات الروحانیة التجریدیة التی لا ضابط لها، و نسینا المنهجیة الصارمة التی تعلّمنا أن الذات لیست حرة إلی الدرجة التی نتوهمها. و بالتالی، فینبغی أن نعود إلی منهجیة العلوم الانسانیة و المنهجیة الألسنیة التی تذكّر بالمشروطیة اللغویة للنصّ، حتی و لو كان نصّ الوحی. فهو مكتوب بلغة بشریة معیّنة و خاضع لاكراهاتها النحویة و الصرفیة و اللفظیة و البلاغیة. كما أنه خاضع للاكراهات الاجتماعیة أو السوسیولوجیة للبیئة التی ظهر فیها. و هذا یعنی أن البنیویة لم تنته بعد أن انحسرت موجتها الطاغیة. بل إنه تبقّی منها خیر ما فیها. و خیر ما فیها قوانین العلوم الإنسانیة التی توصلت إلیها أو نضجت فی فترتها: أی قوانین علم التاریخ (مدرسة الحولیات)، و علم الاجتماع، و علم الألسنیات، و الانتربولوجیا، و تاریخ الأدیان المقارن.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 35
ذات الهیبة الكبری. فالتحلیل السیمیائی یقدّم لنا فرصة ذهبیة لكی نمارس تدریبا منهجیا ممتازا یهدف إلی فهم كل المستویات اللغویة التی یتشكّل المعنی (أو یتولّد) من خلالها.
و هذه الخطوة المنهجیة تمتلك أیضا رهانات أبستمولوجیة. فهی تتیح لنا- و هنا تكمن أهمیتها الحاسمة- أن نترك مسافة نقدیة فكریة بیننا و بین المسألة الأساسیة التی تخصّ المؤلّف و المكانة المعرفیة للخطاب القرآنی. و ینطبق الأمر بالطبع علی كل نصّ آخر مشابه من النصوص المقدسة التی رفعت إلی مرتبة الوظیفة التأسیسیة من قبل البشر لأجل حكم البشر.
إذا ما أنجزنا التحلیل السیمیائی بشكل صحیح و دقیق، فإن ذلك لن یؤدی بالضرورة إلی إنكار دور الذات الحرة فی تولید المعنی و تحدیده. و إنما سوف نكتشف بوضوح كیف أن الخطاب ككل مشكّل أو مركّب لغویا طبقا لتقنیة الإقناع، و الاحتجاج، و التأسیس أو التعلیم. و باللغة السیمیائیة یمكننا القول بأن كل وحدة نصّیة من وحدات الخطاب القرآنی مبنیّة علی أساس سلسلة متسلسلة من الأحداث المركّبة علی هیئة بنیة دراماتیكیة أو مسرحیة مثیرة «*». و هذه الأحداث هی:
1- اللّه یطلق حكما أو یبلّغ رسالة؛ 2- بعض الذین توجّه اللّه إلیهم بالخطاب یرفضون الاستماع إلی رسالته. و البعض یستمعون إلیها و لكنهم یرفضون الإیمان بها. و البعض یقبل الرسالة بصفتها معرفة، و لكنهم یرفضون اتباعها فی العبادة و الحیاة الیومیة. فقط بعض الأشخاص الملهمین جیدا یقبلون بالرسالة تماما، و هؤلاء هم المؤمنون؛ إنهم حزب اللّه؛ 3- یوم الحساب سوف یجی‌ء لا محالة. و عندئذ سوف یكافأ المؤمنون عن طریق النجاة فی الدار الآخرة، و یعاقب العصاة و ینبذون من قبل اللّه، و یكون مصیرهم جهنم و بئس المصیر.
إن هذه البنیة السیمیائیة النموذجیة، أی التی تشكّل نموذجا معیاریا أعلی، قد جسّدت فی المخطط البیانی اللاحق (ص 62). و لكی نفهم تماما المقاصد و المضامین النظریة لهذا المخطط البیانی، فإنه من الضروری أن یلجأ القارئ إلی القاموس الذی ألّفه غریماس/ كورتیس «**». و أما بالنسبة لقرّاء اللغة الانكلیزیة، فبإمكانهم أن یستخدموا قاموس فونتانا
______________________________
* یوضّح أركون هنا البنیة السیمیائیة أو الشبكة الدلالیة و المعنویة التی تخترق الخطاب القرآنی من أوله إلی آخره. و یصفها بأنها بنیة دراماتیكیة مثیرة لأنها مسرح للصراع بین عدة أطراف أو بالأحری بین طرفین أساسیین: النبی و من آمن بدعوته، و الآخرین الذین رفضوا هذه الدعوة. ثم یحصل الصراع المسلّح بین الطرفین حتی یحسم لصالح الدین الجدید. و بالتالی فهی بنیة دراماتیكیة، أی صراعیة.
** یقصد أركون قاموس:la de raisonne Semiotique .Dictionnaire :J .Courtes et A .G .Greimas . 6891:II Volume ؛ 1979:I Volume ،Hachette ،Paris ،language du theorie
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 36
للفكر الحدیث «*». ینبغی علیّ أن ألح هنا علی أهمیة الدروس المنهجیة و الابستمولوجیة التی نتعلّمها من اكتشاف البنیة السیمیائیة أو الدلالیة التی توجّه كل أنماط الخطاب الموجودة فی القرآن: النمط النبوی، و النمط الحكمیّ، و النمط السردی القصصی (القصص القرآنی)، و النمط الترتیلی أو التسبیحی، و النمط التشریعی، و النمط الإقناعی، و النمط الجدالی أو الصراعی (مع الكفار أو الجاحدین للرسالة)، و النمط الاستهزائی (بالكفار و المعارضین).
كما أن هذه البنیة السیمیائیة أو الدلالیة العمیقة توجّه كل مستویات المعنی الخاصة بكل وحدة نصیّة قرآنیة (أی كل سورة أو مقطع أو آیة).
إننا نستخدم المصطلحات التقنیة الصعبة و الجافة و التجریدیة لعلم السیمیائیات (علم العلامات و الرموز اللغویة) لیس حبّا فی التعقید أو جریا وراء «الموضة الباریسیة» كما یقول الأساتذة الأنغلوساكسونیین بنوع من المزاج و الاستهزاء «**»، و إنما من أجل إنجاز مهمة فكریة خصوصیة. فلكی نفهم فقط الوظائف التی یضطلع بها كل طرف وارد ذكره فی الخطاب القرآنی، أقصد كل طرف یسبّب نتیجة عبر التعارضات الدراماتیكیة الحاصلة بین الأطراف المتصارعة، فإنا مضطرون لأن نتحاشی كلیّا تلك المفردات الشائعة و المشحونة بشكل ثقیل جدا بظلال المعانی اللاهوتیة غیر المفقودة و المستمرة عبر القرون.
من الناحیة التاریخیة، نلاحظ أن الخطاب اللاهوتی و كذلك البلورات أو الأحكام الفقهیة الموصوفة بأنها قانون إلهی أو شریعة، مشتقّان كلاهما من الخطاب القرآنی، و لیسا جزءا منه. إنهما مرتبطان أكثر بالسیاقات التاریخیة و الثقافیة التی اشتغل فیها اللاهوتیون و الفقهاء ثم أسقطوا تفسیراتهم بشكل ارتجاعی علی النصوص القرآنیة المتوسّل إلیها لكی
______________________________
* 1998،edition nd 2،Thought Modern of Dictionary Fontana .The من الواضح أن القرآن یستخدم عدة أسالیب للتوصل إلی هدفه، أی إلی نصرة الرسالة و دحض جاحدیها أو معارضیها. و علم الالسنیات یساعدنا علی فهم هذه الأسالیب و تشریحها من الناحیة اللغویة. و كذلك الأمر فی ما یخص علم العلاقات و الرموز الذی هو أحد فروع علم الالسنیات العامة. فهذا العلم یكشف لنا عن بنیة الخطاب الدینی و یبیّن لنا أن له خصوصیة معینة تختلف عن كل أنواع الخطابات الأخری ما عدا الخطاب الشعری إلی حد ما.
** لا ریب فی أن مصطلحات علم الألسنیات شدیدة التقنیة و الوعورة، و بخاصة بعد أن تفرّع هذا العلم إلی عدة فروع كعلم السیمیائیات (علم العلامات و الرموز)، و علم المعانی (السیمانتیك)، و علم الدلالات و الاشارات (السیمیولوجیا)، إلخ. و كلها علوم متقاربة و متداخلة و یصعب التمییز بینها أحیانا. و هی تدرس النصّ بطریقة تشریحیة مزعجة لنا نحن الذین تعوّدنا علی جمالیة النصّ الأدبی و لم نفكر فی تفكیكه و تقطیع أوصاله و تحویله إلی جثّة هامدة تقریبا. و لكن عملیة التشریح و التفكیك هذه هی التی تكشف لنا عن البنیة الداخلیة للنصّ، و كیف تركّب لأول مرة، و ما هی الأسالیب البلاغیة أو اللغویة التی استخدمت فیه من أجل إقناعنا أو التأثیر علینا إلی أقصی حد ممكن. و بالتالی فینبغی أن نصبر علی العملیة حتی النهایة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 37
تتماشی مع هذه التفسیرات. كان المؤرّخون المحترفون قد كشفوا كیف أن الكثیر من طبقات التصورات الخاصة بالحاجات الایدیولوجیة لكل جیل، و المتراكمة فوق بعضها البعض، متضمّنة فی سلاسل السیادات المأذونة، أی الإسنادات، و كیف أنّ كل طبقة مسقطة استرجاعیا علی النماذج الرمزیة، العلیا للشخصیات الكبری من أمثال: محمد، علیّ، الحسین، ابن عباس، الصحابة، الأئمة، و كل أنواع الأولیاء الصالحین المحلیّین. ثم كشفوا كیف أن الكثیر من آیات القرآن قد أقحمت هی نفسها فی الأدبیات القصصیة من أجل تشكیل أصول مدعوة إلهیة للتراث الإسلامی الحیّ، و للقانون الإسلامی الإلهی (الشریعة).
یمكن أن نسمّی كل هذه العملیات بالتلاعبات السیمیائیة (أو الدلالیة، أو الرمزیة اللغویة). فهی سیمیائیة لأنها تصوغ أطرا سردیة دراماتیكیة مرتكزة كلها علی النزع من السیاق «*» و إعادة تركیب السیاق من جدید. لهذا السبب فإن ما یدعی بأسباب النزول المستخدمة عموما كبرهان تاریخی علی السیاقات التی أوحیت فیها الآیات، تبدو لنا مضلّلة أو خادعة كلیا. لما ذا؟ لأنها تنتمی إلی السیاقات الجدیدة المبلورة من أجل تلبیة حاجات الذاكرة الجماعیة (المدعوة بالتراث الحیّ) لكل فرقة إسلامیة. فكل فرقة، بما فیها الفرقة، السنّیة/ الارثوذكسیة، تعمل بالطبع من أجل نیل لقب الفرقة الارثوذكسیة، أو الطائفة المهدیة الصحیحة و القویمة «1». و هذا هو الشرط المنهجی لكی نكشف كیف أن «اللّه»، و «الوحی»، و «الرسول»، و «النبی»، و «القرآن»، و «السنّة»، و «الشریعة»، راحت تنوجد كفواعل‌actants متماسكة، حیّة، جوهرانیة أو كسیادات علیا إلزامیة و نهائیة. إنها سیادات علیا تصوغ الهیكلیة المسیطرة للفكر الإسلامی و تتحكّم بالتطور التاریخی لمجتمعات الكتاب المقدس/ الكتاب العادی. و لسنا بحاجة للقول بأن كل هذه الدراسة التفكیكیة للذاكرات الجماعیة المبنیّة و المترسّخة علی هذا النحو تنطبق أیضا علی
______________________________
* المقصود بذلك أن آیات القرآن تنزع من سیاقها- أی من سیاق القرآن و لحظة القرآن و زمن القرآن- لكی تقحم فی سیاق آخر هو القرن الثانی أو الثالث أو الرابع للهجرة. و یفعل الفقهاء و المفسّرون ذلك من أجل خلع المشروعیة الإلهیة علی التفسیر و الفقه و الشریعة و مجمل ما یدعی بالتراث الإسلامی الحیّ. و هو یدعی حیا لانه متواصل جیلا بعد جیل حتی یومنا هذا. و هذه العملیة التی لا تمیّز بین لحظة القرآن و بین القرن الثانی أو الثالث للهجرة هی التی یدعوها أركون بالتلاعب السیمیائی أو الدلالی. بمعنی أنها توهمنا بأن التراث كله مقدس لمجرد أنها تستشهد بالآیات القرآنیة و تقحمها فی سیاق فكری و سیاسی آخر غیر السیاق الذی ظهرت فیه لأول مرة.
(1) من أجل التوسع فی هذه المسألة التی استعرضناها بشكل سریع، أنظر مقالتنا: «من أجل تاریخ آخر للظاهرة الدینیة: مثال علی ذلك البرنامج العلمی الذی یتحدث عن كیفیة الانتقال من الجاهلیة إلی الإسلام». و هذه المقالة موجودة فی كتابنا الذی سیصدر بالفرنسیة لاحقا بعنوان: التفكیر فی الإسلام الیوم.
tojahilya from Programme (du Lexemple :religieux fait du histoire autre une Vers :M .Arkoun .aujourdhui lislam Penser :.in ) ) ).Islam
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 38
الذاكرة الجماعیة الیهودیة و الذاكرة الجماعیة المسیحیة المدعوتین هما أیضا بالتراث الحیّ‌vivante Tradition )فللیهود تراثهم الدینی المستمر منذ أقدم العصور و المدعو بالتراث الحی. و كذلك الأمر بالنسبة للمسیحیین. فلكل طائفة تراثها الدینی الذی یعتبر مقدسا و مطلقا و نهائیا ...)
فی دراسات عدیدة سابقة، كنت قد أقمت تمییزا حادا و قاطعا بین المكانتین اللغویتین للخطاب القرآنی، أقصد: المكانة الشفهیة، و المكانة و الكتابیة. فالمكانة الشفهیة لها بروتوكولها الخاصّ فی التواصل أو التوصیل، و نقصد بها الأداء الشفهی من خلال قناة خاصة، و فی ظروف مادیة معینة، و من خلال علامات سیمیائیة خاصة، و أدوات، و آلیّات مستخدمة لتولید المعنی الذی یؤدی إلی ردود فعل مباشرة علیه: فإما القبول و إما الرفض؛ إما أنه یثیر حماسة الجمهور المستمع و إما أنه یثیر غضبه علی الفور. و هناك مكانة المكتوب أو القرآن كنصّ. ینبغی أن نعلم أن المكانة الشفهیة للخطاب قد تأبّدت. (أو ظلت علی قید الحیاة) من خلال التلاوة الشعائریة للقرآن من قبل المؤمنین. و كذلك تأبّدت من خلال الاستشهادات المتكررة التی تحصل للمسلمین كثیرا فی أحادیثهم الیومیة أو العادیة. و لكن هذین النمطین من الاستخدام الشفهی یختلفان لغویا عن المرة الشفهیة الأولی حین نطق محمد بن عبد اللّه بالآیات القرآنیة، أو بالمقاطع و السور علی هیئة سلسلة متتابعة، أو وحدات متمایزة و منفصلة علی مدار عشرین عاما. و هذا التبلیغ الشفهی الأول ضاع إلی الأبد، و لا یمكن للمؤرّخ الحدیث أن یصل إلیه أو یتعرّف علیه مهما فعل و مهما أجری من بحوث. كان التراث الإسلامی قد جمع الكثیر من القصص القصیرة عن الأسباب التی یعتقد بانها دفعت إلی تبلیغ هذه الآیة أو تلك (هذا ما یدعی بأسباب النزول). و إذا ما نظرنا إلی المصحف كما هو علیه حالیا، فإننا لا نستطیع حتی أن نطبع كلّیة النصّ طبقا للترتیب الكرونولوجی (أی الزمنی المتسلسل) لما أدعوه أنا شخصیا بالوحدات النصّیة المتمایزة «*».
و قد كرّست أدبیات هائلة لهذه المسألة من قبل العلماء المستشرقین. و ینبغی أن یستمر البحث إذا كان هناك أی أمل فی العثور علی مخطوطات موثوقة أكثر قدما من النسخة التی نمتلكها حالیا. و لكن منذ أن فرضت المجموعة الرسمیة المغلقة أو الناجزة المتمثّلة بالمصحف نفسها، و المسلمون یعارضون حتی إمكانیة ترتیب القرآن طبقا للتسلسل
______________________________
* هكذا نلاحظ أن أركون یستخدم مصطلحا ألسنیا أو لغویا بدل المصطلح المشحون لاهوتیا، أی مصطلح آیة، أو سورة. فكل آیة هی عبارة عن وحدة نصّیة، و كل سورة مشكّلة من عدد یقل أو یكثر من الوحدات النصیة أو اللغویة. من المعلوم أن القرآن فی صورته الحالیة لیس مرتبا بشكل تاریخی. و قد حاول المستشرقون ترتیب آیاته و سورة بشكل متسلسل و تاریخی، فمیّزوا بین ثلاث مراحل مكیّة مثلا، و بین المراحل المكّیة و المراحل المدنیة. و اعتمدوا علی الاسلوب و الموضوعات الدینیة، و السیاسیة المطروقة من أجل إنجاز مثل هذا الترتیب التاریخی. و لكنه لیس موثوقا كلیا، و تظل هناك ثغرات و نواقص.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 39
الكرونولوجی للوحدات النصّیة التی یصعب بالطبع تحدید تواریخها، و بالتالی ترتیبها «1».
إن مجرّد التفكیر بهذه الاحتمالیة مرفوض من قبل جمهور المسلمین.
أما النصّ المكتوب فهو مقروء من قبل جمیع المسلمین من خلال بروتوكول الإیمان الذی لا یناقش و لا یجادل فیه، أو من خلال ما یدعوه كبار المفسّرین، علی غرار الخوئی، بالمقدمة التمهیدیة للقرآن، أو من خلال المسلمات المقبولة من دون أن تخضع أبدا للنقاش. هناك تفاسیر أو قراءات لاهوتیة، و فقهیة، و صوفیة، و حرفیة و باطنیة للقرآن. و هی تفاسیر ناتجة عن التراث الفكری لكل مذهب من المذاهب الإسلامیة (أی المذهب السنّی، أو الشیعی الإمامی، أو الاسماعیلی، أو المعتزلی، أو الأشعری، أو الحنبلی ...).
و نلاحظ أن المفسّرین المسلمین المعاصرین یعتمدون جمیعهم، فی طریقة تفسیر هم و خیاراتهم العقائدیة، علی المفسّرین القدامی. و لن یحاول أی واحد منهم أبدا أن یفكّك، تاریخیا و فلسفیا، نظام المسلمات أو البدیهیات المؤبّدة منذ قرون عدیدة بصفتها موقفا دوغمائیا مقدّسا أو معصوما لما كنت قد دعوته بالعقل الإسلامی (انظر كتابی: نقد العقل الإسلامی) «*».
إذا كنا مجبرین علی قراءة نصّ ما، فإننا نحتاج أولا إلی نظریة عامة عن الشی‌ء الذی ندعوه بالنصّ «2». و هذا ما أحاول أن أفعله الآن. هناك ثلاثة اتجاهات معرفیة متداخلة، و ینبغی أن نمزج بینها من أجل أن تتماشی مع المنظور الجدید للعقل الاستطلاعی المستقبلی المنبثق حدیثا. و هو یختلف عن جمیع الأشكال الابستمولوجیة التی اتخذها العقل سابقا فی جمیع السیاقات الثقافیة المعروفة بما فیها العقل التكنولوجی- العلمی- التلفزی المهیمن حالیا علی الغرب. هناك ثلاثة بروتوكولات متداخلة أو متفاعلة لقراءة القرآن كنصّ ضمن ذلك المنظور: القراءة التاریخیة- الانتربولوجیة، القراءة الألسنیة- السیمیائیة، القراءة اللاهوتیة- التفسیریة. و من الناحیة المنهجیة یجب القول بأن القراءة اللاهوتیة- التفسیریة لا ینبغی أن تحصل إلّا بعد إجراء القراءتین الأولیین، و بناء علی الأسس النقدیة الجدیدة المستخلصة من قبلها. و هذا یعنی أنه ینبغی تفكیك كل القراءات التقلیدیة التی لا تزال
______________________________
(1) للمزید من التوسع فی كیفیة الاستخدام الشفهی للكتابات المقدسة بشكل عام، أنظر الكتاب التالی للباحث ویلیام غراهام: الكلام الإلهی و الكلام النبوی فی الإسلام المبكر: إعادة تفحص المصادر مع إشارة خاصة للحدیث القدسی، الصادر فی لاهای (هولندا) عام 1977:Divine :Graham William to Reference Special with ،Sources the of Reconsideration A :Islam Early in Word Prophetic and Word . 7791،Hague The ،Qudsi Hadith or ،Saging Divine the
* الكتاب الذی یشیر إلیه أركون هنا هو التالی:. 1984،Paris ،islamique raison la de critique une Pour
(2) كان الباحث ستیفان و ایلد قد أشرف مؤخرا علی نشر كتاب بعنوان: القرآن كنصّ. لیدین، مطبوعات بریل، 1996. و لكنه لا یقدم فی الواقع نظریة مناسبة لمثال القرآن ضمن الخط الذی أقترحه أنا شخصیا أو أحاول شقّه و تدشینه. أنظر: 1996،Brill ،Leiden ،Text as Quran The :Wild .Stefan
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 40
مهیمنة حتی الآن لأسباب سیاسیة أساسا، و أقصد بها القراءات المحصورة داخل بروتوكول الإیمان. ینبغی تفكیكها ثقافیا و فكریا.
ننتقل الآن إلی النقطة الثالثة من موضوعنا: و هی التداخلیة النصّانیة بین القرآن و النصوص الأخری التی سبقته. و هنا نرید أن نقوم بقراءة تاریخیة أفقیة للخطاب القرآنی، و ذلك ضمن منظور المدّة الطویلة جدا بحسب تعبیر المصطلح الشهیر للمؤرّخ الفرنسی فیرنان برودیل. و هذه المدة الطویلة جدا سوف تشمل لیس فقط التوراة و الانجیل، و هما المجموعتان النصّیتان الكبیرتان اللّتان تتمتعان بحضور كثیف فی القرآن، أو فی الخطاب القرآنی، و إنما ینبغی أن تشمل كذلك الذاكرات الجماعیة الدینیة- الثقافیة للشرق الأوسط القدیم «*».
و بهذا الصدد، یمكن القول إنّ سورة الكهف تشكّل مثلا ساطعا علی ظاهرة التداخلیة النصّانیة «**» الواسعة الموجودة أو الشّغالة فی الخطاب القرآنی. فهناك ثلاث قصص هی:
أهل الكهف، و أسطورة غلغامیش، و روایة الاسكندر الأكبر، و جمیعها تحیلنا إلی المخیال الثقافی المشترك و الأقدم لمنطقة الشرق الأوسط القدیم. و هی جمیعها ممزوجة أو متداخلة فی سورة واحدة من سور القرآن (سورة الكهف) لكی تدعم و تجسّد نقل الشی‌ء ذاته، و هو:
______________________________
* مصطلح «المدّة الطویلة»duree longue la من اختراع المؤرّخ الفرنسی فیرنان برودیل. و هو یعنی به ما یلی: هناك ظواهر أو نصوص لا یمكن فهمها إذا ما وضعناها داخل إطار المدة القصیرة أو المتوسطة (أی من عشر سنوات إلی مائة سنة مثلا)، و إنما ینبغی أن نموضعها ضمن شریحة زمنیة طویلة قد تصل إلی ألف سنة أو حتی ألفی أو ثلاثة آلاف سنة و ربما أكثر. فمثلا ظاهرة كالطائفیة لا یمكن فهمها إذا ما حصرنا منظورنا بالعشرین أو الثلاثین عاما الماضیة. و قل الأمر نفسه عن ظاهرة العنصریة الموجودة فی بعض البیئات الغربیة حالیا. فلا یمكن فهمها إلا إذا عدنا إلی جذورها الایدیولوجیة فی القرن التاسع عشر. و هذا هو معنی تفسیر الحاضر عن طریق الماضی.
أما فی ما یخص النص القرآنی، فلا یمكن فهمه جیدا إلّا إذا وضعناه داخل إطار المدة الطویلة للتاریخ، أی تلك التی تشمل لیس فقط التوراة و الانجیل و إنما أیضا أدیان الشرق الأوسط السابقة علیهما ..
** التداخلیة النصّانیة هی الترجمة العربیة للمصطلح الفرنسی‌intrtextualite ، أو بالأحری هی الترجمة التی اخترناها نحن. و هی تعنی أن نصّا ما- كالنصّ القرآنی مثلا- قد یتأثر بالعدید من النصوص السابقة له كالنصّ التوراتی و النصّ الانجیلی، بل و حتی ما قبل التوراة و الإنجیل. و هكذا تتداخل هذه النصوص- أو مقاطع منها- مع النصّ القرآنی، و یستوعبها هذا الأخیر حتی تصبح جزءا لا یتجزا منه. و هذا لا یعنی التقلید كما یتوهم بعضهم، و إنما یعنی التفاعل و الاستیعاب و الدمج المبدع الخلاق. و لذلك نجد فی سورة واحدة- هی سورة الكهف- أصداء واضحة لثلاثة قصص سابقة هی: قصة أهل الكهف المسیحیة، و ملحمة غلغامیش الآشوریة، و روایة الإسكندر الكبیر الاغریقیة. هكذا نجد ثلاث مرجعیات ثقافیة قدیمة متداخلة مع النص القرآنی أو موظّفة فیه.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 41
الرسالة الإلهیة الخالدة. إن كلّ واحدة من هذه القصص مركبة تماما علی قاعدة البنیة السیمیائیة المذكورة آنفا. و فی كل واحدة منها نلاحظ انبثاق البطل الذی سیتلقی الرسالة و یستخدم المعرفة المتضمّنة فیها لكی یغیّر مجری الوجود البشری و معناه النهائی باعتباره مرتبطا باللّه و تعالیمه. هنا نواجه الكثیر من القضایا النظریة المتعلّقة بالمسلمات الابستمولوجیة لنظریة تاریخ الأشكال الالمانیة الأخیرة (الجشطلت) و مجریاتها الفیلولوجیة، و المتعلقة أیضا بمناهج النقد الأدبی، و النظریة السیمیائیة الخاصة بالمنشإ البنیوی للمعنی، و المنظورات التی فتحها التحدید الانتربولوجی للاسطورة. و هو تحدید استشهدنا به كعبارة مقتبسة فی مستهل هذه الدراسة. إن كلّ هذه المسائل النظریة مع مجریات التحلیل، أو التقطیع، الفصل أو الوصل بین مختلف أشیاء المعرفة إنما یحتاج إلی أن یناقش بعنایة، و احتمالا إلی أن یمزج مع بعضه البعض، و یعدّل و یغنی أو یخصب ضمن المنظور المعرفی للعقل الاستطلاعی الجدید المنبثق حالیا.
هناك القراءة الالمانیة العمودیة طبقا لمجاز التنزیل، أی نزول كلام اللّه من السماء إلی الأرض. و هناك القراءة الأفقیة، الزمانیة، المكانیة، الوضعیة المفروضة من قبل النقد التاریخی الحدیث، مع تركیز خاص علی التاریخیة الجذریة أو الرادیكالیة لكل شی‌ء له علاقة بالوجود البشری، بما فیها الموضوعات الدینیة. إننا نقف أمام هاتین الرؤیتین، فكیف نوفّق بینهما؟ أو: كیف نقیم علاقة تمفصلیة بینهما؟ كان التفسیر الإسلامی القروسطی قد احتوی علی العدید من الإشارات إلی القصص، و الروایات، و أسماء الأنبیاء، و الأبطال الأدبیین المستعارین من مصادر و ذاكرات جماعیة خارجیة بالنسبة للتراث العربی أو القرآنی «1». و هذا العمل الشائع للمفسّرین لم یؤثّر فی المكانة الإلهیة للوحی. نقول ذلك علی الرغم من أنه اندلعت آنذاك معارضة ضد استخدام الإسرائیلیات أو اللجوء إلیها.
فی الواقع، إن مفهوم التاریخیة كما بلورها علم التاریخ الحدیث تظل تشكّل ما ندعوه بالمستحیل التفكیر فیه بالنسبة للتفسیر التقلیدی و الفكر التأریخی القدیم فی آن معا. فهما یخلطان عموما بین القصص الاسطوریة و الحقائق التاریخیة المعزولة عن سیاقها. و نلاحظ الیوم أن بعض المعلقین أو الكتّاب یحاولون الحدّ من التأثیر القضائی أو القانونی للآیات التشریعیة عن طریق القول بأنها أو حیت بروح زمانها و تلبیة لحاجات و متطلبات المجتمع العربی فی زمن النبی. و بحسب رأی هؤلاء المصلحین، أو المجدّدین، فإن التفسیر العملی أو البراغماتی للآیات التشریعیة لا ینبغی أن یؤدی إلی أی مراجعة للاهوت الوحی التقلیدی.
إنّ كلّ تناقضات الفكر الإسلامی المعاصر و ترقیعاته الایدیولوجیة و نواقصه العلمیة
______________________________
(1) أنظر الكتاب التالی للباحث یاروسلاف ستیتكیفیتش: محمد و الغصن الذهبی: إعادة تركیب أسطورة عربیة:،Myth Arabian Bough .Reconstructing Golden the and Muhammad :Stetkevych Jaroslav . 6991،Press Univercity .California
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 42
متمركزة و مكثّفة فی هذا التضاد اللامفكّر فیه حتی الآن، أقصد: التضاد أو التعارض بین القراءة الافقیة/ و القراءة العمودیة للقرآن بصفته نصا «موحی به». و أما الدراسات القرآنیة التی تتمّ داخل إطار الفكر الغربی الحدیث (أی الاستشراق)، فلا تزال مستمرة فی تجاهل الأبعاد اللاهوتیة، و النفسانیة، و الایدیولوجیة، للوحی «*». انها تتجاهلها و تستبعدها من دائرة فضولها «العلمی».
إنّ الدراسة الحالیة، التی نشرت نواتها الأولی بالانجلیزیة «**» عام 1987 (مباشرة بعد دراسات أخری عدیدة كانت قد جمعت فی كتابی قراءات فی القرآن) قد تمّ تجاهلها من قبل أغلبیة المستشرقین. و أقصد بذلك أغلبیة أولئك الذین یؤلفون الكتب و المقالات ضمن الخط التاریخوی، الوصفی، الفیلولوجی، الوضعی الذی دشن منذ القرن التاسع عشر داخل السیاق الابستمولوجی للمدرسة التاریخیة الالمانیة المدعوة بال‌Formgeschichte )أی بالتاریخ الشكلانی، أو الظاهری السطحی للنص. و لكن هذا لا یعنی أنه لیس مهما.
فالواقع أنه یمثّل مرحلة لا بد منها، و هی تتمثّل بتحقیق النصّ علمیا و تاریخیا).
دعونا الآن نذهب أبعد أكثر فی مجال اكتشاف الأدوات و الأطر النظریة و آفاق المعنی التی یقدمها لنا العقل الاستطلاعی الجدید المنبثق حالیا، و التی یمكن تطبیقها علی الدراسات الدینیة بشكل عام.

الوحی، التاریخ، الحقیقة

فی عام 1973، كنت قد نشرت مقالة بعنوان: «الوحی، الحقیقة، التاریخ فی أعمال الغزالی». (انظر كتابی: مقالات فی الفكر الإسلامی) «***». كان طموحی آنذاك یمكن فیما
______________________________
* بعد انتقاده الجهة الإسلامیة التقلیدیة، ینتقد أركون الجهة الاستشراقیة الكلاسیكیة المغرقة فی وضعیتها و تاریخویتها. فالمنهجیة التاریخیة الوضعیة التی تبلورت فی القرن التاسع عشر، و التی یتبعها الاستشراق، لا تأخذ العوامل النفسانیة أو الایمانیة أو الایدیولوجیة لظاهرة الوحی فی الاعتبار. كل ما یهمها هو التأریخ للوقائع الثابتة، الملموسة و المحسوسة مادیا. أما ما عدا ذلك فلا وجود له بالنسبة لها. و لكن المنهجیة الحدیثة فی علم التاریخ (مدرسة الحولیات مثلا) تأخذ هذه العوامل بعین الاعتبار، و ذلك من خلال علم النفس التاریخی‌historique Psychologie .La فهذا العلم لا یدرس فقط الوقائع المادیة لثقافة ما، و إنما یدرس أیضا الخیالات، و التصورات، و القیم الروحیة و المعنویة. و هكذا أصبح علم التاریخ متكاملا، فهو یدرس المادی/ و الروحی، أو الواقعی/ و الخیالی، و لا یختزل الحقیقة الانسانیة إلی بعد واحد فقط كما تفعل المدرسة الوضعیة.
**-Book the of Societies the to Ihl -Kitab Revelation -from of Concept The ((،M .Arkoun . 8891،California ،School Graduate Claremont ، ( (book
*** الدراسة التی یشیر إلیها أركون هی التالیة:de loeuvre dapres histoire et verite ،Revelation ((
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 43
یلی: تحریر الفكر الإسلامی من الإطار اللاهوتی التأریخی (بالمعنی القدیم لكلمة تأریخ، و كتابة التاریخ). و هو الاطار الذی بلور و نشر أثناء الفترة الكلاسیكیة من عمر الإسلام. ثم أصبح متقطعا، متشتتا، و فقیرا أو مفقرا عن طریق النزعة السكولاستیكیة الإسلامیة بعد القرن الثالث عشر المیلادی. و لكن أعید تنشیطه علی هیئة النقل الوصفی، السردی، الخطّی، المستقیم من قبل التبحّر الأكادیمی الاستشراقی.
لقد حاولت آنذاك أن أطبّق النظریات الانتربولوجیة للعالمین كاردینیر و لینتون علی دراسة الفكر، و المجتمع و التاریخ فی السیاقات الإسلامیة منذ أن كانت الظاهرة القرآنیة قد انبثقت لأول مرة «*». و أردت بذلك امتحان مدی نجاح هذه النظریات، أو مدی صحّتها و متانتها عند ما تطبّق علی تراث آخر غیر التراث الأوروبی: أقصد التراث الإسلامی. و لا ریب فی أن أعمال الغزالی هی أغنی مثل یمكن اختیاره من أجل القیام بهذا الاستكشاف النظری الجدید. و الیوم، ما برحت أدافع عن المشروع ذاته، و لكن مع إجراء بعض التعدیلات و التصحیحات الضروریة التی تتطلّبها (أو تفرضها) الانتربولوجیا الثقافیة و الاجتماعیة. و أجد نفسی هنا مضطرا، مرة أخری، إلی أن ألفت الانتباه إلی الموقف الاحتقاری الذی وقفه المستشرقون من أی محاولة تجدید منهجیة قد أقوم بها. إنهم یزدرون المناقشات النظریة و الابستمولوجیة التی قد تؤثّر فی القواعد الارثوذكسیة، الأكادیمیة، الراسخة التی فرضوها علی مجال الدراسات الإسلامیة. فلم تظهر أی دراسة عن الغزالی أو عن أی مفكّر آخر من حجمه ضمن الخط الذی أریده. لم تظهر أی دراسة تتحدّث عن المقصد الفكری و الصلاحیة العلمیة المحتملة للإشكالیات الجدیدة و المفاهیم المصطلحیة و المنظورات المعرفیة الواردة فی مقالتی تلك. و لهذا السبب، فإن المرء یأسف لأن علماء الإسلامیات الغربیین (أو المستشرقین) الذین اعتادوا علی نقد النزعة المحافظة لدی المسلمین الخاضعین لهیبة تراث غیر منقود (أی الخاضعین للتقلید)، یفعلون الشی‌ء نفسه تماما عند ما یتحدثون عن أشیاء تخص الإیمان. إن هذه الممارسة «العلمیة» لا تزال تؤخّر المحاولات التجدیدیة للمفكّرین المسلمین أو تحرفها عن مقصدها. أقصد أنها تؤخّر
______________________________
-. 251- 233..pp 4891،edition e 3،islamique .Paris pensee la sur Essais :In ، ( (Gazali
* كان الباحث الفرنسی مایكل دوفرین‌M .Dufrenne قد نقل إلی الفرنسیة نتائج أعمال عالمین كبیرین من علماء الأنتربولوجیا الثقافیة فی أمریكا و هما: أ. كاردینیرA .Kardiner ور. لینتون‌R .Linton ، و ذلك فی كتابة: الشخصیة المتوسطة (أو الشخصیة القاعدیة)،Paris ،base de personnalite La 6691،..P .U .F ثم طبّق أركون المصطلح نفسه علی الشخصیة الإسلامیة من خلال تحلیله لأعمال الغزالی. و المقصود بهذا المصطلح أن كل ثقافة أو كل مجتمع یشكّل شخصیة مشتركة لدی جمیع أفراده. لا یعنی ذلك أنهم جمیعا متماثلون، و إنما یعنی أن هناك سمات مشتركة للشخصیة الإسلامیة، أو للشخصیة الفرنسیة، أو للشخصیة الصینیة، إلخ. و هذا ما نقصده عند ما نقول:
فرنسی متوسط، أو عربی متوسط، أو أمریكی متوسط، إلخ.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 44
محاولاتهم الهادفة إلی إدخال الفكر الإسلامی فی الاهتمامات و المناقشات النظریة للنزعة النقدیة المعاصرة.
فی ما یخص مقالتی الصادرة فی عام 1973 عن الغزالی، أودّ أن أقول بأنی أدخلت تعدیلا علی العنوان. فلم یعد: «الوحی، الحقیقة، التاریخ»، و إنما أصبح: «الوحی، التاریخ، الحقیقة». و هكذا أصبح «التاریخ» فی المنتصف و لم یعد فی الأخیر. لما ذا فعلت ذلك؟ لأنه یوجد تفاعل مستمر بین فعالیات الذهن (أو الروح) و التاریخ. فالروح تحاول جاهدة أن تتوصل إلی الحقیقة و أن تجسّدها فی التاریخ. و لكن هذه الفعالیة تحصل تحت تأثیر الوظیفة المعرّیة أو الكاشفة للتاریخ، أقصد التاریخ الذی یجبر الروح البشریة علی الاعتراف بمدی انقیادها للمعرفة الخاطئة، و المعتقدات غیر المسیطر علیها، و التركیبات الاعتباطیة، و الخیارات الخطرة الناتجة عن التصوّرات الذاتیة العاطفیة، و إرادة القوة و الهیمنة، و الرغبات الملحّة، أكثر مما هی ناتجة عما یقدّم و یدافع عنه بمثابة الحقیقة، و العدل، و الطریق القویم.
إنّ التاریخ یجبل أو یصوغ حیاة الفاعلین الاجتماعیین (أی البشر) الذین لیسوا واعین بصورة متساویة بأصل أفعالهم الفردیة و الجماعیة و آلیّاتها و انعكاساتها. إن نصوص الوحی، و تعالیم الأنبیاء، و الكتب الفقهیة، و التفسیر الارثوذكسی، و التأریخ (أی كتابة التاریخ)، و الارثوذكسیة، و الأدبیات البدعویة ... إن كل هذه التركیبات المكتوبة التی أنتجتها الذاكرة الجماعیة تتضافر و تتلاقی فی ما تدعوه الطائفة و تستخدمه و تحمیه تحت اسم: «التراث الحیّ». بهذا المعنی، فإن التراث (بالمعنی الكبیر و المثالی للكلمة) هو الوعاء الذی یتلقّی كل الحقائق الناتجة عن التجارب الوجودیة المشتركة لدی الطائفة «الارثوذكسیة» «*» المختارة أو الرشیدة. و یعتقدون أن كل الحقائق المدمجة أو المستوعبة فی هذا التراث المثالی الكبیر هی بالضرورة متجذّرة فی الحقیقة العلیا، المطلقة، الانطولوجیة، الجوهرانیة، المقدسة و اللاتاریخیة. إن التاریخ بصفته سیرورة وجودیة كشفیة (أو كاشفة)، سیرورة مضاءة، مهدیّة من قبل كلام اللّه الموحی و متجذّرة فیه، یولّد تصوّرا عن الحقیقة مختلفا من الناحیة النفسیة عن التصور المحدّد من قبل الأنظمة المعرفیة الحدیثة. و هو تصوّر ظرفی، آنی، متغیّر و نسبی عن الحقیقة. و قد انتصر هذا التصوّر منذ أن حصل الانتقال من العقل الدینی إلی العقل العلمی و الفلسفی.
إن العلوم الإنسانیة أو الاجتماعیة الحدیثة توضّح الجدلیة التاریخیة اللامرئیة المشتغلة
______________________________
* یضع أركون كلمة أرثوذكسیة بین قوسین لأنها لیست أرثوذكسیة- أی مستقیمة و صحیحة- إلا من وجهة نظر أصحابها. فكل طائفة تنتصر سیاسیا تفرض نفسها علی المجتمع ككل بمثابة الطائفة الوحیدة الصحیحة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 45
أو الحاصلة باستمرار بین الوحی و الحقیقة تحت ضغط التاریخ (الوحی هنا بالمعنی المطلق، و الحقیقة بالمعنی المطلق أیضا). و لكن هذا التفاعل الجدلی لا یمكن أن یلحظ أو یری من قبل الفاعلین الاجتماعیین، أی البشر، سواء أ كانوا مؤمنین أم غیر مؤمنین، ما دام الإطار الجوهرانی و المثالی و المیتافیزیقی للتفسیر لم یقارع- و لیس بالضرورة أن یستبدل- مع الفلسفة الاستكشافیة أو الاختباریة التی تقبل بالبرنامج الذی حدّدته فی مقدمة كتابی عن العقل الاستطلاعی الجدید المنبثق حدیثا «*». و ینبغی علیّ أن أضیف إلی هذا البرنامج المواقع المعرفیة التالیة التی تتطلّبها حتما أی إعادة تقییم للتراثات الدینیة الحیّة. و كنت قد حدّدت هذه المواقع المعرفیة بصفتها المقدمة الاستكشافیة و الاختباریة لنقد العقل الدینی من خلال المثال الإسلامی. و الیكم هذه المواقع:
1- هناك المثلث المعرفی المتمثّل فی اللغة، و التاریخ و الفكر. هذا المثلث یشتمل علی مثلث آخر كنت قد ذكرته للتوّ: «الوحی، التاریخ، الحقیقة»، و ذلك بصفته حقلا خاصا لمسألة أكثر شمولیة.
2- و هناك المثلث اللاهوتی- الفلسفی التمثّل فی: «الایمان، العقل، الحقیقة».
ینبغی القول بهذا الصدد ما یلی: إن المناقشات القروسطیة التی دارت حول هذا المثلث المفهومی لم تشتمل علی الوظیفة الكاشفة للّغة و التاریخ، أو لم تحددها بدقّة. و أقصد بها الوظیفة التی ترینا كیف أن اللاهوت ینبغی أن یكون دراسة لتجلّیات الایمان تحت ضغط التاریخ الحیّ و تأثیراته.
3- و هناك المثلث التأویلی: «الزمن، القصص، المعنی النهائی و الأخیر» (أو الحقیقة المطلقة طبقا للتحدید المیتافیزیقی). و السؤال المطروح هنا: كیف یمكن أن نذهب إلی ما وراء الدائرة التأویلیة المتمثّلة فی العبارة التالیّة: أن تفهم لكی تؤمن، و أن تؤمن لكی تفهم.
4- المثلث التجریبی (أی المبنیّ علی الملاحظة و الاختبار): «العقل، المجتمع، السلطة/ السیادة العلیا». كان هذا المثلث قد عرف فی الفكر الإسلامی و نوقش تحت اسم:
دین، دنیا، دولة؛ أو: دین، مجتمع، حكومة (أو سیاسة).
5- المثلث الانتربولوجی: «العنف، التقدیس، الحقیقة». إن سورة التوبة تقدّم مثلا ممتازا علی دراسة هذا المثلث كما تجسّد فی القرآن. و لذلك فسوف ندرسها بعد قلیل.
______________________________
* هو كتاب سوف یصدر لاحقا بالإنكلیزیة، و هو أول كتاب یؤلّفه أركون مباشرة بهذه اللغة. و یرید من خلاله أن یبلور نظریته الفكریة العامة. فنحن دخلنا الآن عصر العولمة، و كذلك القرن الحادی و العشرین.
فهل سیظهر عقل جدید، أو بالأحری فكر جدید، یتجاوز الحداثة الكلاسیكیة و یدخلنا فی مرحلة ما بعد الحداثة؟ قلنا سابقا إن أركون لا یحب هذا المصطلح و إنما یفضّل علیه مصطلح «العقل الاستطلاعی المستقبلی».
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 46
6- المثلث الفلسفی- الانتربولوجی، أو التأسیس الاجتماعی للعقل و التأسیس الخیالی للمجتمع: «عقلانی، لا عقلانی، خیالی/ مخیال». إن هذا المثلث یتناسب بشكل خاص مع بحثنا عن الوحی، و التاریخ، و الحقیقة. أما الصفة اللاعقلانیة أو الأبعاد الخیالیة للعقل فقد أنكرت من قبل اللاهوت الكلاسیكی و المیتافیزیقا لأنها تقول بأن الانسان خلق علی صورة اللّه، و لأنه یحاول جاهدا أن یتشبّه باللّه (انظر التألّه الخاص بالصوفیین و الافلاطونیین المحدثین). إن القوی الفعّالة المؤثّرة للعامل اللاعقلانی و للمخیال كانت و لا تزال مخبوءة، مجهولة، لا مفكّرا فیها حتی فی ثقافتنا الأكثر تعقیدا، و عقلانیة و علمیة.
من بین كل المواقع الفكریة المذكورة آنفا، نجح الفكر الإسلامی منذ القرن التاسع عشر فی المحافظة علی الوهم، و هو أنه یستطیع المساهمة فی النقاش الدائر حولها من خلال تطبیقها علی الدراسات الإسلامیة. نحن نعلم كیف أن بعض محاولات طه حسین، و سلامة موسی، و علیّ عبد الرازق قد ولّدت مناقشات مثمرة، و لكنها فشلت فی تشكیل مدرسة للبحث، و التعلیم، و الفكر. ففی خلال الفترة المدعوة بالعصر اللیبرالی (1830- 1940)، لم یصل النقد الفیلولوجی و التاریخی قط إلی مستوی الدراسات التاریخیة و الأدبیة و اللغویة التی حصلت فی أوروبا بین عامی 1700 و 1950. كان العقل الدینی ینقل المناقشة دائما من إطارها العلمی إلی إطارها اللاهوتی و الاخلاقی الشرعی (أو إلی تقییم لاهوتی و أخلاقی- شرعی لها). ثم طرأ علی الفكر الإسلامی أو العربی تغیّر أیدیولوجی جدید بعد عام 1945. و فرضت ذلك مقتضیات النضال الوطنی أو القومی من أجل التحرر السیاسی من الاستعمار. و هكذا راح الإیدیولوجیون العرب أو المسلمون یرفضون بعض ما حصل من تقدم هشّ فی مجالات معرفیة معیّنة أثناء العصر اللیبرالی.
راحوا یتنكّرون لها باعتبار أنها نتاج الفكر و الثقافة البورجوازیة. و سیطر عندئذ نموذج «الأدب و الفكر الملتزم»، و هو نموذج مستورد من قبل «المثقفین» الماركسیین- الشیوعیین. و ظل مسیطرا حتی حلّ محله النموذج الإسلامی المدافع عنه حالیا من قبل الحركات الأصولیة.
نحن نعلم مدی التوسع أو الانتشار السوسیولوجی السریع الذی حقّقه ذلك الإطار الایدیولوجی/ الاسطوری من الفكر خلال الثلاثین عاما الماضیة. و قد رافقه ظهور فئات اجتماعیة جدیدة تحت ضغط التزاید الدیمغرافی، و كذلك الضغوطات الاقتصادیة و السیاسیة. و انه لمن الصعب الآن أكثر من أی وقت مضی أن تحوّل المخیال الاجتماعی- الدینی- السیاسی الجبّار عن التصورات «و القیم» الشعبویة، إلی العقلانیة العلمیة و النقدیة.
و ذلك لأن نقل المعرفة الجدیدة و المواقف العقلیة التی تتطلّبها لا یعلّم بشكل صحیح فی المدارس العربیة أو الإسلامیة، ناهیك عن العقبات الإیدیولوجیة التی تنشرها وسائل الاعلام و «الثقافة» الرسمیة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 47

العنف، التقدیس، الحقیقة

ذكرت فیما سبق أنی أرید دراسة موضوعین كبیرین لكی أجسّد عملیا برنامجی فی نقد العقل الإسلامی. هذان الموضوعان هما: التركیبة المجازیة للخطاب القرآنی، و قراءة انتربولوجیة لسورة التوبة. أرید القیام بذلك لكی أبیّن كیف أن العنف، و التقدیس، و الحقیقة تشكّل ثلاث قوی متداخلة و متفاعلة. و هی قوی تتحكّم بمفصلة المعنی (أو بتشكیل المعنی) و تحدید المشروعیة المعتمدة فی الخطاب الدینی كما هو متجسّد فی القرآن و الكتابات المقدسة الأخری. لقد كرست وقتا كبیرا جدا، و كذلك طاقة كبیرة لبلورة هذه المقاربات المهمّة شفهیا، و ذلك من خلال المحاضرات التی ألقیتها فی زوایا العالم الأربع (فی:
أمریكا، و أوروبا، و إفریقیا و آسیا). و هكذا تأخرت فی إنجاز هذین المشروعین كتابة. و لكنّی ما زلت آمل فی امكانیة انجازهما. و قد حاولت جاهدا أن أدفع بعض تلامذتی للبحث فی هذین الاتجاهین، و لكنّی كنت أسمع منهم دائما نفس الجواب: المسلمون یعارضون دراسة القرآن من خلال المفاهیم المعتبرة «خطرة» فی ظل المناخ الایدیولوجی الحالی. لا، إنّ بعض المسلمین یقبلون بالمناهج الجدیدة الاستكشافیة، و لكنهم یجدون من الصعب جدا إنجاز هذه الدراسات الجادّة فی الوقت المخصّص لإعداد أطروحة دكتوراه.
بدراستنا للمثلث المفهومی «عنف، تقدیس، حقیقة»، نستطیع أن نذهب بعیدا أكثر فی محاولتنا للتفكیر فی «اللامفكّر فیه» الضخم و المتراكم فی الفكر الإسلامی الموروث و المعاصر. و نقصد باللامفكّر فیه الضخم هنا الكشف عن تاریخیة الخطاب الدینی مع علاقته بالخطاب التأریخی الأكثر عمومیة و شمولیة. نحن نعلم أن مسألة التاریخیة اتخذت مكانة مركزیة بالنسبة للفكر الحدیث بدءا من القرن الثامن عشر. و هی تحلیل فی آن معا إلی الممارسة التوسعیة للتاریخ النقدی بصفته علما شاملا داخل العلوم الاجتماعیة، ثم إلی تأثیر هذا العلم علی البحث الفلسفی. و نقصد بذلك تأثیره علی فیكو «*» (1668- 1744)،
______________________________
* فیكوVico : هو أول مفكّر فی الغرب یبلور مفهوم التاریخیة، أی ینصّ علی أن البشر هم الذین یصنعون التاریخ، و لیس القوی الغیبیة كما یتوهمون. و بالتالی فالتاریخ كله بشری من أقصاه إلی أقصاه. و قد اعترف له بذلك فیما بعد كل من هیغل و كروتشه. و لكن أصالته الابتكاریة لم تتوقف عند هذا الحد. فقد رفض أن تكون فكرة الحضارة قد أو حیت للإنسان، و قال بأن أفضل طریقة.
لدراسة التاریخ البشری هی الطریقة الفیلولوجیة المقارنة. فمنهجیة المقارنة بین مختلف الحضارات التی شهدتها البشریة تشبه المنهجیة التجریبیة فی العلوم الطبیعیة. و عن طریق دراستنا لتطور اللغة تظهر لنا التحولات الاجتماعیة التی طرأت علی الشعوب. فاللغة هی مرآة الشعب. و لذا ینبغی تألیف قاموس تاریخی للغة لكی تتبدّی المراحل التاریخیة المتتابعة التی مرّ بها الشعب منذ قدیم الأزمان و حتی الیوم. و لكن حتی تاریخیة فیكو كانت لها محدودیتها. فهو یقول مثلا بأن الدین.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 48
و علی هیردیر «*» (1744- 1803)، و دیلثی «**» (1833- 1911)، و هیدغر (1889- 1976)، و جان بول سارتر، و ریمون آرون، و بول ریكور، و آخرین عدیدین. إن مجرد ذكر هذا الخط الفكری المتمثّل بكل هؤلاء المفكّرین الأوروبیین و نحن نتحدث عن القرآن بصفته و حیا یعنی الكفر أو الإلحاد بالنسبة لكل هؤلاء المسلمین. أقصد المسلمین الذین لا یستطیعون أن یفهموا الفكرة التالیة: إن التاریخیة لیست مجرد لعبة ابتكرها الغربیون من أجل الغربیین، و إنما هی شی‌ء یخصّ الشرط البشری منذ أن ظهر الجنس البشری علی وجه الأرض. و لا توجد طریقة أخری لتفسیر أی نوع من أنواع ما ندعوه بالوحی أو أی مستوی من مستویاته خارج تاریخیة انبثاقه، و تطوّره أو نموّه عبر التاریخ، ثم المتغیرات التی تطرأ علیه تحت ضغط التاریخ كما شرحنا ذلك آنفا. ینبغی أن أكرر هنا مرة. أخری ما یلی: إن التاریخیة أصبحت «اللامفكّر فیه» الأعظم بالنسبة للفكر الإسلامی لسبب تاریخی واضح جدا یتمثّل فی رد الفعل السنّی الذی حصل علی ید المتوكل عام 848 م، أی قبل حوالی ألف و مائتی سنة. ثم تلاه و رسّخه رد الفعل القادری، و هو رد الفعل الذی أدی إلی تصفیة الفلسفة التی تشتمل علی علم الكلام المعتزلی و بخاصة ما یتعلق منه بالاطروحة القائلة بخلق القرآن. و قد سارت علی نهج المتوكل جمیع الأنظمة السیاسیة التی تعاقبت علی أرض الإسلام منذ ذلك الوقت و حتی یومنا هذا. و بالتالی، فإن هذا اللامفكّر فیه متولّد عن الدعم السیاسی للإسلام «الارثوذكسی» فی جمیع نسخه: السنیّة، و الشیعیة الإمامیة أو الإسماعیلیة أو الخارجیة.
ما ذا تعنی التاریخیة؟ إنها تعنی أساسا أن حدثا ما قد حصل بالفعل و لیس مجرد تصوّر ذهنی كما هی الحال فی الأساطیر، أو القصص الخیالیة، أو التركیبات الایدولوجیة. و من الناحیة الفلسفیة یمكن لهذا التحدید أن یقودنا إلی ممارستین علمیتین مختلفتین. إنه یقودنا
______________________________
- المسیحی هو وحده الموحی به إلیها، أما ما عداه فهو من صنع البشر!! و لكن ربما كانت له أعذاره. فقد عاش فی مجتمع كانت تهیمن علیه العقیدة المسیحیة بشكل مطلق.
* أما هیردیرHerder فقد اشتهر بكتابه عن النسبیة التاریخیة، و كانت تمثّل فكرة جدیدة فی ذلك الزمان. فكل شعب یتخیّل أن دینه أو تراثه شی‌ء كونی أو مطلق لأنه یعیش داخله كالعصفور داخل القفص، و لأنه لم یر غیره. و لكن فی الواقع لا یوجد تراث مطلق مهما كبر حجمه و اتساعه و انتشاره، و إنما عدة تراثات نسبیة للبشریة. هذا ما عبّر عنه فی كتابه: أفكار حول فلسفة تاریخ البشریة (1791). كان هیردیر تلمیذا لكانط و أستاذا لغوته.
** و أما دیلثی‌Dilthey ، فهو فیلسوف و مؤرّخ ألمانی. و كان أحد المفكّرین الأوائل الذین ساهموا فی بلورة العلوم الإنسانیة التی كانت تدعی آنذاك العلوم الأخلاقیة. و قد أولی علم التاریخ أهمیة كبری داخل العلوم الإنسانیة، و كان علی رأس الحركة التاریخیة الألمانیة. و قد انتقد الموقف المیتافیزیقی و أراد أن یحل الموقف العلمی محله. و هذا دلیل علی تعلّقه بالتاریخیة الواقعیة المحسوسة. و لكن لو لا تأثیر العلوم الطبیعیة أو الفیزیائیة لما استطاع أن یتخذ مثل هذا الموقف المتقدم فی زمانه.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 49
إما إلی التاریخویة الوضعیة، و إما إلی القول بالتاریخیة الرادیكالیة للعقل البشری نفسه، أی العقل البشری الذی لا یمكن فصله عن تأسیسه الاجتماعی- التاریخی (أو عن جذوره الاجتماعیة- التاریخیة).
كانت النزعة التاریخیة الوضعیة قد فرضت وجهة نظرها و لا تزال تفرضها حتی الآن علی النحو التالی: وحدها الأحداث، أو الوقائع، أو الأشخاص الذین وجدوا حقیقة و الذین دلّت علی وجودهم وثائق صحیحة، یمكن أن یقبلوا كمادة للتاریخ الحقیقی الفعلی. و هذا یعنی استبعاد كل العقائد و التصوّرات الجماعیة التی تحرّك المخیال الاجتماعی أو تنشّطه من ساحة علم التاریخ. نقول ذلك علی الرغم من أن هذه العقائد و التصوّرات هی قوی حاسمة تغذّی الدینامیكیة التاریخیة و تدعّمها. إنّ النمط الوضعی للعقل قد تجاهل أو أساء فهم المكانة الانتربولوجیة للخیال. أقصد الخیال بصفته ملكة شغّالة فی كل النشاطات الفنیة، و الرؤی السیاسیة؛ و أیضا الخیال بصفته وعاء لاحتواء المعتقدات و التصوّرات الجماعیة التی.
تمارس دورها كمخیال اجتماعی. و قد فعل التفسیر الحرفی الإسلامی و اللاهوت الدوغمائی شیئا مشابها للتاریخ الوضعی عند ما رفض المجاز و الوظیفة الرمزیة. نقول ذلك علی الرغم من أنهما یمثّلان الأدوات اللغویة الأكثر إبداعیة و دینامیكیة، و التی هی مستخدمة بشكل خاص فی الخطاب الدینی.
إن إعادة التفكیر فی مسألة الوحی من خلال المنظورات الفلسفیة التی فتحتها التاریخیة ضد التاریخویة الوضعیة الضّیقة سوف تجعل بالتأكید الفكر الإسلامی قادرا علی المساهمة فی إعادة التقییم الحدیثة الجاریة حالیا للمعرفة. كما و ستجعله قادرا علی إعادة اكتشاف المساهمات الاستباقیة أو الریادیة للفكر المعتزلی، و كذلك الاستكشافات الفلسفیة المتعلّقة بالخیال النبوی و الخطاب النبوی أیضا (أقول ذلك و أنا أفكر هنا بأعمال ابن سینا و أعمال ابن رشد فی آن معا).
إن سورة التوبة توفّر لنا أفضل مناسبة لكی نعید تقییم مفهوم الوحی عن طریق أخذ بعده التاریخی بعین الاعتبار، و لیس فقط كشی‌ء متعال، جوهرانی، أزلی، أبدی یقف عالیا فوق التاریخ البشری، علی الرغم من انه أرسل لهدایته و قیادته علی هذه الأرض. فمن خلال اسلوبها، و لهجتها الجدالیة الحادة، و موضوعاتها الاجتماعیة و التشریعیة و السیاسیة، و كذلك طولها، تبیّن لنا هذه السورة كیف أن الطائفة الجدیدة الولیدة قد انخرطت، بعد فتح مكّة، فی عملیة بناء المؤسّسات. و هی تستطیع أن تنقض العقود أو الاتفاقیات الموقعة سابقا مع الفئات المعارضة و تفرض علیها شروطها الجدیدة تحت التهدید بإشعال الحرب ضد كل هؤلاء المشركین الذین یرفضون شرع اللّه و رسوله (انظر بهذا الصدد الآیات الخمس الأولی من السورة، علما بأن الآیة الخامسة تدعی بآیة السیف). أما البدو (الأعراب) الذین یرفضون المشاركة فی الحرب العادلة (أی الجهاد) المعلن فی سبیل اللّه، فقد أدینوا بقسوة فی تلك
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 50
السورة. و أما أهل الكتاب فقد أخضعوا و أجبروا علی دفع الجزیة. و هكذا تمّ تصنیف أو فرز الفئات الاجتماعیة سیاسیا و لاهوتیا. و یبدو الخط (أو الحزّ) الفاصل بینها دینیا من حیث المبدأ، و لكنه فی الواقع سیاسی. وحدهم أولئك الذین عادوا إلی اللّه أو تابوا (أی استسلموا و خضعوا للقوة بالمعنی السیاسی للكلمة)، و أدوا الصلاة مع الطائفة الجدیدة، یتمّ الاعتراف بهم كأعضاء كاملین فی هذه الطائفة الموعودة بالنجاة فی الدار الآخرة. لا بل یسمح لهم فی الواقع بالتمتع بالمكانة الاجتماعیة و الحمایة؛ أی التمتع بالحقوق السیاسیة داخل الجماعة الجدیدة المنتصرة.
لنشرح بشكل أكثر ملامح هذه التاریخیة الموضّحة صراحة علی مدار السورة التاسعة، أقصد سورة التوبة. فهی تشكّل فی آن معا كل الأشیاء التالیة: التاریخ الحدثی أو الوقائعی الناتج عن طریق الجماعة الولیدة للمؤمنین و من أجلها (أقصد الجماعة التی تشكّلت بین عامی 610 و 632 م). كما و تشكّل هذه التاریخیة دینامیكیة المتغیّرات الحاصلة فی المجتمع العربی أثناء الفترة نفسها. كذلك تشكّل الوعی الاسطوری- التاریخی القادر علی مفصلة التاریخ الأرضی المحسوس أو ربطه بالتاریخ المثالی و المقدس للنجاة فی الدار الآخرة.
و هذا التاریخ المثالی المقدس هو الذی ظل المحرك الأساسی للتاریخ الأرضی المدعو إسلامیا حتی یومنا هذا. أقول ذلك و نحن نعلم ما یدین به التاریخ الحالی للمجتمعات الإسلامیة إلی الدینامیكیة المتكررة لهذا الوعی. و لكن إذا كان الخطاب القرآنی یستطیع علی هذا النحو خلع صبغة التعالی و التقدیس علی التاریخ الأرضی الأكثر دنیویة و الأكثر عادیة، فإنه لا ینبغی أن ینسینا الظرفیة الرادیكالیة للأحداث التی اتخذت كحجة أو كعلّة لظهوره.
بمعنی آخر، ینبغی أن نفكّر جیدا بالتفاوت الكائن بین الظرفیة الأولیة التی حصل فیها هذا الخطاب، و بین الدینامیكیة التی لا تستنفد للوعی الأسطوری- التاریخی التی یتغذّی منها «*».
إن وجهة النظر هذه تبدو لنا حاسمة بالنسبة لكل تفسیر قد نقوم به للنصوص الدینیة
______________________________
* ما ذا یعنی ذلك؟ إنه یعنی أن الأحداث التی حصلت و التی تتحدث عنها سورة التوبة بشكل تلمیحی أو تصریحی هی أحداث تاریخیة أرضیة حصلت بالفعل. و لكن بعد أن خلع علیها الخطاب القرآنی صبغة التعالی و رفعها من المستوی الأرضی، إلی المستوی الفوقی عن طریق ربطها بإرادة اللّه و مشیئته أصبحت مقدسة. و هكذا فقدت طابعها الأرضی، أی التاریخی، و بخاصة بعد أن مرّ علیها الزمن المتطاول، بل و تراكمت علیها أكداس الزمن إذا جاز التعبیر. و لم نعد نبصر تاریخیتها، أو نقدر علی لمحها نحن المتأخرین ... لقد طمست تاریخیتها كلیا عن طریق هیبة الخطاب الدینی التأسیسی: أی الخطاب القرآنی.
و الآن ما ذا یفعل المؤرخ المحترف؟ إنه یقوم بحركة معاكسة و یرجع فی الزمن عمیقا إلی الوراء لكی یتموضع فی لحظة القرآن، و لكی یكشف عن تاریخیة كل ما كان قد فقد تاریخیته و أصبح یبدو متعالیا كلیا.
هنا تكمن القیمة التحریریة لعمل المؤرّخین، و بخاصة إذا كانوا یسیطرون تماما علی المنهجیة التاریخیة: أی منهجیة الحفر الأركیولوجی فی الأعماق ...
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 51
التأسیسیة، ثم بشكل أخصّ لسورة التوبة. لما ذا سورة التوبة علی وجه الخصوص؟ لأن الدنیوی، و المعیاری، و السیاسی، و الظرفی العابر، یقلّص التدخل الإلهی إلی مجرد تنبیهات أو أوامر قاطعة. و لكن یبقی مع ذلك صحیحا القول إن التاریخیة المتجسدة فی السورة تشكّل بالضبط العلاقة الكائنة بین كل حقیقة و بین الزمن. و المقصود هنا الزمن القرآنی المشكّل من قبل الزمن المحدود للحیاة الأرضیة. و لكن هذا الزمن مرتبط (أو متمفصل) كلیا مع الزمن اللامحدود للحیاة الأبدیة. و هكذا نجد أن الزمن السماوی (أو الإلهی) یقدّم الإطار و المرجعیة الإجباریة للزمن الأرضی بصفته مدة معاشة، و لیس فقط مفهوما لاهوتیا أو فلسفیا. إنّ الزمن القرآنی زمن ملی‌ء، بمعنی أن كل لحظة من الفترة المعاشة مملوءة بحضور اللّه الذی یتكلّم، و یحاكم، و یتصرف أو یمارس فعله فی القرآن. ثم تحیّن هذه اللحظة أو تجسّد لاحقا فی «قلب» كل مؤمن یمارس الشعائر الدینیة یومیا، أو یمارس التأمل، أو ذكر تاریخ النجاة، أو التلاوة الشعائریة للكلام الموحی، أو السلوك الاخلاقی و الشرعی المطابق للأحكام المعیاریة المنصوص علیها من قبل اللّه.
هكذا نفهم سبب سوء التفاهم و التأویلات الخیالیة أو الوهمیة التی تكثر منها القراءة التاریخویة الوضعیة. فهی لا تهتم إلّا بالزمن الكرونولوجی للوقائع و الأحداث «*». أقصد زمن الأحداث التی جرت فی تلك الفترة و سیر الشخصیات الأساسیة كما یحاول أن یتحقق منها و یكتبها المؤرّخ «الحدیث». أقصد المؤرّخ المقطوع عن الإطار الزمنی الوجودی للإدراك أو التصور المرسّخ من قبل القرآن، ثم بشكل أعم من قبل الكتابات المقدسة للتراث الدینی الحیّ.
إنّ القراءة التاریخویة الوضعیة إذ تفعل ذلك، ترفض أن تتغلغل إلی تلك التاریخیة الخصوصیة المفهومة و المعاشة كونها عبارة عن إقامة علاقة مع الحقیقة. و هی علاقة منعشة
______________________________
* المنهجیة الوضعیة المغرقة فی علمیتها أو علمویتها لا تعترف إلا بما هو محسوس یمكن التأكد منه بلمس الید. و هی لا تؤرّخ إلّا للوقائع التی حصلت بالفعل تاریخیا أو ثبتت صحتها. أما الخیالات و التصوّرات التی تعمر رءوس البشر، و التی قد یعیشون علیها قرونا و فرونا، فهی فی نظرها أشیاء وهمیة لا تستحق الاهتمام. هكذا نجد أن «تاریخ العقلیات»، و ما ندعوه بالمخیال، غریب علیها تماما. فأجیال المؤمنین عاشت علی تصوّرات القیامة، و البعث، و یوم الحساب، و الجنة و النهار طیلة قرون و قرون لیس فقط فی الجهة الإسلامیة، و إنما أیضا فی الجهة المسیحیة. و بالتالی، إلا تستحق هذه التصوّرات التی شغلت أذهان الناس إلی مثل هذا الحدّ أن تصبح مادة لعلم التاریخ؟ نعم ینبغی أن نتجاوز المنهجیة الوضعیة فی علم التاریخ، و لكن من دون أن نتنكر لإیجابیاتها أو لمكتسباتها. كان المؤرخ الفرنسی المعروف: جان دیلیمو، قد أصدر مؤخرا كتابا كبیرا عن تاریخ الجنة، أی كیف تصوّرت أجیال المؤمنین المسیحیین الجنّة منذ أقدم العصور و حتی الیوم. و هكذا نجد أن تصوّرات البشر الخیالیة أصبحت مادّة لكتابة التاریخ، بل و تهمّ كبار المؤرخین. انظر: جان دیلیمو، تاریخ الجنة، الجزء الأول بعنوان: دار النعیم، ثم الجزء الثانی بعنوان:
ألف سنة من السعادة،Fayard ،Paris ،delicas des jardin Le : 1tome ،paradis du Histoire :J .Delumeau . 5991،Fayard ،Paris ،bonheur de ans Mille : 2tome ؛ 1995.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 52
أو مجدّدة باستمرار من قبل الزمن الملی‌ء للتجربة الدینیة، و ذلك فی مقابل الزمن المتشظّی، و المحسوب، و المحدود للوجود الدنیوی (أی الزمن السیاسی، أو الزمن الاجتماعی، أو الزمن العادی). إنه لصحیح أیضا أن كلا الزمنین یتداخلان و یولّدان الخلط بین الذری الثلاث للدینی، و السیاسی و الاجتماعی، أی ما دعوته بالدالات الثلاثة فی اللغة العربیة: دین، دنیا، دولة. و بدلا من أن یعید التفكیر فی الحدود الفاصلة و الأماكن الواصلة بین هذه الذری الثلاث بعد قرون طویلة من الخلط بینها، فإن الإسلام المدعو حدیثا قد أفسح المجال لتأمیم الدین من قبل الدولة. و هذا ما أدی إلی تضخّم الذروة السیاسیة التی تمیل الآن إلی احتكار السیطرة علی العامل الدینی من أجل سدّ النقص الواضح أو الفاضح فی مشروعیة الأنظمة السیاسیة.
أما فی الأنظمة العلمانیة و الدنیویة الأوروبیة حیث انتصر نظام الفصل بین السیاسی و الدینی، فإننا نلاحظ أن الزمن الكرونولوجی، أو الزمن الاقتصادی المحسوب بمعیار الربح و الخسارة، قد رمی فی ساحة الحیاة الخاصة لكل وعی ذلك الزمن المتناغم للأمل فی النجاة (أی الزمن الأخروی). و ینبغی أن نضیف إلی ذلك أن هذا الزمن الأخروی هو ذاته متطفّل علیه من قبل أنواع مختلفة من الأساطیر. و یتعیّن علی علم النفس التاریخی و التفسیر الحدیث أن یحدّدا نوعیة هذه الأساطیر.
و الیوم، نلاحظ أن الزمن القرآنی مفتّت و مقسوم إلی العدید من الأزمنة الاجتماعیة و الایدیولوجیة التی تشترك فی خصیصة واحدة: و هی أنها جمیعها تفرّغ (أو تحذف) تاریخیة الحقیقة المعاشة فی تجربة الإنسان مع الإلهی أو مع التقدیس. كما و تحذف فی الوقت ذاته تاریخیة التفسیر الفوضوی الذی یلجأ إلیه بشكل عشوائی الحركیّون الأصولیون من أجل تأسیس لنظام سیاسی منعوت بالإسلامی تعسّفا. إن الاعتباط أو التعسف الذی یمارسه هؤلاء فی تلاعباتهم بتفسیر القرآن یكمن فی لامبالاتهم الكاملة بالبحث اللاهوتی الممارس علی هیئة «فهم الإیمان علی محك التجربة مع الزمن». و هذا هو تعریف اللاهوتی الفرنسی المعاصر م. د. شینو «*» للإیمان. كما و یكمن هذا الاعتباط التعسفی فی جهل الحركیّین الأصولیین الكامل بالشروط الفكریة و العلمیة و الاستدلالیة المنطقیة لكل عمل تفسیری أو مبادرة تفسیریة. و نقصد بمصطلح «الاستدلالیة المنطقیة» هنا مشروعیة استخدام المحاجّات المختلفة و المتعارضة فی المناظرات اللاهوتیة.
______________________________
* الأب م. د. شینوM .D .Chenu ، هو لاهوتی فرنسی معاصر (1895- 1990)، و قد لعب دورا كبیرا فی تجدید اللاهوت المسیحی لكی یتناسب مع روح العصور الحدیثة. و هذا هو معنی كلمته القائلة بأن التدیّن الصحیح هو أن تفهم الإیمان علی محك التجربة مع الزمن. بمعنی أنه یمكنك أن تؤمن الیوم أو أن تعیش الإیمان علی طریقة العصور الوسطی مثلا. فالظروف تغیّرت و العصور تغیرت، و بالتالی فنحن بحاجة إلی إیمان جدید أقل قسریة و إكراهیة، أو شكلانیة شعائریة، من إیمان العصور السابقة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 53
فی ما یخص التفسیر القرآنی، أحبّ أن أحیل القارئ هنا إلی الكتاب الموضوع جماعیا من قبل أ. ربّین، فاریورم و أشغات، تحت عنوان: القرآن: التأویل التكوینی (أو التولیدی) «*»، بل و یمكننا أن نتحدث الیوم عن شیوع نوع من التفسیر الفوضوی كذاك الذی قام به قتلة الرهبان المسیحیین المقیمین فی منطقة تریبهیرین فی الجزائر. فقد استشهدوا بالآیة التاسعة و العشرین من سورة التوبة من أجل إضفاء «المشروعیة» علی ذلك العمل الإجرامی المضاد لكل ما علّمنا إیاه القرآن عن أهل الكتاب. كذلك قتلة الرئیس السادات، فقد فعلوا الشی‌ء نفسه. و هذا یعنی أننا لا نستطیع أن نهمل هذا «التفسیر» لكی نریح أنفسنا و نتخلّص من انحرافات الجهل و ضمیرنا مرتاح. و هذا ما یفعله جمهور المسلمین المعاصرین عند ما یقولون لك بأن أعمال العنف التی یرتكبها المتطرّفون لا یمكن أن تؤثّر فی مجمل المجتمع الذی ینتمون إلیه، و لا فی الرسالة القرآنیة التی یزعمون أنهم یستخدمونها أو ینتمون إلیها. علی العكس، ینبغی أن نأخذ علی محمل الجدّ هذه التفسیرات و تلك الممارسات. و ینبغی أن ندمجها داخل الاستخدامات الاجتماعیة و الدینیة- السیاسیة من أجل تعمیق التحلیل التفكیكی أو تجذیره بشكل أكثر. و أقصد به تحلیل العلاقات الكائنة بین العنف، و التقدیس و الحقیقة. و عندئذ تصبح المسألة الأساسیة هی التالیة: كیف یشكّل الخطاب الدینی المعنی بالنسبة لمختلف أنواع الناس الذین یستخدمونه بصفته الذروة العلیا للمشروعیة؟
نسأل ذلك و نحن نعلم أن طریقة تعبیره أو تركیبه للمعنی تقع فوق كل احتجاج أو مناقشة، و تتطلب بالتالی طاعة مباشرة، عفویة، و أكاد أقول ذلیلة بل و حتی محبة أو مغرقة فی الحب.
و هناك سؤال ثانی یتولّد عن الأول: كیف یمكن أن نجبر الناس علی أن یهضموا فی علاقتهم مع المعنی ذلك التمییز الثاقب، و لكن الحاسم، بین المعنی و أثر المعنی، إذا ما علمنا أن هذا الأخیر كان قد رسّخ من قبل الخطاب الدینی، ثم تمّ تدعیمه من قبل خطاب المیتافیزیقا الكلاسیكیة؟ أی تمّ ترسیخه و تدعیمه بصفته جوهرانیا، معصوما، مقدّسا، یتعالی علی كل المشروطیات الظرفیة للّغة، و التاریخ، و الذاكرة الثقافیة الجماعیة. و هی مشروطیات تمارس دورها داخل المثلثات الستة المذكورة آنفا و الخاصّة بكل تشكیلة (أو مفصلة) للمعنی.
إن الفكر الحدیث یتمایز عن الفكر المبنی علی ما یدعی بالمعنی الشائع أو المعنی الصائب من خلال الشی‌ء التالی: و هو أنه یؤشكل «**» كل عملیة إنتاج للمعنی، و ذلك عن
______________________________
* الكتاب بالإنكلیزیة هو التالی:،Interpretation Quran .Formative The :Ashgate ،Variorum ،A .Rippn . 9991
** كنت قد ترجمت المصطلح الفرنسی‌Problematisation بالأشكلة، و أما الفعل فهو أشكل، یؤشكل‌Problematiser ، أی جعل إشكالیا ما یبدو لنا للوهلة الأولی بدهیا أو تحصیل حاصل. و أشكلة الخطاب الدینی تعنی بالضبط: الكشف عن تاریخیته أو نزع البداهة عنه. فنحن نعتقد جمیعا أننا نفهم القرآن و نعرف ما هو لمجرد أننا و لدنا فی بیئة إسلامیة، أو نعرف الإنجیل لأننا ولدنا فی بیئة
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 54
طریق التساؤل عن الآلیّات اللّغویة، و المواقف العقلیة، و الإكراهات المختلفة التی تجعل أی شكل من أشكال المعنی أو مضامینه عابرا، أو ظرفیا، أو صدفویا، أو متحركا، أو قابلا للبرهنة علی صحته أو خطأه. أما التفسیر ما قبل الحدیث فیجهل هذا التجذیر الفلسفی للتساؤل حول المعنی و آثار المعنی.
كان علم العلاقات أو الدلالات البنیویة قد اعتقد بإمكانیة استخدام نزعة تربویة أكثر كفاءة من أجل أن تجعل العدد الأكبر من الناس یشاطرونها الشكّ المنهجی. و هذا الشكّ هو الذی یمكّننا من ألا نعتبر آثار المعنی بمثابة المعنی الجوهرانی و الموثوق لمجرد أنه متجذّر فی انطولوجیا معطاة داخل الوحی، أو مؤسّسة عقلانیا داخل میتافیزیقا ما (أو نظام میتافیزیقی معیّن). فالواقع أننا إذا ما تفحّصنا الأمور جیدا، فإننا نری أن هذا المعنی الموثوق لیس فی الحقیقة إلّا عبارة عن آثار معنی متغیّرة طبقا للتفاعلات المعقدة الكائنة بین المؤلّف- الناطق للخطاب/ النصّ، و بین القارئ الذی وجّه إلیه هذا الخطاب أو هذا النصّ (انظر ما كتبناه عن «العقلانیة المركزیة أو المنطقیة المركزیة») «*». فنحن لا نزال نتخبط فی المناقشات التجریدیة الدائرة حول موت المؤلّف و تلاشی مقاصده فی المعنی بصفته ذاتا قادرة علی الابداع «**». كما و لا نزال نتخبط فی الفوضی المعنویة المعمّمة عن طریق تدفق الذاتیات الفوضویة للقرّاء الموجّهة إلیهم هذه النصوص (و لكن هل هی ذاتیات تستعصی السیطرة علیها؟). كما و أننا لا نزال نتخبط فی المناقشات الدائرة حول سیادة إرادات القوة و الهیمنة المرتبطة بالاستخدامات الأكثر شیوعا للخطاب المتعلّق بالبحث المتعقّل و الحذر (بالمعنی الأرسطوطالیسی لكلمة حذر). و أقصد به الخطاب المتواضع، و التساؤلی، و الباحث
______________________________
- مسیحیة ... إلخ. و لكننا فی الواقع لا نعرف شیئا. إن كل ما نعرفه هو الصورة التقدیسیة المتوارثة عنه أبا عن جد منذ مئات السنین. و لكننا نجهل كلیا المعرفة التاریخیة به، أی كیف تشكّل لأول مرة، و ضمن أیة ظروف، و ما علاقته بالظروف التاریخیة التی ظهر فیها، إلخ .. كل هذا نجهله لأن معرفتنا به لا تاریخیة. إنها معرفة عبادیة، طقسیة و شعائریة بالدرجة الأولی.
* النصّ الذی یشیر إلیه أركون وارد فی كتابه: مقالات فی الفكر الإسلامی (بالفرنسیة)::M .Arkon ،islamique pensee la sur Essais :In ، ( (islamiquepensee la dans religieuse verite et Logocentisme ((. 4891،Larose et Maisonneuve ،Paris
** یشیر أركون هنا إلی الشعار الذی رفعته البنیویة (و بخاصة فوكو) حول موت المؤلّف، أو عدم وجود مؤلف بالمعنی التقلیدی المعطی لهذه الكلمة. فأی نص مخترق من قبل عدة مؤلّفین و لیس من قبل مؤلّف واحد یضع اسمه علیه، لأنه متأثر حتما بعدة نصوص سابقة علیه و لیس مخلوقا من العدم. و كما رأینا، هناك تداخلیة نصّانیة، صریحة أو ضمنیة، فی كل نصّ. و بالتالی، فنحن نتوهم عند ما نكتب نصا ما و نضع اسمنا علیه أننا خلقناه من العدم ... فی الواقع أننا كنا متأثّرین عند ما كتبناه بكل ما كنا قد قرأناه سابقا، و بكل ما یحیط بنا من كلام شفهی عن نفس الموضوع. و بالتالی، فلا ینبغی أن نغترّ كثیرا بكلمة «مؤلّف». فربما كان المؤلّف جماعیا لا فردیا. علی هذا النحو بالغت البنیویة فی حذف المؤلّف أو إعدامه.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 55
باستمرار عن المعنی من أجل تجاوز آثار المعنی. أضف إلی ذلك أن المبدأ الدیموقراطی الذی یحمی حق كل فرد/ مواطن فی فرض «اختلافه» عن طریق اتخاذ موقف القبول و الرضا، أو الرفض و الإنكار فی كل مناقشة، قد یؤدی فی سیاقات اجتماعیة- ثقافیة و لغویة عدیدة إلی تكاثر الفوضی المعنویة و التفسیر الفوضوی أو الفلتان فی كل مكان یسیطر فیه النصّ الدینی التأسیسی و یفرض نفسه كمرجعیة إجباریة، أی كمرجعیة إجباریة هادفة إلی الفصل بین الفریقین المتصارعین علی فرض «المعنی الحقیقی» و تحقیق انتصاره من حیث المبدأ، هذا فی حین أن الأمر یتعلّق فی الواقع بأخذ السلطة المطلقة أو محاولة التوصل إلیها. و كل الأساتذة المحاضرین المعتادین علی التوجّه إلی جمهور عدید و متنوّع یعرفون مدی أهمیة هذه العقبات التی هی ابستمولوجیة و سیاسیة و اجتماعیة فی آن معا. و هی عقبات تقف فی وجه كل تواصل ناجح بین المحاضر و الجمهور أو تعرقله. أقصد التواصل الناجح حول القضایا التی أثیرها هنا انطلاقا من تجربتی الشخصیة كأستاذ و كمحاضر.
إذا ما أردنا أن نأخذ بعین الاعتبار كل هذه المعطیات، فإن قراءة سورة التوبة، أو أی نصّ آخر یقدّم نفسه كنص تأسیسی، لا یمكن بعد الآن أن تعرض نفسها كمحاولة لاستخلاص «المعنی الحقیقی»، و هادفة علاوة علی ذلك إلی تأسیس الاطار المعرفی الذی یتكفّل ببلورة الأحكام الأخلاقیة، و القانونیة الفقهیة، و الروحیة و السیاسیة. و لكن هنا أیضا ینبثق صراع آخر: فالمؤمن ینتظر منا أن نقدّم له هذا المعنی الحقیقی، بل و یطالب به بشكل قطعی. لما ذا؟ لأن هذا المعنی هو الذی یضی‌ء له كل وجوده الشخصی و كل تصرفاته داخل الطائفة و فی مواجهة العالم. كما و یوجّه تصرفاته و یحقّق له الأمان و الاطمئنان. إنّ الأمر یتعلّق هنا بأولویة وجودیة ملحّة لا یمكن أن تنتظر نتائج البحث العلمی البطی‌ء بطبیعته، و غیر المضمون، بل و حتی التفكیكی أو التدمیری. و أقصد بالبحث العلمی هنا تحرّیات علم التأویل الحدیث و النقدی المتخصص بتفسیر الكتابات المقدسة. و بالتالی، فإن هذه الحاجة الوجودیة الملحّة سوف تفرض بالضرورة الأولیة العملیة للتفسیر الفوضوی أو الفلتان، و هو تفسیر ترقیعی مركب من عناصر متفرّقة من هنا و هناك. و هو الذی یغذّی الانقسامات السیاسیة، و یقوّی التفاوتات الثقافیة و الفكریة بین أبناء المجتمع الواحد أو یزید منها. كما انه سیؤخّر من عملیة السیطرة النقدیة علی المخیال الاجتماعی. و سیؤجّل أیضا عملیة الخروج المتعقّل خارج نطاق الوظائف الاستلابیة الملازمة خلال التاریخ لكل دین من الأدیان.
و أقصد بالخروج المتعقل أو «المفكّر فیه جیدا»، ذلك البحث التأویلی الذی یوضّح المعنی الغامض للدین. فالدین یهدف بصراحة إلی الرفع من شأن كرامة الشخص البشری، و لكنه من جهة أخری یشكّل ذروة مقدسة متلاعب بها من قبل الفاعلین الاجتماعیین (أو الحركیّین السیاسیین) الذین یخضعون تحیین (أو تجسید) هذا الرفع من شأن الكرامة الإنسانیة إلی إرادات القوة و الهیمنة (و هنا نلتقی بالمثلث: «روح، مجتمع، سلطة/ أو سیادة علیا».
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 56
و هذا المثلث لا یمكن فصله عن المثلث الكائن بین العوامل التالیة: عقلانی، لاعقلانی، خیالی).
لكیلا یبقی كلامنا تجریدیا أو نظریا، سنحاول فیما یلی تجسید هذه الأفكار بشكل عملی من خلال قراءة الآیة الخامسة من سورة التوبة، هی التی دعاها التفسیر الإسلامی التقلیدی بآیة السیف، تقول الآیة:
«فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركین حیث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلّوا سبیلهم إنّ اللّه غفور رحیم».
عند ما نقرأ هذه الآیة نفهم فورا سبب الحماسة المغالیة و المتهوّرة للمؤمنین الحرفیّین الذین یعتنقونها أو یرفعون لواءها من دون أی تفكیر. كما و نفهم سرّ الانزعاج الذی تسبّبه لأولئك المسلمین اللیبرالیین الذین یعتنقون المفاهیم الحدیثة لحقوق الإنسان، و الحریة الدینیة، و التسامح و حریة التفكیر و التفحّص النقدی. فإما أنهم یطبقونها بحرفیتها، أو علی حرفیتها، فی كل زمان و مكان من أجل تعزیز فكرة الجهاد بصفته الجهد المبذول من أجل الحرب العادلة و المطهّرة، و هی حرب تشنّ من أجل حلول عهد الحقیقة الموحی بها و اتساعها و انتشارها: أی الحقیقة الأبدیة، الخالدة، المقدسة؛ و إما أنهم یحاولون التحایل علیها أو التخفیف منها و جعلها نسبیة عن طریق الاستشهاد بآیات أخری أكثر مسالمة، و تحبیذا للكلام التبجیلی عن حقوق الإنسان فی القرآن «1». و لكن هؤلاء و أولئك یسقطون علی القرآن اهتمامات و مشاغل و أفكارا و أهواء سیاسیة خاصة بالتاریخ المعاصر لا بالتاریخ القدیم. و هم بذلك ینكرون تاریخیة القرآن بالقدر الذی ینكرون فیه تاریخیة الفترة الحالیة، أی فترتنا و عصرنا. و هكذا یشوهون فی نفس الحركة الواحدة من القراءة و الممارسة التاریخیة كل الشروط الحقیقیة أو الواقعیة المحسوسة التی تؤمّن اندماج الحقیقة المعاشة المختلفة عن الحقیقة المتخیّلة فی أزمنة و أنظمة فكریة متغایرة.
لما ذا اخترت هذه الآیة كنقطة انطلاق؟ لأنه حتی فی سورة التوبة المكرّسة بأكملها للتأكید علی الانتصار السیاسی و الاجتماعی و الثقافی و الاحتفال به، فإن تلك الآیة تشكّل ذروة العنف الموظّف فی خدمة «حقوق اللّه» و اللّه ذاته یقدّم نفسه هنا كحلیف أعظم للجماعة المختارة. و بهذا المعنی نقول إنّ العنف قد تم تصعیده و التسامی به علی هیئة قربان أو أضحیة تمّ الرضاء بها كتعبیر عن الطاعة المعترفة بالجمیل. و هی الطاعة المتضمّنة أو
______________________________
(1) فی ما یخصّ المناقشة الدائرة حالیا حول حقوق الإنسان فی الإسلام، انظر كتابی الصادر بالإنكلیزیة تحت عنوان: إعادة التفكیر فی الإسلام. أسئلة شائعة، أجوبة غیر مألوفة، ترجمة الباحث الأمریكی روبیرت د.
لی، الأستاذ فی جامعة كولورادو:Uncommon ،Questions Islam .Common Rethinking :M .Arkoun . 4991،Press Westview ،Oxford ،Colorado ،D .Lee Robert by Edited and Translated ،Answers
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 57
المطالب بها فی العهد أو المیثاق (العهد الكائن بین اللّه و الإنسان). بمعنی انه ینبغی علی الإنسان أن یطیع اللّه و یعبده مقابل إسباغ النعم علیه من قبل اللّه. و العنف یدلّ علیه بشكل غیر مباشر فی الآیة عن طریق أفعال من نوع: قتل، حاصر، أسر، كمن (للعدو). و هی أفعال تدل علی عملیات شائعة فی جمیع الحروب. و لكن العنف لم یدلّ علیه هنا بطریقة مباشرة بواسطة فعل «عنف» أو كلمة العنف ذاتها. و لكنه، علی أی حال، یجبرنا علی فتح مناقشة عن المشروعیة كما نفعل هنا، و أقصد بذلك مشروعیة العنف. بالطبع، إن المؤمنین یكتفون بذكر اسم اللّه و رسوله و التحجّج بهما من أجل إضفاء القدسیة و المشروعیة علی جمیع مفردات الحرب الواردة هنا. و هم مقتنعون بأنهم إنما یعملون بذلك من أجل أشرف القضایا. و هذه المجابهة بین الشعور بامتلاك الحق المرتكز علی المرجعیة المطلقة التی لا تناقش و لا تمس (أی اللّه، أو الأمة، أو الوطن، أو الشرف و العرض)، و بین انتهاكات الحق أو القانون من قبل أناس مقطوعین عن هذه المرجعیة، موجودة فی جمیع الصراعات البشریة، و إن بدرجات متفاوتة من الوعی. فدائما باسم المثلث «قانون- حقیقة- عدالة»، و هو المثلث المدعو فی القرآن بكلمة واحدة: الحقّ، أقول دائما باسم ذلك تخوض كل جماعة معركتها ضد المعارضین لها. و هؤلاء المعارضون سرعان ما یرمون فی معسكر الظلم و إنكار الحقیقة و القانون.
ینبغی أن نعلم أن استخدام العنف بصفته ردا مشروعا علی الاعتداء الموجّه ضد حقیقة الوحی، لم یتعرّض لتبریر لاهوتی فی القرآن. و لكنه كان مبجّلا فی التراث الشعری العربی السابق كثیرا علی القرآن. فالتعارض كان مشهورا بین المحاسن/ و المثالب، أو بین الفضائل/ و النقائص. و یلخّص هذا التعارض مفهوما عربیا غنیا جدا، هو مفهوم العرض.
و هذا التعارض ینزل العنف الحربی منزلة أخلاقیة و سیاسیة مستبطنة من قبل الجمیع منذ الطفولة. و بالتالی، فإننا سنرتكب مغالطة تاریخیة إذا ما رأینا معضلة لاهوتیة فی آیات سورة التوبة التی تدعو إلی الحرب العادلة باسم اللّه و رسوله.
ینبغی علینا، بادئ ذی بدء، أن نقوم بدراسة تاریخیة دقیقة للمضامین المعنویة و الانتربولوجیة للآیات المذكورة، و ذلك قبل أن نفكّر بتفحّص المسألة اللاهوتیة أو المعضلة اللاهوتیة. و هی، علی كل حال، لا تهمّ إلّا إرادة الحركیّین الأصولیین المعلنة فی تطبیق هذه الآیات ذاتها علی سیاقنا الاخلاقی، و القانونی و السیاسی الحدیث.
كان البابا یوحنا بولس الثانی قد أعلن قبل فترة قصیرة (فی 12/ 3/ 2000) توبة عامة عن جمیع أعمال العنف التی ارتكبها بعض المسیحیین علی مدار تاریخ الكنیسة الطویل.
كما و اعتذر عن أعمال الاضطهاد التی حصلت و الانحراف عن مبادئ الانجیل. إن هذه التوبة ذات مدلول لاهوتی عالی المستوی، و تتخذ أهمیة كبری فی سیاق ثقافتنا الحدیثة التی تفكّر فی العنف من خلال مبادئ فلسفیة و معاییر قانونیة كانت تستعصی علی التفكیر بالنسبة
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 58
لأجیال المؤمنین السابقة حتی انعقاد مجمع الفاتیكان الثانی علی الأقل. كان یمكن أن توسّع هذه التوبة لكی تشمل كل الأجیال الماضیة المتواصلة فی زمن النجاة الأخروی، و لكن لیس فی زمن تاریخ الأفكار و أنظمة الفكر. لما ذا؟ لأن كل فترة من فترات الفكر محكومة بحدود ما یستحیل التفكیر فیه و ما لم یفكّر فیه بعد. فالمسئولون عن محاكم التفتیش و القضاة الذین حاكموا غالیلیو لم یكونوا یستطیعون التفكیر بأنهم إنما یطبّقون آثار معنی الانجیل و لیس إرادة اللّه. نقول ذلك علی الرغم من أنهم كانوا یقولون بأن علمها عند اللّه و لا یمكن للبشر أن یتوصلوا إلیها أو إلی سبر أسرارها.
إنّ مهمة علم التأویل التأملی أو الاستبطانی لا تكمن فقط فی التأكید علی تاریخیة الآیات من أجل تعلیق تطبیقها فی السیاق الحدیث. فنحن نعلم أن هذه الاستراتیجیة التأویلیة مطبّقة من قبل بعض الشرّاح أو المفسّرین الذین یریدون تطویر بعض النقاط الخاصة بقانون العائلة علی وجه الخصوص، فی الوقت الذی یریدون فیه المحافظة علی المكانة الإلهیة للوحی. و لكننا نعتقد أن أی نقد حقیقی للعقل الدینی ینبغی أن یتمثّل فی استخدام كل مصادر المعقولیة و التفكیر التی تقدمها لنا علوم الانسان و المجتمع من أجل زحزحة إشكالیة الوحی من النظام الفكری و الموقع الابستمولوجی الخاصّ بالروح الدوغمائیة، إلی فضاءات التحلیل و التأویل التی یفتتحها الآن العقل الاستطلاعی الجدید المنبثق حدیثا.
إنّ استراتیجیة البحث هذه ینبغی أن تقودنا إلی بلورة مكانة معرفیة أكثر اتساعا و أشدّ متانة و صحة داخل منظور یؤسّس لنظریة تفسیریة للظاهرة الدینیة فی ما وراء التحریر الذی قد یقوم به كل دین معیّن بالقیاس إلی تراثه التأویلی الخاص بالذات. و عندئذ لن نعود نتوقف طویلا عند تلك التشنّجات التبجیلیة التی تخفی وراءها الدعوات إلی ممارسة عنف الجهاد المدعو بالأصغر تحت الرداء النبیل لنضال الروح الأعظم الممارس من قبل الصوفیین تحت التسمیة المربحة: الجهاد الأكبر. كذلك لن نعود نلجأ إلی تلك المقارنات الخادعة التی تتحدث عن الرأفة التی تنطوی علیها المكانة القانونیة لأهل الذمة فی الإسلام، أو عن الفظاظة المتشدّدة للاهوت المسیحی تجاه الیهود و المسلمین. و إنما ینبغی لنا أن نقوم بشی‌ء آخر مختلف جذریا: ینبغی أن ننجح فی عملیة الخروج بشكل نهائی و لا مرجوع عنه من النظام اللاهوتی للحقیقة المطلقة، هذا النظام المرتكز علی المثلث المفهومی، «عنف، تقدیس، حقیقة». و كان هذا المثلث قد دشّن و رسّخ بواسطة الخطاب النبوی نفسه. و عندئذ سوف یتخلّص الاعتقاد الدینی أیضا من الازدواجیة الثنائیة الشّغالة حتی الآن بین الوظیفة الشعائریة للنصّ المقدس المتلوّ تلاوة بصوت مسموع، و بین الوظیفة المعیاریة للنصّ المكتوب. أقول معیاریة بالقیاس إلی المدوّنات الرسمیة المغلقة أو الناجزة و التی یشرف علیها الفقهاء وحدهم.
إن هذه الازدواجیة الثنائیة المعاشة فی الحیاة الیومیة، و التی تقف بمنأی عن كل نقد،
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 59
تحیلنا فی الواقع إلی الذری المختلفة جدا للتجربة الحمیمیة مع الإلهی. و هی تجربة مقادة أو ممارسة من قبل كلّ ذات إنسانیة من جهة، و من قبل السلطة السیاسیة التی تحاول إضفاء المشروعیة علی قوانینها القضائیة بواسطة استخدام السیادة العلیا المتعالیة من جهة أخری.
و هنا، فی هذه النقطة بالذات، و تتجلّی بوضوح الحاجة النظریة و العملیة إلی التمییز بین مختلف الذری و حمایة الاستقلالیة الذاتیة لكل منها. و عند ما نعرض الأمور علی هذا النحو، نجد أن الفصل بین الذروتین الروحیة/ و الزمنیة، أو الدینیة/ و الدنیویة، یتجاوز تلك التعارضات الإیدیولوجیة و العقیمة فكریا، أقصد التعارضات الكائنة بین الكنیسة/ و النزعة المضادة للكنیسة. و هی تعارضات رسّخت باسم علمنة (أو دنیوة) تختزل العامل الدینی إلی مجرد فضلة أو بقیة من بقایا التاریخ «التحریری»، و تزیّف رهانات الجدلیة الكائنة بین المعنی/ و القوة.
إنّ هذه العلمنة النضالیة الموضوعة فی خدمة مشروع سیاسی دقیق یتمثّل فی تشكیل جمهوریة «واحدة لا تتجزأ»، قد تجاهلت إحدی مشروطیاتها التأسیسیة، و أقصد بها الانفتاح الفلسفی علی دراسة جمیع الذری البشریة التی تساهم فی إنتاج المعنی. فالمدرسة «الإلزامیة، العلمانیة، المجانیة» للجمهوریة فی فرنسا، إذ خصخصت الدین عن طریق حذفه من برامج التعلیم التی تقرّرها وزارة التربیة الوطنیة، قد ولّدت جهلا ضارّا بالبحث النقدی عن المعنی، هذا البحث الذی تقوم به الفلسفة و علوم الإنسان و المجتمع. و هذا الجهل بالظاهرة الدینیة مارس دوره أیضا كثقافة رسمیة لعدم الاعتقاد، هذا فی حین أن مسألة الظاهرة الدینیة، كما أحاول جاهدا أن أبلورها هنا، تظلّ مطروحة. و یزداد طرحها إلحاحا من الناحیتین السیاسیة و المعرفیة بعد ما كانوا قد توهموا إمكانیة التخلّص منها نهائیا عن طریق تقدّم المعرفة العلمیة الوضعیة التی طالما تسترت و تقنّعت بالمظاهر الخارجیة للمعرفة الموضوعیة و الموثوقة.
علی الرغم من التحفّظات التی عبّرنا عنها سابقا بخصوص اللحظة الدلالیة أو السیمیائیة لعلم التأویل التأملی الاستبطانی، إلّا أنه یظل من المفید أن نذكّر بالفضیلة التثقیفیة أو التربویة لهذا التدریب المنهجی الذی یتیح لنا تعطیل الهجمة المزعجة للمحاجّة اللاهوتیة. و بالتالی، فمن المفید أن نذكّر فی ما یخصّ الآیة الخامسة من سورة التوبة التی تشغلنا هنا بالحقیقة التالیة، و هی أنه لا یمكن أن نقرأها خارج البنیة التی تتحكّم بالعلاقات بین الأشخاص أو الضمائر. و أقصد بذلك إطار التواصل أو التوصیل المشترك الذی یخترق الخطاب القرآنی من أوله إلی آخره (بل و یمكننا بعد إجراء بعض التصحیحات أن نعمّم هذا الاطار لكی یشمل كل الخطاب النبوی فی التوراة و الأناجیل «*»).
______________________________
* مصطلح الخطاب النبوی (أو خطاب النبوّة)prophetique discours le لا ینطبق فقط علی القرآن، و إنما یشمل أیضا التوراة و الأناجیل. و الواقع أن للخطاب الدینی طریقة متشابهة فی استخدام اللغة. و لذا
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 60
إنّ الاسلوب التواصلی یشمل كل أنواع الأسالیب الأخری و یوجّهها، هذه الأسالیب التی تندمج داخل بعضها البعض طبقا لمراتبیة هرمیة ینبغی علی التحلیل أن یحدّدها بدقة عن طریق الكشف عن عملیات الوصل و الفصل الكلامیة «1». نحن نعلم أن العامل- الذات- المرسل الأعظم (أی اللّه) یقوم بعدة أدوار عاملیة، أی نحویة، فی القرآن. فهو أولا یظهر أو ینفجر فی وجوهنا علی هیئة «أنا» خارجیة علی النصّ، و لكنها تشكّل مصدرا نموذجیا أعلی لجمیع عملیات القول أو النطق. ثم یظهر ثانیا علی هیئة «أنا- نحن» منخرطة أو متواجدة علی كل مستویات آلیّة اشتغال الخطاب، ثم بوساطته، نجدها منخرطة فی التاریخ الأرضی «*» الذی یقوده النبی- الرسول- المبشّر. إنّ توضیح هذه الأدوار و الوظائف كما تتجلّی فی الخطاب القرآنی یتیح لنا أن نركّز الانتباه علی آلیّات مفصلة المعنی أو تشكیله، و علی كیفیة استقبال هذا المعنی من قبل السامعین المستهدفین من قبل الخطاب. علی هذا النحو راح یتشكّل الاعتقاد الجدید لغویا، و راحت تتشكّل الذات الإنسانیة الجدیدة نفسانیا.
و هی الذات المدعوة لاستبطان هذا الاعتقاد الجدید (أن تفتح قلبك علی كلام الحیاة كما یقول القرآن أو بما معناه). و عندئذ نلاحظ مدی القوة الكشفیة للخطاب النبوی الذی یصنع تحوّلات الاعتقاد و الذات فی الزمن المعاش معا من قبل المتحاربین أو المتجادلین الذین یملئون هذا الخطاب، و هم فی حالة تقارع مستمر من خلال الممارسة و الخطاب الذی یرافقها من أجل تحویرها لكی تصبح نموذجا أعلی أو قدوة مثالیة للوجود البشری.
______________________________
- یستفید أركون من أبحاث علماء أوروبا المتركزة علی العهد القدیم أو الجدید (أی علی التوراة و الإنجیل) من أجل تطبیقها علی القرآن. و أحیانا یستفیدون هم منه و من نظریاته لأنهم لا یعرفون القرآن أو التراث الإسلامی مثله. و هكذا تحصل الدراسة المقارنة و یتوسع المنظور أكثر فأكثر.
و من الفلاسفة الذین تأثر بهم أركون بول ریكورRicoeur .Paul و لكن علماء أوروبا لا یعطون القرآن حتی الآن نفس المكانة التی یعطونها للتوراة و الإنجیل. و هذا تحیّز غیر مفهوم، و یعود حتما إلی الأحكام السلبیة المسبقة الموروثة عن الماضی.
(1) انظر بحث ج. لا روسی بعنوان: «عملیة القول و الاستراتیجیات الاستدلالیة فی القرآن تحلیل لسورة طه»::in ، ( ( (Tahasourate (Coran le dans discursives strategies et Enonciatione ((:G .Laroussi :
. 171- 122.pp ، (1982) 3- 2.no ،Theorie Analyses
* هذا التحلیل الألسنی لكلمة اللّه أو للضمیر الدالّ علی اللّه یضی‌ء لنا شبكة العلاقات الضمائریة الواردة فی النص القرآنی. كما أنه یضی‌ء لنا كیفیة توزّع الأدوار بین مختلف الضمائر التی تشغّل النصّ، أی بین ضمیر «الأنا- النحن» المعظّمة الدالة علی اللّه و التی تحرك الخطاب إما من الخارج أو تتدخل فیه مباشرة.
و معلوم أن كلمة «اللّه» حاضرة فی الخطاب القرآنی بشكل هائل و تهیمن علیه من أوله إلی آخره. فقد تكررت بصیغة اللّه 2697 مرة، و بصیغة الرب 969 مرة، و أما علی هیئة الصفات الدالّة علی اللّه كالرحمن، الرحیم، المنتقم، الجبار ... إلخ، فحدث و لا حرج ... ثم هناك الضمیر الدالّ علی النبی الموجّه إلیه الخطاب علی هیئة «أنت» یا محمد، ثم الضمیر الدالّ علی البشر الذین ینبغی علی محمد أن یبلغهم بالرسالة (هم) ..
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 61
إنه یحوّرها أولا علی صعید العاملین النحویین للجماعات الحاضرة، ثم یحوّرها فیما بعد لكی تشمل جمیع الفئات و الشعوب المقودة إلی نفس عملیة «الاعتناق» أو التحوّل إلی المعتقد الجدید. فی الواقع، إنه عن طریق التدخلات المتعددة، و الناشطة، و الآنیة ل «الأنا- النحن» المعاد تحیینها أو تجسیدها من قبل الخطاب القرآنی المتلوّ و المقروء و المفسّر، فإن المخیال الدینی یتشكّل و یتخذ تماسكه. ثم یتلقی طاقة تعكسه أو تسقطه علی «الأنا» المستغلقة أو التی یتعذّر سبرها، أقصد «أنا» العامل- الذات الذی هو فی آن معا خارجی بالنسبة للخطاب و متعال علیه، و لكنه حاضر دائما. إنه المرسل الأول (مر- 1)، و المرسل إلیه فی ما یخصّ الأعمال التواصلیة، و السردیة، و المرجعیة، و المعرفیة، و التشریعیة «*» ..
إلخ. و هو علی علاقة تحالفیة مع مرسل إلیه أول (أی محمد) الذی یمتلك هو الآخر أیضا مكانة مزدوجة. فهو أولا مرسل إلیه- وصلة وصل للمرسل الأول (مر- 1)، و هو ثانیا عامل- ذات و مرسل- مبشّر (مر- 2) مفعم بالقوة الكلامیة للعبارات أو للآیات المنقولة.
و بالتالی، فهو علی هذا الصعید مسئول عن تحیین الرسالة بفضل تدخل المرسل إلیه الجماعی (و المدعو فی القرآن بالقوم، أو الناس، أو المؤمنین، و ذلك بحسب الحالات المتغیّرة للخطاب). و هذا المرسل إلیه الجماعی هو العامل- الذات المعقد الثالث. من الناحیة المثالیة یمكن القول بأنه آدم و ذریته المرتبطان كلاهما بالخالق (أی المرسل الأول) عن طریق العهد الأساسی أو المیثاق. و لكن من الناحیة العملیة المحسوسة، فإنه مشكّل فی البدایة من أهل مكّة، ثم المدینة، ثم الحجاز، ثم دار الإسلام ككل. و هی دار ینبغی أن تمتد تدریجیا لكی تشمل الأرض المعمورة و ذلك طبقا لمجریات العملیة المحدّدة فی الآیة الخامسة من سورة التوبة. لندقّق الأمور أكثر فأكثر و لنقل بأن المرسل إلیه الجماعی یشمل بحسب الآیة ذاتها الأنصار المدعوین عموما بالمؤمنین، و المعارضین المدعوین عموما بالمشركین، أو المنافقین، أو الفاسقین، أو الیهود، أو النصاری.
______________________________
* علم الألسنیات الحدیثة كان یحدد التواصل اللغوی علی النمو التالی: مرسل- رسالة ما- مرسل إلیه. هذه هی عملیة التواصل بكل بساطة. و كل خطاب لغوی یهدف إلی توصیل رسالة شفهیة أو كتابیة من المرسل إلی المرسل إلیه، أو من المخاطب إلی المخاطب. و اللّه فی الخطاب القرآنی مرسل و مرسل إلیه. بمعنی أن عنه یصدر كل شی‌ء، و إلیه یعود كل شی‌ء، كما تقول الآیة القرآنیة: «إنّا للّه و إنا إلیه راجعون». و العلاقة بین اللّه و رسوله (أو بین المرسل و المرسل إلیه) تحالفیة وثیقة. و النبی نفسه له مكانة لغویة أو توصلیة مزدوجة أیضا: فهو مرسل إلیه لأن اللّه یرسل له الرسالة، و هو مرسل إلی البشر أو مبلّغ. وحدهم البشر یتمتعون بمكانة لغویة واحدة: مرسل إلیهم. و عندئذ ینقسمون إلی قسمین، إما أن یطیعوا، و إما أن یعصوا. و فی الحالة الأولی یمدحهم القرآن كثیرا، و فی الحالة الثانیة یلعنهم كثیرا.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 62
إذا ما مزجنا بین البنیة العاملیة «*»، و الترسیمیة القانونیة لعملیة القول «**»، و الترسیمیة القانونیة للمسار السردی، فإننا نحصل، بالنسبة لكلّ الخطاب القرآنی، علی المخطط البیانی التالی:
مرسل إلیه أول- مرسل أول (أنا المتعالیة+ أنا- النحن)- الموضوع (الخطاب النبوی) مرسل إلیه أول- مرسل ثان (المتكلّم أو القائل).
المرسل إلیه الجماعی (أنصار/ معارضون).
أمام مثل هذه المصطلحات التقنیة المعقدة لا ینبغی علی القارئ أن ینزعج كثیرا و لا أن تحبط عزیمته، علی الرغم من أنها قد تبدو له متعاملة أكثر مما یجب أو متعجرفة أو بلا جدوی. فكما قلت سابقا، فإن لها هدفا تربویا و تثقیفیا. فهی التی تساعد القارئ علی استبصار الآلیّات الأزلیة التی لا تختزل لكل مفصلة لغویة و دلالیة للمعنی «***»، أقصد مفصلة هادفة إلی توصیل رسالة ما. و درجة ملاءة أو مطابقة هذه الرسالة إنما تقاس بحسب
______________________________
* المقصود بالبنیة العاملیة هناactantielle structure la : مجموعة الضمائر التی تتجادل أو حتی تتحارب داخل النصّ القرآنی. فهناك الضمائر الدالّة علی اللّه و رسوله و المؤمنین، و الضمائر الدالّة علی المعارضین. و النصّ القرآنی كله ما هو إلا مسرح للصراع بینهما. بالطبع، كان المعارضون فی البدایة هم أهل مكة فقط، ثم توسّعت دائرتهم حتی شملت البدو، و الیهود، و النصاری. و لكن نلاحظ أن أركون لم یذكر فی مخططه البیانی لا اسم اللّه و لا اسم النبی و لا اسم المؤمنین و لا اسم المشركین أو الكفّار. لما ذا؟ لكی یبقی علی الصیغة الألسنیة المحضة للصراع بین الفئات.
** بالفرنسیة:lenonciation de cononique schema .Le
*** لیس من السهل علی القارئ أن یتتبع كل هذه التحلیلات و المصطلحات الألسنیة العویصة. و أعترف أنی وجدت صعوبة كبیرة فی ترجمتها و تسهیل فهمها علی القارئ. و لكنی أدرك لما ذا ابتدأ أركون دراسته للقرآن بتطبیق المنهجیة الألسنیة. لقد أعطاها الأولویة بالقیاس إلی المنهجیة التاریخیة أو الأنتربولوجیة، و ذلك لأن النصوص الدینیة الكبری تنسینا أحیانا أنها نصوص لغویة. فمن كثیرة قدسیتها و هیبتها التی تفرضها علینا، فإننا نتوهم أنها لیست مؤلفة من حروف و ألفاظ، و تراكیب و جمل كبقیة النصوص.
و بالتالی، فإن المنهجیة الألسنیة تساعدنا علی تحیید الأحكام اللاهوتیة أو الشحنات اللاهوتیة الثقیلة التی تحیط بالنص الدینی منذ مئات السنین. یضاف إلی ذلك أن المنهجیة الألسنیة الحدیثة هی وحدها التی تستطیع أن تكشف لنا عن كیفیة تركیب المعنی (أو مفصلته كما یقول أركون) من خلال طریقة تركیب الجملة أو العبارة اللغویة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 63
عدد المنتمین إلیها أو المعتنقین الذین تثیرهم أو تجذبهم. یضاف إلی ذلك أن هذه اللغة المصطلحیة ترید أن تكون تقنیة و دقیقة عن قصد. لما ذا؟ لكی تحرّر السامع/ أو القارئ من ظلال المعانی الإجباریة التی یفرضها مباشرة المعجم الراسخ للاعتقاد الارثوذكسی. و من غیر هذه الاستراتیجیة التربویة للتحریر، فإن المسلمات اللاهوتیة للاعتقاد ما قبل النقدی كانت ستمارس فعلها بصفتها عقبات ابستمولوجیة تقف فی وجه العملیة الحاسمة الهادفة إلی تحیید نقدی للعقل الدینی.
إنّ هذا المخطط البیانی یتیح لنا أن نقرأ الآیة الخامسة من سورة التوبة بصفتها وحدة سردیة صغیرة مدمجة داخل الوحدة المركزیة الكبیرة المتمثّلة بحكایة تأسیس المیثاق الذی ربط بین اللّه و آدم (انظر قصة آدم فی مواضع متفرّقة من القرآن). و هی حكایة استعیدت و وضّحت من خلال حلقات عدیدة مشكّلة لتاریخ النجاة (تاریخ الشعوب البائدة، أدوار الأنبیاء طبقا للترسیمة العاملیة «*» نفسها المعروضة آنفا).
إن المرسل إلیه الجماعی فی مكّة و المدینة یشتمل علی معارضین یرفضون المیثاق و بالتالی، فإن النضال ضدهم ضروری لكی یتمّ تحویل رفضهم إلی اعتراف. و هكذا نلتقی هنا بالمسار السردی المشترك لكل الخطاب القرآنی، ثم عبره، لكل الخطاب النبوی.
و یتمثّل هذا المسار فی المراحل التالیة:
1- الحالة التی ینبغی تحویلها أو تغییرها (أی سحق جمیع فئات المعارضین).
2- بطل العملیة (المرسل إلیه الأول و الأنصار).
3- حلقات الصراع و تقلّباته المختلفة.
4- الاعتراف أو الحالة المحوّلة و المغیّرة (أی انتصار الإسلام).
فی ما یخص الآیة الخامسة، نلاحظ أن العامل- الذات الثانی (أی القائل أو المتكلّم) لا یظهر نحویا. و لكنه یعود إلی الظهور فی الآیة التالیّة القائلة: «و إن أحدا من المشركین استجارك فأجره حتی یسمع كلام اللّه ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا یعلمون». و أما العامل
______________________________
* المقصود بالترسیمة العاملیةactantiel schema le أن اللّه یبعث نبیا إلی قوم ما، فإما أن یسمعوه و یطیعوه و یؤمنوا باللّه الواحد، و بالتالی یحصلوا علی النجاة و الفوز العظیم فی الدار الآخرة، و إما أن یعصوه و یسخروا منه فیبیدهم اللّه (انظر قصة هود مع عاد و صالح مع ثمود فی سورة الأعراف مثلا). و فی أحیان أخری- كما حصل لمحمد- ینقسم الناس إلی قسمین: قسم معه، و قسم ضده. ثم یجری الصراع بین الطرفین حتی ینتصر النبی و أصحابه. و هكذا نلاحظ أن هناك عدة عاملین أو فاعلین‌actant منخرطین فی الصراع: «العامل الأول المهیمن علی كل شی‌ء هو بالطبع اللّه الذی یتدخل أحیانا فی التاریخ مباشرة لنصرة نبیه عند ما یكون فی وضع حرج؛ العامل الثانی هو النبی المرسل؛ العامل الثالث هو أنصاره الذین صدقوه و آمنوا به؛ العامل الرابع هو معارضوه الذین حاربوه. ثم تنتهی الملحمة الدراماتیكیة بانتصار طرف الحق علی طرف الباطل.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 64
- الذات الأول فیمكنه، كما هی الحال هنا، أن یتوجه مباشرة إلی المرسل إلیه الجماعی الذی یشتمل بالضرورة علی المرسل إلیه الأول. و هو یتوجّه إلیه بأوامر قاطعة من نوع (اقتلوا، خذوهم، احصروهم، اقعدوا لهم كل مرصد! ...). و هكذا یتم التأكید علی الوحدة العاملیة، أی: (العامل- الذات الأول الأعظم)- (العامل- الذات الثانی)- (العامل- الذات الثالث)، أو: حزب الحق- الخیر- العدل (تاریخ النجاة) المضاد لحزب الخطأ- الشرّ- الظلم (و یتمثّل بالمعارضین المشار إلیهم عن طریق ضمیر الغائب: هم). و نلاحظ أن وصف المعارضین یختزل إلی اسم واحد: المشركین. فقد جری رمیهم جمیعا و بكل قسوة فی ساحة الشر، و السلب، و الموت من دون تقدیم أی تبریر لهذه الإدانة فی السیاق المباشر علی الأقل. فی الواقع، إن كلّیة الخطاب القرآنی المعطاة من أجل الاستبطان و العیش بصفتها الكلام الموحی هی التی تقدّم التبریر و أكثر. هناك فئتان اجتماعیتان و قانونیتان (المؤمنون ضد المشركین) تتراءیان خلف الأدوار المدركة علی مستوی المفصلة النحویة أو التركیب النحوی.
أما القیمة الممیّزة للسورة برمتها فهی التوبة، و نعلم أنها تشكّل، بحسب التراث، أحد عناوین السورة. أما العنوان الآخر فهو براءة (تعرف السورة أیضا بسورة براءة). و هی التی تقرر مصیر المعارضین عن طریق تصنیفهم فی جهة النجاة/ أو فی جهة الهلاك الأبدی، فی جهة الثواب/ أو فی جهة العقاب، فی جهة الحیاة/ أو فی جهة الموت، فی ما یخصّ السجل الدینی. كما و تقرر مصیرهم فی جهة الحریة/ أو الاستعباد فی ما یخصّ أهل الكتاب (انظر الآیة رقم 29 فی ما یخصّ دفع الجزیة)؛ فی جهة الاندماج الاجتماعی/ أو النبذ و الإقصاء، فی جهة الشرف/ أو العار، فی جهة الانتصار/ أو الهزیمة، فی ما یخص السجل الاجتماعی.
و لكن هنا، كما فی أی مكان آخر من الخطاب القرآنی، فإن الرهان الدینی هو الذی یشتغل أو یمارس دوره بصفته دیكتاتوریة النهایة أو الغایة النهائیة التی لا غایة بعدها. و هكذا نری بوضوح كیف ترتسم فی الصیغة الأمریة الإیعازیة و المعیاریة و القاطعة للخطاب أولی المسارات نحو ما سیصبح التشكیل المنتظم و المتراصّ للعقائد الارثوذكسیة، و الشیفرات القانونیة الموضوعة فی خدمة السلطة السیاسیة المركزیة. و لكن سرعان ما انتقلنا من دیكتاتوریة الغایة النهائیة التی لا غایة بعدها إلی دیكتاتوریة الغایة السیاسیة فی ظل الخلفاء، و الأئمة، و السلاطین، و الأمراء، ثم الیوم القادة «الرؤساء». نقول ذلك و نحن نعلم أن الخطاب القرآنی كان یقدم الغایة النهائیة بصفتها دینیة أولا، ثم دنیویة بشكل ثانوی. إن كل العلوم الدینیة التی انتشرت و تطوّرت فی السیاقات السیاسیة منذ عهد السلالة الأمویة زادت من أهمیة التلقّی الدینی للخطاب القرآنی عن طریق التخفیض من أهمیة الغائیة الاجتماعیة و السیاسیة، و تصغیرها و سحبها فی اتجاه ما هو سلبی.
و لكی نبیّن بشكل أفضل كیف أن نص سورة التوبة یساعدنا علی الفهم الأكثر دقة
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 65
و صحة لطریقة التمفصل ما بین الغائیة الاجتماعیة- السیاسیة، و الغائیة الدینیة المحدّدة علی أساس انها البحث عن النجاة الأبدیة، فإنه یكفی أن نوضح المضامین الحقیقة للمفردات أو للمعجم اللغوی المستخدم فیها. و هی مفردات تنتظم علی هیئة حلقات معنویة تدور حول المفهوم المركزی ل «التوبة». إلیكم علی سبیل الإشارة جردة مختصرة لهذه المفردات. و هی جردة تعطینا فكرة عما أدعوه بالحلقات أو التمركزات المعنویة:
1- مؤمنون/ كافرون، فاسقون، قوم لا یعلمون.
2- صلاة، زكاة، صدقة، قربات/ جزیة، مغرم.
3- مسجد حرام، بیت اللّه، مسجد اللّه/ مسجد ضرار.
4- أمر اللّه، اللّه غفور، رحیم، توّاب، كلام اللّه، سبیل اللّه، رضوان.
5- الأشهر الحرم، نسی‌ء، كل عام مرّة أو مرتین.
6- الیوم الآخر، جنة، درجة عند اللّه، نجس، نار، خزی، فوز، طهارة.
7- تجارة، كنز، ذهب، فضة، أموال، أولاد، إخوان، أزواج، عشیرة، فتنة، قعد/ خرج، جاهد، نفر، نبر، جنود اللّه، سكینة.
8- أغنیاء، أولو الطول، المعذّرون من الأعراب، سخر، استهزأ، المهاجرون، أنصار، الذین تابعوهم بإحسان.
9- سی‌ء، خسر، حبطت أعمالهم، عدو، قتل، حارب، أخذ، غلظة/ عمل صالح، طاعة، حدود اللّه، براءة، عهد، استجار/ أولیاء، نور اللّه، الهدی، دین الحق، الدین القیّم، عالم الغیب و الشهادة، رب العرش العظیم «1».
یمكننا أن نطیل هذه اللائحة و نصنّف، طبقا للتمركزات المعنویة، كل المعجم اللفظی للسورة. و لكن الوحدات (أو الكلمات) المذكورة تكفی لتوضیح مشاكل التفسیر، و آلیّات إنتاج المعنی. و بشكل عام، فإن المعجم اللفظی للسورة و أسلوبها یظلّان علی مستوی التعیین الحرفی و الفهم المباشر. و لا نلاحظ وجود مجازات حیّة عدیدة، بل علی العكس إن عددها قلیل جدا. و أقصد بالمجازات الحیّة الإبداعات المعنویة المتكررة جدا فی الأنماط الأخری من الخطاب القرآنی: كالنمط السردی، و النمط الحكمی، و النمط التسبیحی أو الترتیلی، و النمط الكاشف أو الكشفی. أما هنا، أی فی سورة التوبة، فنجد إشارات محدّدة عن الزمان، و المكان، و الفئات الاجتماعیة المحسوسة (كیوم حنین، و مسجد ضرار،
______________________________
(1) فی ما یخصّ ترجمة كل هذه المصطلحات العربیة القرآنیة إلی اللغة الفرنسیة و الاطلاع علی شروحات أولی لها، شروحات مطبوعة أكثر مما یلزم بطابع اللاهوت التبسیطی، انظر الكتاب التالی لحمزة بو بكر (بالفرنسیة): القرآن- ترجمة جدیدة و شروحات:Coran .Traduction Le :H .Boubakeur . 2791،Denoel /Fayard ،Paris ،commentaires et nouvelle
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 66
و المسجد الحرام، و أولو الطّول، و الأعراب، إلخ ...) و كذلك الأمر فی ما یخص المنافسات المحاكاتیة (أو المزایدات) المندفعة بین الفئات المتنافسة علی الرهانات الرمزیة للسلطة، فقد عبّر عنها بوضوح من خلال التضاد الكائن بین المسجد الضارّ و الكافر (مسجد ضرار)، و المسجد المقدس (المسجد الحرام). كما و عبّر عنها من خلال التعارض الكائن بین التقویم الوثنی المتلاعب به (نسی‌ء)،/ و بین التقویم المؤسّس من قبل اللّه (یوم خلق السماوات و الأرض). و كذلك عبّر عنها من خلال التضاد الكائن بین الزكاة التی یقدّمها الإنسان للتقرّب من اللّه (أی صدقة، أو قربات)،/ و بین الضربیة المذلّة (مغرم، جزیة)، و كذلك بین العهد المتقیّد به علی غرار المیثاق،/ و العهد المنكوث به لأسباب مادّیة أو لغایات منفعیة.
إن هذه المتضادات تدخل فی الجدلیة الأكثر عمومیة و الهادفة إلی تشكیل الذات بالمعنی القوی للكلمة (و یقابل ذلك أو یعادله ذلك التضامن العاملی بین أنا- أنت- أنتم).
كما و تؤدی إلی تشكیل الآخر بالمعنی القوی أو المطلق للكلمة (أی: هم). و هذه الجدلیة هی فی البدایة اجتماعیة- سیاسیة، و لكنها سرعان ما تتحوّل إلی تركیبة سیمیائیة و معنویة ذات قدرة كبیرة علی التصعید و التسامی و التقدیس و التجذیر الانطولوجی. أقصد تسامی الواقع المعاش العادی لمختلف الفرقاء المتصارعین المقصودین فی الخطاب و إضفاء القدسیة و الانطولوجیا علیهم. و هكذا یحصل الانتقال المستمر من السیرورة الاجتماعیة- التاریخیة المعاشة إلی العبارات النموذجیة و المثالیة المتعالیة ذات الأهمیة التحریكیة للوجود (أعنی تلك التی تحدّد للوجود البشری أهدافا مثالیة لكی یتمّ التوصل إلیها). إن هذا الانتقال هو الذی سیؤمّن للخطاب القرآنی قدرة لا تنفد علی التكرّر فی حالات اجتماعیة- تاریخیة مشابهة لتلك التی كانت فی أصل بلورته الأولی (أو سبب بلورته لأول مرة). و هنا بالضبط تكمن القوة الكشفیة أو الكاشفة للخطاب النبوی. فهذه الوظیفة الكشفیة التی یمكن القبض علیها أو تلمّسها فی الآلیّات اللغویة للخطاب استخدمت فیما بعد كقاعدة محسوسة للبلورة اللاهوتیة لمفهوم الوحی. و كانت الأدبیات التی كتبت عن الإعجاز، أی عن المكانة اللغویة التی لا تضاهی للخطاب القرآنی، قد شعرت حدسیا بهذه الوظیفة الكاشفة، و لكنها جعلت منها موضوعا تبجیلیا أكثر مما اتخذتها كمادة للتفحّص اللغوی الدقیق و المنتظم.
بعد أن وصلنا فی التحلیل إلی هذا المستوی، فإنه یتعیّن علینا أن ندقّق بشكل أكثر (أو نعدّل قلیلا) من المخطط البیانی الموضّح سابقا. فالذات الكبری التی كانت فی طور الانبثاق و التشكّل و التی كانت حریصة، لأول وهلة، علی أن تضمن أمانها الاجتماعی و السیاسی، كانت لا تزال تضم بین أعضائها أشخاصا غیر موثوقین. و هم الذین دعاهم القرآن ب المنافقین و الفاسقین. و اتهمهم بأنهم یزرعون الفتنة، و یشعرون سرا بالفرح عند ما یتعرّض البطل المحوّل أو المغیّر (أی الرسول) إلی بعض النكسات أو الهزائم. و هم الذین
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 67
ینتظرون الفرصة السانحة أو المؤاتیة لكی یعودوا إلی الذات السابقة، ذاتهم الأولی. و نقصد بها التضامنات العشائریة و القبلیة ضمن إطار الشرك أو تعددیة الآلهة، أی قبل فرض التوبة المعاشة و كأنها استسلام للجماعة المنتصرة أكثر مما هو تحوّل مخلص و صادق إلی دین النجاة (و هنا یشیر القرآن إلی الفرق بین أسلم و آمن، و ذلك فی الآیة الرابعة عشرة من سورة الحجرات: «قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لمّا یدخل الایمان فی قلوبكم ..»).
هكذا نستطیع الآن أن نلمح القیمة المزدوجة للتوبة. ففی السیرورة الاجتماعیة- التاریخیة التی تحیل الیها فی الأصل، نلاحظ أنها تتمثّل أساسا فی الاستسلام من دون شروط، أقصد: استسلام المعارضین. أو قل إنها تعنی فی أحسن الظروف عقد «سلام الشجعان» الذی یتیح لمعارضی الأمس أن یصبحوا مناضلین متحمسین من أجل الانتصار المطلق للذات الكبری و المثالیة. و علامات الاستسلام تتجلی أولا فی ممارسة الشخص للصلاة و الزكاة الشرعیة (أی الصدقة). و هما عملان یقدمهما القرآن علی أساس أنهما محض دینیین. و لكن لا یغیب عن أنظارنا أن لهما وظیفة حاسمة من حیث الدمج الاجتماعی و السیاسی للفرد. فعند ما یصلّی المرء علینا وراء النبی أو مع مجموعة من المسلمین، أو عند ما یدفع ضریبة تغیر اسمها لكی تصبح صدقة أو زكاة بدلا من مغرم، فإن عمله هذا یكتسب أهمیة دینیة فی الوقت الذی یؤدی فیه الوظیفة الاجتماعیة- السیاسیة نفسها. إن ذلك یعنی كسر العصبیات أو التضامنات التقلیدیة، و التخلّی عن الآباء، و الزوجات، و الأطفال، من أجل الانضمام إلی الجماعة الجدیدة. و هذا ما یفسّر لنا سبب رفض البدو أن ینخرطوا فی الجهاد الذی قدّم لهم علی أساس أنه نضال فی سبیل اللّه. و لكنه كان فی الواقع یمارس دوره طبقا للمجریات المعتادة للصراع الذی قد یندلع بین الفئات الاجتماعیة من كل الأحجام و الأشكال. فمجریات الجهاد أو أسالیبه كانت هی نفسها مجریات و أسالیب هذه الصراعات أو الحروب السابقة علی الإسلام. فقد استخدم، مثلها، أسلوب الحصار، و نصب الكمائن، و القتل، و الأسر، و أخذ الغنیمة. و كانت له نفس غایاتها، أی التوصل إلی السلطة، ثم التوسّع و ترسیخ الدولة. و نقصد بالفئات الاجتماعیة من كل الأحجام و الأشكال: العشائر و القبائل العربیة، و ذلك بانتظار أن توسّع الفتوحات تلك الظاهرة لكی تشمل، مع الرهانات عینها، شعوبا عدیدة.
إنّ العامل- الذات- المرسل- المرسل إلیه الأعظم هو الذی یحدّد الأدوار و المكانات، و هو الذی یقرّر ما إذا كان ینبغی دمج أو رفض الأفراد و المجموعات المختلفة فی الفئة الظافرة الجدیدة. و هو یقرّر ذلك انطلاقا من تحدید مثالی للتوبة، حیث نری وجهیها الدینی و الدنیوی كلیهما «*».
______________________________
* بمعنی أن التوبة تعنی الخضوع للسلطة الجدیدة سیاسیا، و الخضوع للّه دینیا. و بالتالی فهو خضوع مزدوج:
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 68
إلیكم الآن وجه المؤمنین أو صورتهم كما یحدّدها الخطاب القرآنی: «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولیاء بعض یأمرون بالمعروف و ینهون عن المنكر و یقیمون الصلاة و یؤتون الزكاة و یطیعون اللّه و رسوله أولئك سیرحمهم اللّه أنّ اللّه عزیز حكیم. وعد اللّه المؤمنین و المؤمنات جنات تجری من تحتها الأنهار خالدین فیها و مساكن طیّبة فی جنات عدن و رضوان من اللّه أكبر ذلك هو الفوز العظیم» (سورة التوبة، الآیتان: 71- 72).
إنّ المؤمنین و المؤمنات هم- أو كانون فی البدایة- كنایة عن فئة اجتماعیة محدّدة أولا من قبل العصبیة التضامنیة التی یدینون بها لبعضهم البعض. و كانوا یشتركون فی نفس الخضوع أو الولاء للسلطة، أی للنبی. و هذه السلطة كانت قد خلعت علیها المشروعیة من قبل سیادة علیا هی: اللّه. و كانوا یمتلكون معرفة واضحة عن الخیر و الشرّ لأنهم یستطیعون أن یأمروا بالأول و ینهوا عن الثانی. و كانوا مرتبطین باللّه عن طریق عهد أو میثاق. ما ذا یقول هذا العهد؟ إنه یقضی بأن یقدّموا الطاعة للّه و رسوله مقابل حصولهم علی النجاة بأرواحهم فی الدار الآخرة. و یمهّد لهذه النجاة بنصرهم علی هذه الأرض (بمعنی أن اللّه یمهّد لنجاتهم فی الآخرة بنجاة عاجلة فی الدنیا. فهو الذی ینجّیهم و ینصرهم علی أعدائهم).
إنّ الوجه الدینی للتوبة عبارة عن مجموعة الصور و التصوّرات التی تشكّل أو تنظّم مخیالا كونیا أو عالمیا. فهناك أنهار تجری، و منازل رائعة وسط حدائق أو جنّات یستحیل علینا أن نحدد موقعها أو أن نموضعها فی زماننا و مكاننا المحسوسین. و رضی اللّه الذی یوعدون به أیضا لا یتجسّد عملیا إلّا ضمن مقیاس أنه یحظی بوساطة رضی النبی و الجماعة بأسرها. و هكذا نلتقی بالوجه الدنیوی و العملی للتوبة. و نقصد به إطاعة سلطة راسخة، أو إطاعة أحكام أخلاقیة و قانونیة و ثقافیة مقبولة من قبل أعضاء الجماعة إلی حد كبیر، لا سیما و أنهم هم منتجوها الفعلیون و ناشروها. و التوبة المحدّدة علی هذا النحو كانت تمثّل علی مدار التاریخ الإسلامی العملیة الحاسمة و الممر الاجباری لكی یعیدوا دمج مسلم منحرف داخل الجماعة (أقصد داخل طائفة المسلمین). و هذا ما حصل للمفكر الحنبلی ابن عقیل الذی أخضع للاختبار الشعائری للتوبة العلنیة، و ذلك لكی یتراجع عن المواقف المنحرفة التی اتّهم بها «*».
______________________________
- دینی و دنیوی. إنه خضوع كامل، مطلق، یشمل الدنیا و الآخرة. یقول النص: وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَیِّئاً عَسَی اللَّهُ أَنْ یَتُوبَ عَلَیْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّیهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ. أَ لَمْ یَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ یَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِیمُ [سورة التوبة، الآیات 102- 104].
* هذا یعنی أن التوبة القرآنیة تحولت إلی نموذج أعلی‌paradigme یتجاوز الأزمنة و یخترق العصور.
و الدلیل علی ذلك أنه كلما أخطأ مسلم أو انحرف عن قصد أو غیر قصد فإنه لا ینجو بجلده إلّا عن طریق تقدیم توبة علنیة علی رءوس الأشهاد. و هذا بالضبط ما حصل للمفكّر الحنبلی ابن-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 69
إنّ السیادة العلیا التی تحدّد و تنظّم الذات الكبری (أو الهویة) هی نفسها التی تحدد أیضا الآخر المختلف فی المطلق، أی أولئك الذین لا یحرمون ما حرم الله و رسوله، كما تقول الآیة التاسعة و العشرون من سورة التوبة. و هكذا نجد أن الأمر یتعلّق فعلا بالدمج الاجتماعی و الثقافی، بل و یمكن القول بالدمج السیمیائی أو الدلالی إذا ما فكّرنا فی العلامات الخارجیة للطاعة أو التقدیم الطاعة. و هذا الدمج یتمّ عن طریق الأحكام الاخلاقیة- الفقهیة و التصرّفات الطقسیة- الشعائریة التی تحدّد مجال الحلال و مجال الحرام. و إنّ جمیع ذری الوجود قد أصبحت معنیة بهذا الضبط التنظیمی. فهناك الطاهر/ و النجس أو الرجس، و هناك المقدس/ و الدنیوی، أو المسجد الحرام/ و مسجد ضرار، أو أشهر حرم/ عام، و هناك المعنی/ و القوة، الغنی/ و الفقر، الاستقامة/ و الضلالة، العدالة/ و الظلم، الصحّة/ و الخطأ، الأرض/ و السماوات .. إلخ. و لم تحدد أیّ من هذه الذری بذاتها و لذاتها، أی بطریقة مستقلّة. فكل ذروة من هذه الذری تفترض وجود الأخریات مع المحافظة علی المراتبیة الهرمیة المقدسة أو التی یتعذّر مسّها. و هذه المراتبیة تتمثّل فی: اللّه بكل صفاته، ثم النبی المبلّغ أو المبشّر، أو الوسیط، أو القائد، ثم المؤمنین المستفیدین من نعم اللّه و الطائعین الشاكرین. و هذه هی ثلاثة مستویات من التجلّی، و هی تتوافق مع ثلاثة أدوار متمایزة یقوم بها العامل- الذات- المرسل- المرسل إلیه الأعظم. فهو یملأ بحضوره قدر المخلوقات و كل الخلیقة (إذا ما استخدمنا لغة دنیویة قلنا: یملأ العالم، و البشر، و تاریخهم). و الكلّ یتلاقی فی «دین الحقیقة المطلقة»، أو «دین الحق»، أو «الدین القویم»، أی: الإسلام. و هو- أی الإسلام- مرتبط بنفس نظام ظلال المعانی المتولّدة عن التوبة «*».
و بهذا المعنی، فإن الإسلام یمثّل آخر نسخة عن الدین المقبول من قبل اللّه، أو الذی رضی به اللّه للبشر، كل البشر.
إن الفقرة السابقة لیست كافیة. لما ذا؟ لأننا إذ نستخدم مباشرة مفردات المعجم القرآنی، فإننا نتخلّی عن اللّغة الواصفة التفكیكیة لعلم العلامات السیمیائیة لكی نعید إدخال
______________________________
- عقیل، كما یذكر أركون. فقد كان عقلانیا قریبا من المعتزلة و المتصوّفة قبل أن یعتنق المذهب الحنبلی تحت الضغط و التخویف. و قد اضطر لإعلان التوبة و التراجع عن كتاباته السابقة و أفكاره التی اعتبرت منحرفة من قبل الحنابلة الذین كانوا أقویاء جدا فی بغداد آنذاك. عاش فی الفترة السلجوقیة بین عامی 1040 و 1119 م.
* المقصود بظلال المعانی‌Connotations المعانی الحافّة التی تحیط بكلمة «التوبة»، أی جمیع القیم المرتبطة بها، و التی كانت سورة التوبة قد فصّلتها و وضّحتها طبقا للآیة التالیة: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ (الآیة 112). نلاحظ أن أركون یصرّ علی استخدام مصطلحات ألسنیة و لیس لاهوتیة لوصف كیفیة تولّد المعنی فی النصّ القرآنی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 70
جمیع التحدیدات اللاهوتیة المتراكمة عن طریق قرون متطاولة من استخدام هذا المعجم و الدوران حوله و تأویله. ینبغی ألا ننسی أن لهذا المعجم اللفظی تاریخا سوف یمحی أو یتلاشی تدریجیا عن أنظار المؤمنین كلما راحت الذاكرة الثقافیة الجماعیة تتولّد أو تتشكّل عن طریق أدبیات مهمومة بالتحویر الدینی للتاریخ الدنیوی و تحویله إلی لحظة تدشینیة عظمی أو مقدسة (و هی اللحظة المعبّر عنها بنزول الوحی القرآنی). قلت مهمومة بذلك أكثر مما هی مهمومة أو مهتمة بكتابة التاریخ الفعلی للماضی أو بالتعبیر الدقیق عن الحقیقة المعاشة للماضی. و هكذا راحت جمیع كتب التاریخ الإسلامی تندرج داخل جدران حكایة تأطیریة كبیرة ذات جوهر أسطوری و لاهوتی «1».
إنّ وجهة النظر هذه تتخذ أهمیة حاسمة كما أشرت إلی ذلك فی مكان آخر. لما ذا؟
لأنها هی وحدها التی تجبرنا علی الربط بین مختلف أنواع المنهجیات التحلیلیة. و هكذا نطبّق التحلیل الألسنی، و التحلیل السیمیائی الدلالی، و التحلیل التاریخی، و التحلیل الاجتماعی أو السوسیولوجی، و التحلیل الانتربولوجی، و التحلیل الفلسفی. و علی هذا النحو نحرّر المجال أو نفسح المجال لولادة فكر تأویلی جدید للظاهرة الدینیة، و لكن من دون أن نعزلها أبدا عن الظواهر الأخری المشكّلة للواقع الاجتماعی- التاریخی الكلّی.
إننا نجد فی سورة التوبة، كما فی مقاطع أخری عدیدة من القرآن، مفاهیم من نوع:
«دین الحق» أو «الدین القویم» أو «الإسلام»، منخرطة فی الجدلیة الاجتماعیة المحرّكة من قبل فاعلین ذوی آفاق معنویة و مصالح مباشرة متغایرة. فهم، أی الفاعلون الاجتماعیون، یقومون بالمزایدة علی نفس رهانات الحقیقة و النجاة المدافع عنها من قبل فئات أخری منافسة. و نقصد بهم: الیهود، و المسیحیین، و المشركین، و الكفّار، و المنافقین. و معلوم أن أسماءهم مطبوعة أو متأثرة باستراتیجیة الدمج أو النبذ، و ذلك طبقا لتجاربهم مع النداء الذی یدعوهم لإعلان التوبة أم لا. و نلاحظ أن مفهوم اللّه الواحد مبلور لیس من أجل مضامینه الخاصة، و إنما أولا و قبل كل شی‌ء من أجل تسفیه طریقة استخدامه من قبل أهل الكتاب.
تقول السورة: وَ قالَتِ الْیَهُودُ عُزَیْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصاری الْمَسِیحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ یُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِینَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّی یُؤْفَكُونَ (الآیة 30).
______________________________
(1) لقد صدرت مؤخرا كتب عدیدة تبیّن لنا كیف أن العلوم الدینیة كانت قد شكّلت الفضاء الأسطوری (أو المثالی). و هو فضاء یسقط كل التاریخ الدنیوی علی اللحظة التدشینیة العلیا للنبوّة من أجل أن یحذف فی كل مرة الأخطاء و الانحرافات (الحاصلة بالضرورة داخل المسار التاریخی) و یرمیها خارج ما یدعوه الخطاب الإسلامی (أو الأصولی) المعاصر بالإسلام الصحیح أو الأصالة. انظر بهذا الصدد تحلیلات الباحث أوری روبان: عین الشاهد: حیاة محمد كما رؤیت من قبل المسلمین الأوائل. تحلیل نصّی:Early the by Viewed as Muhammad of Life The :Beholder the of Eye The :Rubin Uri 5991،Princeton ،Analysis Textual A .Muslims
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 71
نلاحظ هنا أن المناقشة تدور حول ذروة السیادة العلیا التی تؤسّس مشروعیة سلطة النبی و المؤمنین. و نلاحظ أیضا أن الیهود و المسیحیین مطالبون بالتراجع عن أخطائهم (أی أن یتوبوا) تماما كالمشركین. فالسلطة أو السیادة العلیا لا ینبغی بعد الآن فصاعدا أن تنتمی إلّا إلی اللّه (المعاد تحدیده بشكل صحیح من قبل العامل- الذات الأعظم المرسّخ للمیثاق الجدید)، ثم إلی النبی (الذی كان فی طور خوض المعركة علی كافة الجبهات: من عسكریة. و سیاسیة، و ثقافیة، و رمزیة «*». و هذا هو معنی الجهاد المنقذ الذی دعی إلیه المؤمنون و الذی یرفضه المتقاعسون، و المترددون، و الحانثون بوعدهم). أما المؤمنون أنفسهم، فهم موزّعون علی مراتب متفاوتة هرمیا من حیث الأهمیة و ذلك طبقا لتاریخ انخراطهم فی «الجهاد فی سبیل اللّه». فالذین انخرطوا فی وقت مبكر أفضل من الذین انخرطوا فی وقت متأخر. و هذا الجهاد سوف یستمر علی هیئة أشكال عدیدة، و سوف یقنّن أو یقولب من قبل الفقهاء الذین سیرسمون الحدود الفاصلة دینیا و سیاسیا بین دار الإسلام/ و دار الحرب.
نلاحظ أن عبارات من نوع «قال اللّه تعالی» أو «قال تعالی» تستهلّ كل محاجّات السیادة و الهیبة من أجل تسویة الخلافات بین نفس الفئات المتنافسة أو المتصارعة و المستهدفة فی سورة التوبة. و هكذا نری كیف أن اللجوء الی المشروطیات الاجتماعیة و التاریخیة التی أحاطت بالخطاب القرآنی یجبرنا علی تعریة عملیتین أساسیتین من عملیات كل خطاب إیدیولوجی. فلكی یجعل هذا الخطاب الغایة أو بالأحری الغائیة المقترحة علی الفاعلین الاجتماعیین مطلقة، فإنه یلجأ إلی جعل وسیط هذه الغائیة مطلقا (و هو هنا دین الحق الملقّن و المقبول من قبل اللّه الحقیقی).
إن هذه العملیة المتمثّلة باضفاء السمة الإطلاقیة علی الغائیة المثلی سوف تشهد انحرافا إیدیولوجیا سریا أو خفیا عند ما تنقل الوظائف المضطلع بها نحویا، و سیمیائیا، و تاریخیا من قبل العاملین المدعوین: اللّه و رسوله، إلی الوسطاء البشریین و یضطلعون بها فعلا. و أقصد بالوسطاء البشریین هنا جمیع الفقهاء، و المفسّرین، و المؤرّخین القدامی، و القضاة. فهؤلاء هم الذین سینخرطون فی تفسیر «كلام اللّه»، و التعلیق علیه، و تكبیرة و توسیعه إلی ما لا نهایة، و ذلك تحت تأثیر الضغوط المتغیّرة للسیاقات التاریخیة، و الثقافیة، و الاجتماعیة، ثم فی ما وراءها تحت تأثیر دیمومة ظلال المعانی الإجباریة،
______________________________
* النبی لم ینتصر عسكریا فقط علی أهل مكّة، و إنما انتصر أیضا رمزیا، أی فكریا و عقائدیا. فقد أحلّ الدین الجدید (الإسلام) محل الدین العربی الذی كان سائدا آنذاك. و أما فی ما یخصّ الجهاد، فإننا نحیل القارئ إلی الكتاب الذی أصدره ألفرید مورابیا بعنوان: الجهاد فی الإسلام القروسطی (و هو بالأصل أطروحة دكتوراه): 1993،Michel Albin ،Paris ،medieval lIslam dans Gihad Le :Morabia .Alfred
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 72
و الإكراهات النحویة و السیمیائیة للخطاب القرآنی المتلوّ شفهیا و المقروء دائما «1». و یمكننا أن نتحدث هنا عن حصول محو أو طمس تاریخی للعامل- الذات- المرسل الأول و الأعظم. كیف؟ عن طریق تعرّض صورته فی مخیال المؤمنین لتحوّلات مستمرة یمكن للمؤرّخ التحلیلی وحده أن یحدّدها و یوضّحها بشكل موضوعی. فعلی مستوی اللحظة القرآنیة نلاحظ أن «اللّه» مقدّم علی نحو لكی یدرك أو یتصوّر بصفته فاعلا موجودا دائما فی الحیاة الیومیة للنبی و للمؤمنین. و هذا ما یدلّ علیه تكرر كلمة «اللّه» و صفاته باعتباره الفاعل النحوی للأفعال بشكل كثیف جدا فی القرآن، هذا فی حین أن كلمة «الإسلام» لا تتكرر إلّا سبع مرات فقط «2». و لكن فی الخطاب الإسلامی المعاصر تنعكس الأمور بشكل مذهل حقا، و ذلك لمصلحة كلمة «إسلام» التی أصبحت كالجراب تتسع لكل شی‌ء و یضعون فیها كل شی‌ء. و هذا الخطاب الإسلامی المعاصر تمّ تضخیمه من قبل المعلّقین السیاسیین أو كتّاب المقالات السریعة و الصحفیة فی الغرب. و هذا یعنی أن مفهوم اللّه كما تمّت بلورته فی القرآن لن یفلت من عمل التاریخ أو تأثیر التاریخ علی الوعی الدینی و الحیاة الدینیة. و هذه بدهیة أخری تنتج عن قراءتنا لسورة التوبة، و لكن الخطاب الإسلامی الارثوذكسی یستمر فی الإبقاء علیها داخل دائرة اللامفكّر فیه.
إن مسألة الوساطة معترف بها، و لكن لم یفكّر بها قط بشكل صحیح أو مطابق من قبل جمیع الارثوذكسیات المتولّدة عن الایدیولوجیات الكبری التی حوّلت التاریخ أو غیّرت وجه التاریخ. كل تراث الفكر التوحیدی یعترف بوساطة الأنبیاء، ثم وساطة رجال الدین «المأذونین» من أجل تحیین أو تجسید كلام اللّه الموحی. و لكن هذا الاعتراف یظلّ علی مستوی التشخیص التصوّری من أجل الإیمان، أو لنقل بشكل أفضل، من أجل المخیال الدینی الذی لا ینفصل عن المخیال الاجتماعی. و لهذا السبب نقول إنّ الباحثین انخرطوا فی التأملات التجریدیة عن علم النبوّة أكثر مما انخرطوا فی الدراسة الوضعیة أو الواقعیة لكلنا الذروتین اللتین تلعبان دور الوساطة بالنسبة لكل الوجود البشری. و نقصد بهما: ذروة اللغة فی مختلف أنماط تحقّقها أو تحقیقها للفكر (انظر المناخات السیمیائیة)، كما نقصد ذروة العامل الاجتماعی- التاریخی حیث یواصل التاریخ عمله أو تأثیره بالتفاعل مع عمل الروح أو الفكر.
______________________________
(1) إن الجانب النحوی من الخطاب القرآنی كان هو الذی حظی باهتمام التفسیر الإسلامی التقلیدی أكثر من غیره. و لكن حتی هنا نلاحظ أن ضغط المسلّمات اللاهوتیة یفعل فعله أو یظهر مفعوله. نقول ذلك و نحن نعلم كیف أن قراءات القرآن كانت قد «شذّبت» أو تم التقریب و المواءمة بینها بشكل تدریجی.
و نقصد بذلك أنهم غربلوها و نخلوها و اختاروا منها بعض العناصر و حذفوا بعضها الآخر من أجل التوصل إلی إجماع «أرثوذكسی».
(2) انظر مقالتی بعنوان «الإسلام»، الواردة فی الموسوعة القرآنیة المذكورة آنفا.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 73
إننی لا أزعم أن التراث التفسیری و اللاهوتی قد أهمل كلّیا هاتین الذروتین الوسائطیّتین، إلّا أنه عاملهما بواسطة أنماط المعقولیة الخاصّة بالفكر الجوهرانی، الذاتی، المثالی، الحرفی، العاجز عن هضم جدلیة المثلثات المفهومیة المحدّدة سابقا. ففی تاریخه الكونی، كما فی تفسیره للقرآن، نلاحظ أن الطبری ینقل كل الحكایات التأطیریة «1» المستلهمة من الرؤیا الاسطوریة، أو من التقویة الورعة للنبی من أجل أن یموضع، «تاریخیا»، كل آیة. فلم تخلق الأخبار فقط و هم الكشف التاریخی عن أسباب النزول، و إنما جعلت أیضا من الصعب التوصّل إلی الوضع الاجتماعی- التاریخی فی وظیفته الوسائطیة الأولیة. لما ذا؟ لأن الحدث الأكثر عادیة أو ابتذالا غالبا ما یحوّر و یحوّل إلی عمل معجز، أو درس نموذجی أعلی، أو مقولة لاهوتیة- فقهیة.
كنا قد بیّنا كیف أن القراءة الحدیثة لا ینبغی بعد الآن أن تحذف بشكل تعسفی أو اعتباطی الحكایات الاسطوریة كما فعل العقل الوضعی لزمن طویل بالنسبة لما دعاه بالأكاذیب، و الخرافات، أو الحكایات الشعبیة. و إنما ینبغی علینا أن ندمج هذه المادة بصفتها موضوعا یقوم علم النفس التاریخی بدراسته. و ذلك من أجل أخذ العلم بتاریخیة العقل، و الخیال، و الذاكرة الجماعیة. ینبغی أن نعلم أن جمیع القراءات المؤمنة تغنی المراجع الوثائقیة التی یحتاجها المؤلّف من أجل الإلمام بالانتربولوجیا الدینیة الخاصة بأی سیاق اجتماعی- تاریخی. و یمكن القول بهذا الصدد إنّ الخطاب القرآنی یمارس قراءة إیمانیة لذلك التراث الطویل الذی یمثّله تاریخ النجاة بالنسبة لأهل الكتاب. و لكنه یضیف إلیه دینامیكیته الخلّاقة الخاصّة عن طریق إعادة تنقیح أو تعدیل الرمزانیة التحتیة المتضمّنة فی هذا التراث. و لكی یفعل ذلك، فإنه یبنی عن طریق لمسات أو تعدیلات متتالیة المكانة الروحیة للنبی- الرسول الذی یسهم فی التغییر النهائی و الأخیر للمیثاق. ففی مرّات عدیدة یطلب من هذا النبی (أی من محمد) ألا ینبهر أو یخاف من ثروة المعارضین له أو غناهم، أو من كثرة أولادهم «*». و عندئذ یقوم الخطاب القرآنی بإجراء نوع من التسامی أو التصعید علی البطل المحوّل أو المغیّر للتاریخ. یقول القرآن: «و ما لكم من دون اللّه من ولیّ و لا نصیر» (الآیة 116)، ثم: لا یُصِیبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ (الآیة 120). ثم عند ما یشعر النبی بالیأس، ینبغی له أن یفهم ما یلی: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِیَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَیْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِیمِ (الآیة 129).
______________________________
(1) فی ما یخصّ مفهوم الحكایة التأطیریة، أی التی تؤطّر للموضوع أو تمهّد له، فینبغی القول بأنه مستمد من النقد الأدبی. و قد استخدم بشكل خاص من أجل دراسة حكایات ألف لیلة و لیلة. و لكنّی استخدمته أیضا فی دراسة سورة الكهف الواردة فی هذا الكتاب. و قد استخدمته لأول مرة فی كتابی: قراءات فی القرآن، مرجع مذكور سابقا.
* الآیة التی یشیر إلیها أركون هنا هی التالیة: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُعَذِّبَهُمْ بِها فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ [الآیة 55]. و فیما بعد تقول الآیة (73): یا أَیُّهَا النَّبِیُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِینَ وَ اغْلُظْ عَلَیْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِیرُ.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 74
كلّ مؤمن سوف یحاول أن یستملك مضامین الأمل و آفاقه التی فتحتها له هذه الآیة.
و هنا تكمن میزة أو فرادة القراءة الإیمانیة الوجودیة للقرآن. و ذلك لأن صیاغته اللغویة تلبّی بالضبط أمل المؤمنین هذا من أجل بعث الرجاء إلی ما لا نهایة فی حالات الهلع، و المحن، و اضطراب حبل الأمن أو انعدامه، ثم بشكل یتعذّر تجاوزه أمام الموت المحتّم. فالمسلمون یرافقون المیت مثلا أیا تكن مرتبته الاجتماعیة أثناء حیاته و هم یرددون: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَیْهِ راجِعُونَ. صحیح أن التلاوة الشعائریة لهذه الآیة لا تعنی بالضرورة أن كل مسلم قد استبطن مضمونها. و لكن العبارة تتیح لنا أن نقیس إلی أی مدی نسینا فیه هذا التفكیر التأملی و المتماسك حقا فی ما یخصّ الموت. فقد هجر هذا التفكیر ثقافتنا الحدیثة القائمة علی عدم الاعتقاد أو عدم الایمان (فی نظام الحداثة لا توجد إلّا حیاة واحدة هی التی نعیشها.
و بالتالی فالموت یشكل قطیعة عدمیة و نهائیة لأنه لا توجد حیاة بعد الموت ...).
و إذا كنا نجد فی إطار سورة التوبة إیعازات تعبّر بالأحری عن موقف قوة لدی البطل المغیّر أو المحوّل، فذلك لأن مكّة كانت قد فتحت و أصبح أمن الطائفة مضمونا بشكل أفضل. و هكذا نجد أن البطل یستطیع، بل و یتوجب علیه أن یمتنع عن الصلاة علی المیت، أو الوقوف أمام قبره إذا كان أحد أولئك الذین «ماتوا و هم فاسقون» كما تقول الآیة الرابعة و الثمانون. و ینبغی علیه أن یرفض إشراكهم فی الجهاد حتی و لو طلبوا ذلك. كما و ینبغی علیه أن یقتلهم و یخوض ضدهم معركة لا شفقة فیها و لا رحمة، و یجبرهم علی دفع الجزیة و هم صاغرون ... و هكذا ننتقل من التبشیر الموجّه إلی «القلب»، أی إلی أولئك الذین لهم آذان لكی یسمعوا بها و عیون لكی یبصروا بها، إلی التصرّف السیاسی التمییزی المتحیّز الذی یحدّد الانتماءات، و الالتزامات، و التصرفات باسم نظام جدید من القیم التی كانت فی طور التشكّل و الانبثاق و الترسّخ.
إن إعلان الانتماء إلی هذا النظام هو الذی یفسّر لنا سبب تسفیه العصبیات التضامنیة الممارسة لدی الخصم أو الحطّ من قدرها. و هی عصبیات ممارسة داخل إطار تعددیة الآلهة (أی الشرك) كما هو معلوم. كما و یفسّر لنا سبب تعظیم القرآن للقطیعة مع الآباء، و الأبناء، و العشیرة، و الغنی، و الحیاة المادیة المباشرة، و كل ذلك من أجل إعادة تأسیس الرابطة الاجتماعیة علی أسس أخری غیر السابقة. فالصلاة علی المیت مثلا یعتبر عملا علنیا یرسّخ لیس فقط دمج كل فرد داخل الجماعة، و إنما یمثّل أیضا تواصلا روحیا و حمیمیا مع بقیة أعضاء الجماعة، و هم جمیعا مدعوون إلی الدخول فی تاریخ النجاة. و بالتالی، فإن منع الصلاة علی الذین ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ إنما یهدف إلی رسم حدود سیاسیة فاصلة بین طرفین، و اعتبار هذه الحدود بمثابة الشرط الأساسی للدخول فی تاریخ النجاة. و هذا الدخول یمثّل الرهان الأعظم لكل التحوّلات أو المتغیرات المبتغاة فی السورة المعنیّة
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 75
و كذلك فی الخطاب النبوی برمته. فالمقصود فی نهایة المطاف هو نزع القداسة عن العصبیات القدیمة عن طریق تقدیس العصبیات الجدیدة.
و ینطبق الشی‌ء ذاته علی الثروات و الأملاك. فلا قداسة لها إذا كانت عند الخصم، و لكن یعاد تقدیسها عند ما تصبح ملكا للمؤمنین الذین «یطهرّونها» أو ینظّفونها عن طریق الزكاة أو الصدقة المقدّمة إلی الفقراء، و الیتامی، و المسافرین. و هكذا نلاحظ أن البعد الاجتماعی و السیاسی مرتبط دائما بالذروة الدینیة العلیا التی تضفی المشروعیة علی الأشیاء.
نقول ذلك و لا سیما أن المستفیدین المعدودین فی الآیة 60 من السورة آتون اجتماعیا من ظروف التجنید و الحرب المفروضة علی حزب المؤمنین «*». و بالتالی، فإن الأمر یتعلّق، موضوعیا، بصدام عنیف حاصل بین نظامین من أنظمة العصبیة و التضامن. و هما نظامان یؤسّسان سلطتین متنافستین. و علی الرغم من أصوله الآنیة و الدنیویة، فإن النظام الذی سیصبح فیما بعد «إسلامیا» سوف یحافظ بفضل القرآن و توسعاته التفسیریة علی قیمة مقدّسة و مقدّسة «1».
و الشی‌ء الأكثر دلالة و أهمیة هنا هو كیفیة معالجة مكانة الشخص البشری ضمن هذا السیاق من الصراع الهادف إلی السیطرة علی السلطة الكاملة (أی من دون مشاركة أحد).
فبقدر ما أنّ المؤمنین و المؤمنات قد رفعوا إلی مرتبة مادیة و قانونیة و أخلاقیة و روحیة مثالیة (انظر كل الآیات التی تخاطبهم مباشرة «**»)، بقدر ما أن الكفّار، و الفاسقین، و المنافقین، و البدو (الأعراب) یعاملون معاملة قاسیة جدا و سلبیة تماما. فمصیرهم، بحسب الخطاب القرآنی، الموت، و الشناعة، و النجاسة، و العذاب الأبدی، و انعدام الكرامة الإنسانیة (أی لا
______________________________
* تقول الآیة 60 ما یلی: «إنما الصدقات للفقراء و المساكین و العاملین علیها و المؤلّفة قلوبهم و فی الرقاب و الغارمین و فی سبیل اللّه و ابن السبیل فریضة من اللّه و اللّه علیم حكیم».
(1) إن الوظیفة التقدیسیة التی تتمتع بها الثروات المادیة واضحة جدا فی ما یدعونه بالأوقاف الإسلامیة.
و لكن علی مستوی المرحلة الخاصة بالعمل النبوی، فإن الأمر كان یتعلق بإحلال نمط من الدمج الاجتماعی محل نمط آخر (أی بإحلال الإسلام محل الجاهلیة).
** الآیات التی ترفع من قیمة الفئة الجدیدة الصاعدة (أی المؤمنین) تتلو مباشرة أو تسبق الآیات التی تخفض من قیمة الفئة الاجتماعیة القدیمة التی أخذت تنهزم و تفقد مواقعها تدریجیا (أی المدعوة بالكافرین).
لنستمع إلی بعضها: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ یُطِیعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَیَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَ مَساكِنَ طَیِّبَةً فِی جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ [الآیتان 71- 72]. أما الآیات التی تهاجم الفئة المضادة فتقول مثلا:
الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ یَقْبِضُونَ أَیْدِیَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِیَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِینَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِینَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِینَ فِیها هِیَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِیمٌ [الآیتان 67- 68].
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 76
یتمتعون بمكانة الشخص البشری). لما ذا یحتقرون كل هذا الاحتقار؟ لأنهم یتجرءون علی «الخوض و اللعب» و «الاستهزاء» عند ما تنزل آیة من الآیات (انظر الآیتین 64- 65) «*»؛ و لأنهم یبنون مسجدا منافسا لمسجد النبی من أجل الاعتراض علی الرمزانیة الدینیة الجدیدة، بل و تدمیرها؛ و لأنهم حانثون بالیمین و ینقضون العهود و المواثیق التی قطعوها علی أنفسهم؛ كما أنهم یرفضون الاعتراف بالمقدس الجدید و یستمرون فی التأكید علی صلاحیة المقدس الموروث عن آبائهم ... و لذا فإن توبة اللّه ذاتها ممنوعة علیهم. فالتوبة مستحیلة لأننا فی مرحلة حرجة لا یزال فیها بعض من هم فی معسكر المؤمنین یستمعون إلی زارعی الفتنة و الشغب و التشكیك و التمرد «**» (كما جاء فی الآیة 47).
و لكن قد تقول العلوم الاجتماعیة السائدة الیوم: إنّ كل هذا لیس إلّا انقساما إیدیولوجیا ثنائیا بین فئتین اجتماعیتین متنافستین علی السیطرة علی الرأسمال الرمزی الذی لا بد منه من أجل إضفاء المشروعیة علی السلطات السیاسیة. ربما. لیكن. و لكن هذا التفسیر یبقی اختزالیا إذا لم یأخذ بعین الاعتبار بعد الأمل بصفته قوة محفّزة للهمم و موضوعا لتحقّق الروح من خلال الإكراهات المادیة التی لا یمكن تجاهلها أو تجاوزها. و هناك اختزال أیضا فی ما یخصّ نقطة محدّدة تماما من البحث الذی قادنا إلی القیام بهذا المسار و ذلك بمساعدة سورة التوبة. و أقصد بذلك ما یلی: نحن نهدف من خلال هذه الدراسة كلها إلی زحزحة مفهوم الوحی و تجاوزه. أقصد: زحزحة و تجاوز التصور الساذج و التقلیدی
______________________________
* كانت المعركة علی أشدّها بین الطرفین. و قد استخدمت فیها جمیع الأسلحة من مادیة و معنویة. و من هذه الأسلحة الاستهزاء بالخصم أو السخریة منه. تقول الآیتان المشار إلیهما هنا: یَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَیْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِی قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ. وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَیَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آیاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. و قد اتهموا النبی أكثر من مرة بأنه مجنون: «إن هو إلا شاعر أو مجنون»، و ذلك للضغط علیه و تسفیه كلامه و جعل الناس ینفضّون عنه. و بالتالی فالحرب كانت عامة شاملة. بل و وصل بهم الأمر إلی حد بناء مسجد ضرار لكی ینافس المسجد الذی أقامه النبی.
تقول الآیة: وَ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِیقاً بَیْنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَیَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنی وَ اللَّهُ یَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الآیة 107].
** لم یكن المقدّس الجدید الذی جاء به القرآن قد فرض نفسه بعد. و كان المقدّس القدیم الموروث عن الآباء و الأجداد لا یزال قویا راسخا فی العقول (أو فی عقول الكثیرین علی الأقل). و بالتالی، فالمعركة كانت فی الواقع بین المقدّسات: أی بین مقدس قدیم و مقدس جدید یرید أن یزیحه و یحل محله. و من یربح معركة المقدّسات یربح المعركة الاجتماعیة و السیاسیة- أی السلطویة. و بالتالی، فالرهان كان كبیرا جدا. و بما أن المعركة لم تكن قد حسمت بعد تماما، فإن النبی كان یخشی أن یتوصل المعارضون إلی شقّ اتباعه أو استمالة بعضهم عن طریق التشكیك و الفتنة. تقول الآیة: لَوْ خَرَجُوا فِیكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ یَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِیكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِیمٌ بِالظَّالِمِینَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّی جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ [الآیتان 47- 48].
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 77
الذی قدمته الأنظمة اللاهوتیة عنه. نحن نرید أن نزحزحه باتجاه فهم أكثر محسوسیة، و موضوعیة، و لكن لیس اختزالیا. فبعد كل ما بیّناه سابقا، فإنه من المهم أن نقول ما یلی:
علی صعید الخطاب القرآنی، نلاحظ أن دینامیكیة نزع التقدیس/ التقدیس هی التی تتغلّب علی التقسیم الكائن بین المقدّس/ و الدنیوی، أو الطاهر/ و النجس، أو النجاة/ و الهلاك، أو الخیر/ و الشرّ، أو الطیب/ و الفاسد. إلخ. و لكن عند ما یتمّ تأمیم الدین بدءا من الأمویین، فإن هذا التقسیم سوف یصبح مكتسبا نهائیا، مقنّنا، مجمّدا من خلال التكرار الشعائری و التطبیق الأعظم للقانون المقدس. علی مستوی سورة التوبة، كان لا یزال ممكنا أن تنعكس جمیع العلامات حتی بعد فتح الفضاء المقدّس المتمثّل بمكّة. و هذه الدینامیكیة المعاشة و الموضّحة تماما من خلال معجم الخطاب القرآنی و تركیبته النحویة و بلاغته الاسلوبیة هی التی تصنع الفرق الحاسم و النهائی بین ما كنت قد دعوته بالظاهرة القرآنیة و الظاهرة الإسلامیة «1». و أقصد بذلك الفرق بین التوتر الروحی الهائل المتجه نحو مطلق محدوس أو مستشعر به، و بین التقنین الطقسی و الشرعی لخطوط التقسیم المرسومة و المفروضة من قبل الدولة الامبراطوریة أو من قبل العدید من السلطات المحلیة التی تنسب نفسها جمیعا إلی الرسالة الأولیة أو التدشینیة.
علی الرغم من كل ما قلته سابقا، فإن بعضهم سوف یستمر فی تقییم القرآن و الإسلام انطلاقا من التحدید الحدیث للكرامة الإنسانیة، و بما یتجاوز الانتماءات العرقیة، و الطائفیة، و الایدیولوجیة. لكل هؤلاء أرید أن أذكّرهم بقاعدة أساسیة من قواعد المعرفة و بحقیقة لا تتغیر و لا تتبدّل. تقول هذه القاعدة أو تلك الحقیقة: یمنع منعا باتا اللجوء إلی المغالطة التاریخیة من أجل التلاعب بالماضی لأغراض إیدیولوجیة. نقول ذلك و نحن نعلم أن هذه القاعدة یمكن أن تنتهك حتی من قبل مؤرخین محترفین، فما بالك بالتبجیلیین و الایدیولوجیین الحركیّین؟ مهما یكن من أمر، فإن حقیقة الأمور مختلفة. فواقع الحال فی السیاقات الإسلامیة المعاصرة هو استمراریة نفس الجمود الفكری، و نفس الرفض للشخص البشری و حقوقه و كرامته. و مع ذلك، تسمعهم یتحدثون عن حقوق الإنسان فی هذه السیاقات علی سبیل المماحكة الإیدیولوجیة التی تلازم دائما كل محاولة لاقتناص السلطة أو للقفز علیها.
و لكن الأكثر دقة و الأكثر خصوبة هو أن نقول ما یلی: إن سورة التوبة تتیح لنا أن نتعمّق أكثر فی دراسة البعد الانتربولوجی للمثلث المفهومی الذی اخترته كعنوان عریض:
«عنف، تقدیس، حقیقة». فالحروب الدینیة من طائفیة و مذهبیة، و «الحروب الوطنیة» أو القومیة التی جرت بین الأمم الأوروبیة، و حروب التحریر الوطنیة التی جرت ضد
______________________________
(1) انظر كتابیّ (بالفرنسیة): قراءات فی القرآن (1982) و نقد العقل الإسلامی (1984):- 1:M .Arkoun .op .cit ،islamique raison la de critique une -Pour 2؛op .cit ،Coran du Lectures
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 78
الاستعمار، و «الحروب العادلة» التی جرت فی منطقة الخلیج، و حرب یوغسلافیا، و حرب الشیشان، و حرب الجزائر، و حرب العراق- إیران .. إلخ. كلها حروب تقدّم أمثلة عملیة علی ما نقوله. أقصد أنها تجسّد فی السیاقات الحدیثة أمثلة عملیة علی تلك الجدلیة التی اتخذت فی سورة التوبة شكل النموذج المثالی الأعلی (بارادیغم). و نقصد بها: الجدلیة الكائنة بین الثوابت الانتربولوجیة الثلاثة: عنف، تقدیس، حقیقة.
أنّ القوة المتواترة لما یمكن أن ندعوه الآن بالنموذج الوجودی القرآنی الأعلی تكمن من جهة فی الطابع المثالی النموذجی، من الناحیتین البنیویة و الایدیولوجیة، للحالة الصراعیة التی جرت بین النبی و خصومة، و التی تمّت السیطرة علیها فی نهایة المطاف فی كل من مكّة و المدینة. هذا من جهة. و من جهة أخری، فإنها تكمن أیضا فی قوة الإیحاء، و التصوّر، و التصعید أو التسامی، و التحویر، و الثورة أو التمرد و الانتفاضة. و هی قوة تتمتع بها تمفصلات المعنی أو تراكیبه الخاصة بالخطاب النبوی دون غیره «1». فأبعاد حالة عادیة
______________________________
(1) أود أن أذكّر هنا بأن مفهوم «الخطاب النبوی» كان قد بلور أو نحت انطلاقا من التحلیل الألسنی و السیمیائی الصرف للخطاب الدینی المتجلّی فی التوراة، و الإنجیل، و القرآن. و بالتالی فهو ینطبق علی هذه المجموعات النصّیة الثلاث. و هذا یعنی أن الكتب الثلاثة تتمیز بخصائص لغویة و سیمیائیة- دلالیة مشتركة و متشابهة. و هی خصائص تمیّز الخطاب الدینی عن غیره من الخطابات علی الصعید اللغوی المحض (كالخطاب الفلسفی مثلا، أو الخطاب المنطقی الذی یستخدم اللغة بطریقة مختلفة عن طریقة الخطاب الدینی. و هذا ما اكتشفه العلماء بعد التحلیل الدقیق لخطاب التوراة، و الإنجیل، و القرآن. و لهذا السبب یحق لنا أن نتحدث عن شی‌ء اسمه الخطاب النبوی أو خطاب النبوّة أو خطاب الأنبیاءprophetique discours .le و هذا التمییز یتیح لنا أن نتجاوز معرفیا الآراء اللاهوتیة الشائعة عن مفهوم الوحی، و لكنه لا یتیح لنا أن نتجاوزها وجودیا أو حیاتیا لأنها مغروسة فی أذهان الملایین من المؤمنین منذ قرون عدیدة.
و هذه الآراء اللاهوتیة الشائعة عن الوحی كانت قد بلورت من قبل المفسّرین فی الطوائف الدینیة.
الثلاث: أی الطائفة الیهودیة، فالطائفة المسیحیة، فالطائفة الإسلامیة مع ذاكراتها الثقافیة الجماعیة المتمایزة عن بعضها البعض. فعلی الرغم من أنها جمیعا تنتمی إلی دین التوحید، إلا أنها طوّرت ذاكرات جماعیة، أی تراثات دینیة- ثقافیة- لغویة، مختلفة كثیرا، بل و متنافسة و متصارعة تاریخیا.
و هذا التمییز الذی نقیمه بین إمكانیة تجاوز النظریة التقلیدیة عن الوحی معرفیا، و بین الاستمراریة الوجودیة لهذه التحدیدات اللاهوتیة یعنی أن المكتسب المعرفی لهذه الزحزحة التی أحدثناها لا یمكنه أن ینعكس بتأثیره علی تجلیات الإیمان إلّا إذا وضعت الاستراتیجیة المعرفیة و أدواتها الفكریة تحت تصرف العدد الأكبر من البشر و ذلك بواسطة منهجیة تربویة (أو بیداغوجیة) ملائمة. نقول ذلك و نحن نعلم أن المناهج التعلیمیة لا تهتم بالتنظیرات المعرفیة الجدیدة إلّا بشكل سطحی و متأخر و بعد مرور وقت طویل علی اكتشافها. فالتنظیرات أو الكشوفات المعرفیة التی تتوصل إلیها العلوم الإنسانیة لیس من السهل فهمها و استیعابها ثم إدراجها فی البرامج التعلیمیة لكی یطلع علیها الطلاب منذ المرحلة الثانویة و حتی الجامعیة. و معلوم أن هذه هی الطریقة الوحیدة لتغییر عقول الناس و تفكیك الآراء اللاهوتیة القدیمة و الراسخة فی الذهن أبا عن جد منذ مئات السنین. و فی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 79
معاشة اتخذت توسّعا معنویا، و بلاغیا، و سیمیائیا راحت تنفتح بالفعل علی مطلق معاش من قبل كل مؤمن كمقابل داخلی مشكّل لوعی دینی. إن السیرورة التاریخیة لانبثاق هذا الوعی و ترسّخه و نشره لم تطرح حتی الآن كموضوع للدراسة. فالباحثون الغربیون یصابون بالدهشة أمام الاتساع الهائل للفتوحات و سرعة تحقیقها علی أیدی جماعة هشّة جدا من المسلمین.
كما و یتساءلون باستغراب عن سبب قدرة المسیحیین الأوائل علی مقاومة كل هذا الاضطهاد الذی تعرّضوا له. و لا یتجرأ الباحث الوضعی الغربی علی التحدّث عن دور العامل الروحی فی كل ذلك. لما ذا؟ لأنه لا یمكن أن نقیس الظواهر الروحیة بالمسطرة! لا نستطیع أن نقیسها كما نقیس عدد المحاربین أو فعالیة التكنولوجیات و الأسلحة الحربیة. و هم حتی الیوم لا یزالون یمارسون نفس الشی‌ء أو یتخذون نفس الموقف غیر المتفهم. فهم یقومون بجرد خطابات الحركات الأصولیة المعاصرة و انفجاراتها العنیفة، و لكنهم یهملون دائما مسألة البواعث الخفیّة أو الضمنیة التی تؤدی إلی هذه الانفجارات. كما و یهملون دور الطابع المعنوی الجماعی الذی یثیر مثل هذه الظواهر أو یدعمها. بمعنی آخر، إنهم، أی الباحثون الغربیون، لا یعتقدون أنه من الضروری أن یكرسوا جهدا أكبر لبلورة نظریة تفسیریة للظاهرة الدینیة الكلّیة.
كل شی‌ء یحصل كما لو أن تاریخ البشر لا یمكن أن یتولّد إلّا عن مخطط ذی نمط مانوی أو ثنوی. أقول ذلك و أنا أفكّر بالوظیفة المنقذة للبرولیتاریا الصناعیة المضادة بشكل دوغمائی للعمل الفاسد و القمعی للبورجوازیة الرأسمالیة (أو قل هذه ما فعلته الماركسیة عند ما خلعت صفة البراءة كلها علی البرولیتاریا، و الصفة الشیطانیة أو القمعیة علی البورجوازیة). فهذه المعركة لیست إلّا حلقة «حدثیة»، و بالطبع إلحادیة، من حلقات الصراع الذی جری علی مدار التاریخ. إنها تشكّل إحدی صیغ النموذج العاملی الأعلی للخطاب النبوی الذی لا یشكّل القرآن إلّا أحد تجلّیاته المحقّقة فی اللغة العربیة داخل سیاق ثقافی محروث سابقا و لفترة طویلة من قبل التبشیر الدینی المشترك لدی أهل الكتاب (الیهود و النصاری).
و لعلّ هذا ما یفسّر لنا سبب التناغم الحالی بین الإسلام و الاشتراكیة فی الخطاب المدعو بالثوری! كنا قد رأینا سابقا كیف أن القرآن یدخل جمیع عناصر و موضوعات الایدیولوجیا «الثوریة»، و نقصد بذلك: العدالة التوزیعیة من أجل الحفاظ علی حقوق
______________________________
- أثناء هذا الوقت الضائع نلاحظ أن الإنتاج المخیالی للمجتمعات البشریة و التأسیس الاجتماعی للروح و الفكر یستمران فی الهیمنة سوسیولوجیا و سیاسیا، و ذلك علی قاعدة الأنظمة المعرفیة الموروثة عن الماضی. بمعنی آخر، إن التجلیات التقلیدیة للأدیان سوف تظل لوقت طویل وسائل جبارة للتعبیة الاجتماعیة. و سوف تستمر التصوّرات التقلیدیة الموروثة عن الأنظمة اللاهوتیة فی تحریك ملایین البشر.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 80
الفقراء، و الیتامی، و الأرامل، و المساكین، و الضعفاء، و المحرومین. إنه یكفل الأخوّة الكاملة و اللامشروطة بین مختلف فئات المؤمنین- المجاهدین. كما و یفرض العدالة المطلقة فی ما یخصّ حاكم الأمة، و ذلك من أجل حمایة حقوق الجمیع عن طریق فرض احترام حقوق اللّه. كما و یأمر أیضا بالجهاد المستمر ضد كل أشكال القمع و الكذب و الضلال (و من الأمثلة علیها: فرعون، الطاغوت، المدن الضالّة). و كل هذه الأشیاء عبارة عن موضوعات منظّمة أو مشكّلة للوعی الاسطوری. كما أنها مجدّدة أو باعثة للأمل الجماعی بفضل التدخل الدوری ل «مولی الساعة»، من أنبیاء، و أئمة، و مهدیین، و مصلحین، و زعماء تاریخیین، و قاعدة سیاسیین، و «فوهرر»، و زعیم ... إلخ.

مجتمعات الكتاب المقدّس (أو المنزّل)/ الكتاب العادی‌

فی ما یخصّ الوحی، هناك أدبیات غزیرة و مربكة فعلا لأنها تكرر عقائد أرثوذكسیة قدیمة تعود إلی القرون الوسطی، و بخاصة فی ما یتعلّق بالإسلام و الیهودیة. و لذا رحت أحلّ مفهوم «مجتمعات الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی» محل مصطلح «أهل الكتاب».
و هذا المصطلح الأخیر كان القرآن هو الذی أدخله لكی یموضع الدین الجدید (أی الإسلام) داخل المنظور الروحی لتاریخ النجاة ...
لقد فعلت ذلك لكی أبرهن علی إمكانیة الخروج من أسر السیاج الدوغمائی المغلق و ذلك عن طریق إجراء زحزحات منهجیة و ابستمولوجیة علی الفكر الدینی التوحیدی أو داخله. و لكن الكثیرین لم یروا فی هذا المصطلح الجدید الذی اخترعته إلّا تقلیدا للمصطلح القرآنی «أهل الكتاب». و هكذا أهملوا كل الجهد النقدی الذی بذلته عن طریق القول بأنی أرید الدفاع عن الإسلام أو تقدیم محاجّة جدیدة لصالحه. فهذا المصطلح الجدید لیس إلّا حیلة اخترعها مفكّر مسلم للدفاع عن دینه! و هكذا تمت المحافظة علی الوضع القائم كما هو. و لم یعد أحد بحاجة لأن یتعب نفسه و یبحث عن معنی هذا المصطلح و كیف أنه یهمّ الفكر الیهودی و المسیحی المعاصر.
و لكن المسیحیین الذین یحرصون رغم كل شی‌ء علی الدخول فی حوار مع المسلمین یرفضون فورا مصطلح «مجتمعات الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی» عن طریق استخدام المقولة العقائدیة و فحواها أن المسیحیة (و بخاصة المذهب الكاثولیكی) لیست أبدا دین كتاب كالإسلام، و إنما هی دین یسوع المسیح. و المقصود بذلك ان كلمة اللّه تجسّدت فی یسوع ابن الإنسان و ابن اللّه فی آن معا. و لكن لیطمئن المسیحیون. فأنا لا أقصد أبدا النیل من هذه العقیدة، كما لا أقصد رفع القرآن إلی المستوی اللاهوتی نفسه.
أقول ذلك، و نحن نعلم أن هذه الاحتمالیة كانت قد أرعبت المسیحیین منذ القرون
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 81
الوسطی. و إنما هدفی یكمن فی ما یلی: البرهنة علی أن المفهوم اللاهوتی للكتاب المنزّل أو للكتابات المقدسة لا یمكن فصله عن المفهوم الثقافی و التاریخی و الانتربولوجی للكتاب بالمعنی العادی للكلمة: أقصد الكتاب بصفته شیئا مادیا ملموسا تستولی علیه السلطة المتجسدة إما فی الدولة، و إما فی المتعلّمین من رجال الدین الذین یخدمونها (فی الواقع، إنها تتجسد فیهما كلیهما ما إن تتخذ الدولة شكلا متماسكا كما هی علیه الحال منذ السلالة الأمویة فی دمشق عام 661 م).
و نلاحظ، فی المسیحیة، كما فی الإسلام، أن التوسّع الثقافی للكتاب یعنی ترقیة الكتابة و القراءة أو الرفع من شأنهما بصفتهما وسیلتین لا بد منهما من أجل التوصل إلی المعرفة و السلطة بشكل لا ینفصم. و كل ذلك یتمّ علی حساب مصلحة الثقافة الشفهیة، حیث التوصل إلی المعرفة مفتوح أمام الجمیع بمن فیهم العبید. و عن طریق الكتاب نلاحظ أن طبقة المتعلّمین الذین یعرفون القراءة و الكتابة تتوسّع و تصبح قویة جدا لأن الكهنة، كما الحاخامات و الأئمة، یشرفون علی سلطة التقدیس و یتحكّمون بها عن طریق الاعتماد علی الكتاب المقدّس من أجل تولید الكتب العادیة. و هی كتب تحتوی علی جمیع القوانین المنظّمة للمجتمع. و لا أقصد بها فقط القانون التشریعی أو القضائی، و إنما أیضا القوانین المعنویة، و السیمیائیة، و التأریخیة، و البلاغیة، و النحویة ... إلخ.
إنّ هذا التمفصل الوظیفی للكتب العادیة علی الكتاب المقدس واضح جدا فی ما یخصّ كیفیة تشكّل الأناجیل. فكتبة الأناجیل اختاروا أن یسردوا فی اللغة الیونانیة تلك الرسالة التی بلّغها یسوع الناصری فی الآرامیة. لما ذا فعلوا ذلك؟ لأنّ اللغة الیونانیة كانت أكثر أهمیة من الناحیة الثقافیة و أوسع انتشارا، و لأن الآرامیة كانت عبارة عن مجرد لهجة متواضعة للغة سامیة لا یقارن رأسمالها الكتبی برأسمال الیونانیة آنذاك.
أ لا یوجد هنا برهان بالغ الدلالة علی مدی ردّ الفعل الذی قام به الكتاب العادی و تأثیره فی خط الرجعة علی الكتاب المقدّس؟ فقد تخلّی اللاهوتیون المسیحیون بسرعة شدیدة و بشكل كامل عن الصیغة الأولیة للرسالة المبلّغة فی الآرامیة من أجل نشر المسیحیة بشكل أقوی و أوسع. أرجو ألا یفهمنّ أحد من كلامی هذا أنی أرید تمریر محاجّة تبجیلیة خلسة. و أقصد بها المحاجّة القائلة بتفوق القرآن علی الأناجیل لأن القرآن ظلّ حتی یومنا هذا منقولا بلغته الأصلیة و لم یغیرها قط. فما إلی هذا هدفت. ینبغی أن نبقی داخل الساحة الانتربولوجیة لذلك الصراع الدائر بین طرفین اثنین: الطرف الأول هو «العقل الشفهی» المرتكز علی ثقافات غیر مكتوبة للفئات الفلاحیة أو الجبلیة أو البدویة المتبعثرة سیاسیا؛ و الطرف الثانی یتمثّل فی «العقل الكتابی» بحسب التعریف الذی قدمه عن هذا المصطلح عالم الانتربولوجیا الانكلیزی جاك غودی‌Goody .Jack فالعقل الكتابی یستخدم مقولاته و تحدیداته و نظامه بفضل التضامن الوظائفی الشغّال الكائن بین القوی الأربع التی ینتهی
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 82
بها الأمر إلی الهیمنة علی كل الفضاء الاجتماعی. و هذه القوی هی: الدولة، و الثقافة العالمة أو الفصحی، و طبقة المتعلمین أو رجال الدین، و الارثوذكسیة الدینیة.
إنّ اللعبة المتداخلة لهذه القوی الأربع هی التی تجعل الكتاب بالمعنی المقدّس للكلمة، أی الكتاب بالمعنی القصصی و كما ساد الحیاة الدینیة لمنطقة الشرق الأوسط القدیم «1»، ینتقل إلی مرحلة المدوّنة الرسمیة المغلقة الموحی بها و التی ستصبح، فی الواقع، عبارة عن كتاب كأی كتاب آخر. أقصد أنه یتحوّل إلی شی‌ء مادی منتج عن طریق تقنیات حضارة ما (كالكتابة، و الحروف الأبجدیة، و الورق، و التجلید ... إلخ). و لكنه علی الرغم من ذلك یبقی علی مستوی القداسة المثبّتة و المحمیّة من قبل سلطة ذات جوهر سیاسی (كالكنیسة الرسمیة أو الدولة الخلیفیة). إنّ هذا التحویل الذی یطرأ و الذی یجعل من الكتاب المقدس كتابا عادیا، كان قد حصل فی سیاق ثقافی و سیاسی و اجتماعی یحاول المؤرّخ أن یكتشفه أو یتعرّف علیه بشكل صحیح (أو كما حصل بالفعل قبل قرون طویلة).
و فی موازاة ذلك نلاحظ أن اللاهوتیین فی جمیع الطوائف كانوا قد تفنّنوا فی رفع المدونة الرسمیة المغلقة إلی مرتبة الكتاب المقدّس. و هذا الأخیر یشكّل الأثر الذی لا یعوّض، و المرجعیة الإجباریة لكل خطاب حریص علی أن ینغرس فی كلام اللّه. و هكذا نجد أن إرادة إعلاء الكتاب العادی و التسامی به إلی مرتبة الكتاب المقدّس تبلغ ذروتها القصوی فی عملیة التنكیر و التقنیع عند ما تؤكّد باننا نستطیع أن ننتقل من الأناجیل لكی نصل مباشرة إلی الوحی المتجسّد فی المسیح، أو أن المصحف، أی المجلّد الذی یحتوی علی كافة النصوص القرآنیة، هو من نوع الطابع اللامخلوق للقرآن بصفته كلام اللّه.
إن عملیات تنكیر الواقع المحسوس هذه تتمّ لكی تقدّم للمخیال النماذج المثالیة العلیا الأبدیة و المتعالیة. و هذه العملیات تجری فی المجتمعات التی ینشط فیها الفاعلون الاجتماعیون، و بالتالی فإننا نهدف من وراء استخدام مصطلح الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی إلی استكشاف الجوانب اللغویة، و الاجتماعیة، و السیاسیة، و الثقافیة لتلك الظاهرة الشمولیة المتمثّلة فی الكتاب المقدّس الذی جری التسامی به أو تصعیده بكثافة شدیدة. إنّ الأمر یتعلق بأرخنة كل ما كانت قد نزعت عنه صبغته التاریخیة بشكل متواصل و منتظم علی مدار التاریخ، أی حتی القرن التاسع عشر. و ذلك علی الرغم من كل ذلك العمل الجبّار الذی قام به التاریخ النقدی للنصوص المقدّسة، أو التاریخ الشكلانی الفیلولوجی، أو تاریخ السیرة الذاتیة للشخصیات الكبری. و هكذا ندرس الكتاب المقدس بصفته قوة لاستنهاض الطاقات العقلیة،
______________________________
(1) فی ما یخص هذا المفهوم المهمّ- مفهوم الكتاب السماوی- الذی كان موجودا فی الثقافة الدینیة لمنطقة الشرق الأوسط قبل ظهور الإسلام بوقت طویل، انظر المرجع التالی: محمد رسول اللّه و الكتاب السماوی، للباحث جیو فیدینغرین:the and God of Apostle the Muhammad :Widengreen Geo . 4591،Upsala ،Book Heavenly
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 83
و فضاء تسقط علیه الهواجس و الأحلام الدینیة، و كذلك صور الشخصیات الرمزیة لتاریخ النجاة، و هی صور متأمّلة و معاشة بصفتها الغایة المثلی المرادة من قبل اللّه للتاریخ الأرضی.
كلّ هذه العملیات، و هذه الآلیّات، و هذه القوی لا علاقة لها باللاهوت الذی یصبح هو الآخر عبارة عن فعالیة استدلالیة مصیرها التسامی و التصعید، و التنكیر، و نزع الصبغة التاریخیة عن الفترة الأولی و الشخصیات الكبری. و لهذا السبب أقول بأن أی تفكیر بتشكیل لاهوت حدیث ینبغی أن یمرّ أولا عن طریق الاستكشاف التاریخی، الشمولی و النقدی لمجتمعات الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی. و هذا الانقلاب المنهجی ینطبق بالدرجة ذاتها علی خطاب المیتافیزیقا الكلاسیكیة. كما و ینطبق الیوم علی خطاب حقوق الإنسان الذی وصل إلی مرحلة التشدّق و المغالاة الایدیولوجیة المحضة، الشی‌ء الذی یؤدی إلی حذف الرهانات المحسوسة لحیاة الناس العائشین فی المجتمع.
و لكن «المؤمنین» سوف یعترضون علی كلامنا قائلین بأن طریقة النظر هذه سوف تسحب من اللاهوت أسبقیته و أولویته فی الدفاع عن الأیمان و تجسیده و بنائه. لما ذا؟ لأنها تجعل الحقیقة الدینیة نسبیة و تساوی بین المقدّس و الدنیوی، أو بین المتعالی و المثولی، أو بین النجاة الأبدیة فی الدار الآخرة و النجاحات الظرفیة العابرة. هذا هو الاعتراض الشائع الذی یحتجّون به عادة. و نلاحظ فی هذا الاعتراض رزوح الفكر الثنوی، الاستقطابی.
الذی یؤسّس بالضبط الأنظمة اللاهوتیة و المیتافیزیقیة التقلیدیة.
إن الاستراتیجیات المعرفیة التی تتطلّبها مجتمعات الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی تحضّ بالأحری علی فرز آلیّات التقدیس، و التعالی، و الانطولوجیا، و اللاهوت، و الأسطورة أو الأدلجة، و التألّه، و إعلان القداسة، و نزع الصبغة التاریخیة ... إلخ. إنها تحضّ لیس فقط علی فرزها، و إنما أیضا علی وصفها (أو دراستها) و تفكیكها. و المقصود بها تلك الآلیّات التی تخلع التقدیس و التعالی و الأدلجة .. إلخ علی الأشیاء (أو علی كل التركیبات البشریة التی تفقد عندئذ صفتها التاریخیة، و الواقعیة المحسوسة). و هذه الآلیّات هی التی تغذّی دینامیكیة الدیالكتیك الاجتماعی (أو لنقل حیویة الجدلیة الاجتماعیة).
كان الإیمان التقلیدی قد انغلق علی نفسه داخل المطالبة بالجواهر الأبدیة الخالدة التی لا تتغیّر و لا تتبدل. و هی جواهر قادرة علی ضمّ المتغیرات أو المستجدّات عن طریق وصفها ب «الارثوذكسیة»، أی المستقیمة الصالحة تمییزا لها عن «البدع الضالّة المنحرفة».
و لكن الإیمان الحدیث یتخذ موقفا مغایرا لذلك. فهو یعترف بكل المتغیرات الحاصلة فی التاریخ و یتحمل مسئولیتها. كما و یقبل بإعادة النظر حتی فی الأصول الاولی من أجل انتهاكها و إعادتها إلی المشروطیات المشتركة للجدلیة الاجتماعیة «1». و هذا ما ندعوه بأرخنة
______________________________
(1) انظر مقالة فرانسواز سمیث فلورنتان «انتهاك الأصول الأولی» فی الغفران (كتاب جماعی):F .Smith . 06.p ، 1991،ed .Autrement ،Paris ،Pardon Le :in ، ( (originesdes transgression La ((،Florentin
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 84
الأصول الأولی للأدیان التوحیدیة، أی الكشف عن تاریخیتها المحجوبة أو المغطاة بستار كثیف من التقدیس و التعالی.
لنضرب كمثال علی ذلك الوظیفة النبویة كما تجلّت أو تجسّدت فی التجارب التوحیدیة الثلاث من یهودیة، و مسیحیة، و إسلامیة. لقد حصل للنبی محمد ما حصل للوحی القرآنی. فقد أستبعد من دائرة النبوّة، كما استبعد القرآن من دائرة الوحی. فحصروا الوحی بالتوراة و الأناجیل. كما أن الفكر الیهودی و المسیحی حصر مكانة النبوّة بأنبیاء العهد القدیم (بنی إسرائیل). إن هذا الحذف أو الاستبعاد غیر ممكن إلّا ضمن منطق الثالث المرفوع و مبدأ الهویة اللذین یسمحان بتشكّل الفكر الثنائی القطبین، و الجوهرانی، و الماهیّاتی، و المقولاتی التصنیفی. و لكنه یصبح تعسفیا عند ما نعید إلی الجدلیة الاجتماعیة و إلی تاریخیة كل المنتوجات البشریة جمیع الجواهر الجامدة.
إذا ما استخدمنا منظور التحلیل التاریخی، و الثقافی، و الانتربولوجی، فإن الوظیفة النبویة ینبغی أن تفسّر من خلال مفهوم «إنتاج الرجال العظام» كما یقول موریس غودلییه فی أحد كتبه، أی كیف یتولّد الرجال العظام، و كیف یظهرون فی التاریخ. و الأنبیاء من الرجال العظام بالطبع لأنهم یقودون البشر و یحرّكون التاریخ «*».
ینبغی أن ندرس كیفیة انبثاق الأبطال الحضاریین داخل الفئات الاجتماعیة (المقصود بهم: الأبطال الذین یؤسّسون الحضارات أو یحضّرون البشر). و لكن النبی یتمیّز عن هؤلاء الأبطال من خلال الأدوات التی یستخدمها، و النوابض النفسیة التی یحركها، و أقصد بذلك أنه یعتمد علی الظاهرة المعقدة المدعوة ب «الوحی»، و یثیر فی الجماعة الأمل التبشیری أو الخلاصی. و لكن إذا ما علّقنا التحدیدات اللاهوتیة المفروضة بخصوص هذه المفاهیم، فإننا نستطیع بسهولة أن ندمج الوظیفة النبویة فی الآلیّات التاریخیة- النفسانیة- الاجتماعیة- المنطقیة التی تؤدی إلی ظهور «الرجال العظام»، و نحن إذ نقول هذا الكلام لا نتجاهل و لا نهمل السمات و الوظائف الخاصة بظاهرة الوحی و الأمل الخلاصی. و هی ظاهرة سائدة فی مجتمعات الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی. و لكننا إذ نتحدث عن «الرجال العظام» أو «الأبطال الصانعین للحضارات»، فإننا نحذف الشحنة التقدیسیة للفترة الكاریزمیة (البطولیة) التی تجعلنا نری و نستبطن «ید» اللّه، أو تأثیر الروح المطلقة فی كل لحظة من لحظات الوجود الفردی و الجماعی و علی كافة الأصعدة و المستویات.
ینبغی أن نعلم أن النبی یتمیّز بمكانة نفسانیة و معرفیة مختلفة عن مكانة كل الأبطال الآخرین أو كل الشخصیات الاستثنائیة الأخری التی تظهر فی التاریخ. فالنبی شخص ملهم، راء أو رؤیوی، حكیم، صاحب خیال وثّاب، قائد، روح جبّارة قادرة علی سبر أغوار
______________________________
* انظر: 1996،Fayard ،Paris ،hommes grands des production La :.M .Godelier
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 85
المجهول، و انتهاك الحدود المضروبة علی المعرفة و تجاوزها أو تخطّیها بفضل الإلهام المستمر الذی یزوده اللّه به. و هذه التركیبة النفسیة الاستثنائیة یعاد تجسیدها من حین لآخر فی أنبیاء أو مرسلین جدد. و بالتالی، فهناك استمراریة تواصلیة للنموذج النبوی الهادف إلی هدایة البشر من دون أن یفرض نفسه علیهم عن طریق القسر و الإكراه. و ذلك علی عكس سلطة الأباطرة أو الملوك أو الخلفاء أو السلاطین المتجسّدة فی الدولة و التی تفرض نفسها علی الجمیع عن طریق القوة. فالنبی مطاع عن طریق «مدیونیّة المعنی» التی یشعر بها كل عضو من أعضاء الجماعة تجاهه بعد أن یسمع كلامه الوحیّ المضمونة صحته من قبل اللّه ذاته.
إن مجمل هذه المفاهیم، و الأسماء، و الآلیّات التی ترسّخ فضاء خصوصیا من التواصل و الممارسة العملیة متجمعة كلها فی الوحی. و الوحی نفسه لا ینفصل عن الوظیفة النبویة. فالوحی لیس كلاما معیاریا نازلا من السماء من أجل إكراه البشر علی تكرار نفس طقوس الطاعة و الممارسة إلی ما لا نهایة، و إنما یقترح معنی للوجود. و هو معنی قابل للمراجعة و النقض (انظر الآیات الناسخة و المنسوخة فی القرآن). كما أنه- أی هذا المعنی- قابل للتأویل داخل إطار المیثاق أو العهد المعقود بكل حریة بین الإنسان و اللّه.
بعد أن فهمنا الوحی علی هذا النحو، نستطیع أن نقیس حجم الانحرافات الایدیولوجیة التی تصیب الوحی و الوظیفة النبویة عند ما یصبحان أدوات متمیّزة و فعّالة لإضفاء المشروعیة علی السلطة الامبراطوریة، أو الملكیة، أو الخلیفیة. كما و نكتشف أیضا الرهانات الحقیقیة التی لم تدرك حتی الآن بشكل جید أو لم تفهم فی كل أبعادها و مغازیها، و لم تقیّم أهمیتها كما ینبغی. و أقصد بها الرهانات المتعلّقة بتلك القطیعة الكبری التی فرضتها الثورة الفرنسیة. فهذه الثورة إذ أحلّت الاقتراع العام محل الوظیفة النبویة بصفتها الذروة العلیا للمشروعیة، أو لاضفاء المشروعیة علی السلطة السیاسیة، فإنها فی الواقع حذفت نظاما معیّنا لإنتاج المعنی و تسییره من أجل فرض نظام آخر. و قد تمّت عملیة الاستبدال هذه فی الدم، أی من خلال سفك الدماء الغزیرة كما هو معروف. و لكنها لم تحدّد فی الوقت ذاته شروط صلاحیة و مشروعیة هذه القطیعة.
كان رولان بارت‌R .Barthes قد كتب مقالة عن فولتیر قال فیها إنّ عقل التنویر قد خلع علی معاركه هیئة العید المبتهج. و عندئذ أعتقد الناس أنهم سائرون بكل قصد و تصمیم نحو التقدّم، و الحریة، و نهایة الخرافات و الخزعبلات، و كذلك نهایة الاستبداد المطلق المؤبّد شرعیا من قبل المعتقدات الدینیة. أمّا الیوم، فإن العقل أصبح فی حالة أكثر ارتیابیة و نقدیة. إنه یتمنی لو یستطیع العودة إلی الفرحة الظافرة و البهیجة للتنویر، و لكنه لا یستطیع أن یتغافل عن الإخفاقات الصارخة لعقل التنویر منذ القرن الثامن عشر و حتی الیوم. و أقصد بها الهیمنة الاستعماریة، و الاستبداد الشیوعی، و النازیة، و اللیبرالیة
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 86
المتوحشة، و تشكیل العالم الثالث ثم التخلّی عنه، و تدمیر الوعی الأخلاقی، و المنشأ الهدّام للمعنی ... إلخ.
و لكننا لا نستطیع أیضا العودة إلی النموذج النبویّ لأننا أصبحنا نری بوضوح تاریخیّته، و اندماجه فی الأنماط العابرة لانتاج المعنی داخل التاریخ. و لكننا أصبحنا نعترف بموضوعیة أكبر مما كان حاصلا فی زمن التنویر بأن الخطاب النبوی لم یستبدل بعد، أی لم یحل محله بدیل جدید. و بالتالی، فإنه لهذا السبب لا یزال یقدّم المعنی حتی فی سیاقنا الحدیث المقلوب من قبل التكنولوجیا، و فقدان النظام الطبیعی أو الشرعی للعواصم، و الفوضی المعنویة السائدة داخل العقل المهیمن. و هی فوضی تؤدّی إلی الهزیمة الفكریة لكل العقول التابعة. فالخطاب النبوی یخلق، كما فی لحظة انبثاقه. الأولیة، «مدیونیّة المعنی» لدی الشخص الذی یعرف كیف یصغی و یستمع. إنه یخلقها إلی درجة أنه یحیّی الحركة الداخلیة للوعی المطیع، و هو مطیع لأنه معترف بالجمیل (و هذا هو معنی فعل «یعقلون»، أو «تعقلون» فی القرآن).
إنّ التبادلیة الجاریة بین وعی الناس المختلفین تؤكّد ذاتها، و تمتحن نفسها، و تتشكّل من خلال هذه العلاقة الكائنة بین المعنی- و الطاعة- و الاعتراف بالجمیل. و هی علاقة یدشّنها الخطاب النبوی و یغذّیها. و علی هذا المستوی من العمق، یبدو لی أنه ینبغی أن نبحث عن الأسباب العمیقة لما یدعی بعودة الدین. و هذا المصطلح الذی شاع مؤخرا لا معنی له إلّا بالنسبة لمجتمعات الغرب التی شهدت التنویر، و التی أوهمها التنویر بإمكانیة التجاوز النهائی (و اللامرجوع عنه) للعقائد الدینیة. و لكن یحصل الیوم ما حصل بالأمس، بمعنی أن استراتیجیات اقتناص السلطة تصادر باستمرار الفعالیة الإیجابیة و التأثیر العمیق للخطاب النبوی. إنها تصادرها و تجیّرها لصالح أنظمة الهیمنة، و التسلّط، و الاستغلال، و إضفاء المشروعیة علی السلطات السیاسیة، و انحلال القیم.
ینبغی أن نعلم أن الوظیفة النبویة و الخطاب الذی یوضّحها أو یجسّدها لا یمكنهما ممارسة فعلهما إلّا داخل سیاق معرفی و مؤسّساتی یفضّل الاسطورة/ علی التاریخ، و الروحی/ علی الزمنی، و العجیب المدهش أو الساحر الخلّاب بصفته بنیة أنتربولوجیة للمخیال/ علی العقلانی الوضعی. كما و یفضّل المقدس بصفته قوة ضبط و تنظیم للعنف/ علی الدنیوی بصفته مكانا لتبعثر المعنی و للتنافس علی السلطة، و التملّك، و القیمة أو الجاه. لكن الوظیفة الحكومیة أمّمت الدین (انظر بهذا الصدد سنّ الدستور المدنی للكهنوت فی فرنسا بعد الثورة الفرنسیة، أو استعباد رجال الدین و إخضاعهم من قبل السلطة فی الإسلام). و هكذا عكست الدولة كل القیم التی جاء بها الأنبیاء فی الوقت الذی حافظت فیه علی المظاهر الایدیولوجیة للتلاؤم أو التوافق مع تعالیم اللّه، بل و ساهمت فی نشر هذه المظاهر و تعمیمها. إن هذا العكس (أو القلب) یصل الیوم مع الحركات الأصولیة المتطرفة
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 87
إلی ذروته الایدیولوجیة الخطرة.
لكی نكمل وصف السمات الأساسیة للوظیفة النبویة، فإنه من الضروری أن نتحدث عن الأمل الخلاصی المتعاطی أو المغذّی طیلة قرون عدیدة عن طریق ظهور الأنبیاء، و المبشّرین، و المهدیّین، و الأولیاء الصالحین، و المنقذین ... إلخ. إن المخلّص لیس إحدی شخصیات تاریخ النجاة الخاص بالتوراة و الأناجیل، و إنما هو أیضا، و لعلّه أكثر، قوة مشكّلة أو مؤسّسة لكل وعی دینی، أو قومی، أو عرقی- ثقافی. و هی قوة میالة لاستملاك قیم العدالة، و الأمن، و المعرفة، و الخلاص (أو النجاة فی الدار الآخرة). إن النزعة الخلاصیة قوة مؤهّلة لتحویل كل تاریخ العالم عن طریق الأمل الجارف الذی لا یقمع. و هو أمل ینطوی علی احتجاج جذری ضد النظام القائم الجائز، و ذلك باسم نظام آخر عادل سوف یجی‌ء المخلّص لكی یقیمه علی هذه الأرض (فی الإسلام یتخذ هذا المخلّص اسم المهدی أو الإمام). إن النزعة الخلاصیة تربط بشكل لا ینفصم بین الایمان و العدل. و نقصد بذلك الإیمان بالجدة المطلقة للزمن المثالی الرائع الذی سیتحقّق فیه العدل. و زمن العدل هذا یرهص منذ الحیاة الدنیا بزمن النجاة الأبدیة فی دار البقاء و الخلود. إنّ المطالبة الملحة بالعدل تتغذّی من كل أنواع القمع، و الهیمنة، و انسحاق الوضع البشری علی الرغم من أنه كان موعودا بالحیاة الأبدیة و الاتحاد باللّه (أو الاتصال كما یقول متصوفة المسلمین). و الرؤیا الخلاصیة المنقولة بواسطة أدیان الوحی أدخلت (أو بلورت) المفهوم الخطیّ المستقیم للتاریخ الأرضی المتواصل أو الممتد بعدئذ عن طریق تاریخ النجاة فی الدار الآخرة. كما أنها حافظت حتی یومنا هذا علی ذلك الأمل الذی لا یقهر و الذی وصف وجهه السلبی بأفیون الشعوب. هذا فی حین أن وجهه الإیجابی یضع الإنسان فوق السقوط المتدهور الذی یسبّبه العنف، و الجهل، و الاستلاب، و الظلم.
فی الإسلام، كانت الحركات الخلاصیة عدیدة، متكررة، ذات أهمیة متنوعة، و ذلك فی مجتمعات مختلفة جدا عن بعضها البعض كإیران، و مصر، و السودان، و السنغال، و المغرب الكبیر القروسطی ... إلخ. ففی كل مكان من هذه المجتمعات كان المهدی (مولی الساعة)، منتظرا بكل حماسة و لهفة و ورع. و قد غذّی المهدی سلوكا دینیا و سیاسیا فی آن معا. و هو سلوك یجیّش حتی الیوم جماهیر غفیرة ملتهبة وراء أئمة دینیین أو قادة بعیدین جدا عن البراءة الإیمانیة أو التصدیقیة ل «المرسلین» أو «الملهمین» السابقین. و لكن هنا أیضا لا یمكننا أن نهمل ذلك الاستخدام الذی فعلته الماركسیة بالأمل الخلاصی أو التبشیری. فقد راحت تتوقع بان البرولیتاریا سوف تؤدی إلی القضاء علی الدولة و الرأسمالیة المستغلة و كل البنی الفوقیة التی تتخبط فیها حریات الانسان. و هكذا راح فكر مدعو بأنه حدیث أو علمی، و محرّر یستخدم فكرة محوریة مأخوذة من الدین لكی یستولی علی السلطة السیاسیة و یحتكرها ضمن الظروف و النتائج التی نعرفها (انظر التجربة الشیوعیة و محصلتها ...). و هذا
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 88
المثال یبیّن بوضوح أن الفاعلین الاجتماعیین هم الذین یولّدون النماذج العلیا للفكر و الممارسة العملیة. و هم الذین یقررون كیفیة استخدامها، أو المحافظة علیها، أو تصفیتها و التخلّی عنها. بمعنی آخر، ینبغی علی الدارس المحلّل أن یتساءل عن الموقع الذی ینبغی أن یتخذه أمام ظواهر تبدو، ظاهریا، مستقلة ذاتیا، كالظاهرة الدینیة، أو الظاهرة السیاسیة، أو ظاهرة الحداثة «1».
فالحداثة مفهومة و مستخدمة فی الغرب من أجل الحطّ من قیمة الفكر و الثقافات «التقلیدیة» أو العتیقة أو «البدائیة». و بالتالی، فیمكنها أن تصبح عقبة أمام المعرفة النقدیة.
بل و یوجد تیار لاهوتی فی الولایات المتحدة الأمریكیة، و هو یتوهم أنه یستطیع التحدّث عن «ما بعد الحداثة»، هذا فی حین أن مفهوم الحداثة نفسه غیر مبلور بشكل واضح و فعّال علی الرغم من أطنان الكتب التی كرست له!! .. و أنا إذ أقول ذلك، فإنّی أنبّه فقط إلی صعوبة مثل هذه المفاهیم، أو خطورة استخدامها بمناسبة و من دون مناسبة. كما أنّی أرید الإشارة إلی الظلم الذی لحق بالفكر الإسلامی عند ما قارنوه بالحداثة (أو ما ندعوه كذلك).
كان اللاهوتیون قد نبّهوا إلی الاختلافات الكائنة بین المسیحیة و الإسلام. و لكن فی ما وراء كل هذه الاختلافات فإن الأكثر حیویة أو إنعاشا للتفكیر حول مجتمعات الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی لا علاقة له باللاهوت، و إنما یمكن فی العلاقة التاریخیة التی یتعاطاها كل واحد من هذین الدینین مع العقل الحدیث الذی أصبح مهیمنا الآن. و أقصد بذلك أن المسیحیة كانت مضطرة لأن تواجه التحدیات العلمیة و الفكریة من أجل أقلمة عقائدها، أی تعدیلها أو إعادة تأویلها، لكی تصبح متأقلمة مع المكتسبات الراسخة للفكر النقدی (مكتسبات نهائیة لا یمكن التراجع عنها).
أما الإسلام، فعلی العكس، كانت ظروفه مختلفة من الناحیة التاریخیة. فهو إمّا أنه تجاهل هذه التحدیات (كما فعل بالنسبة للنقد الفیلولوجی و التاریخی)، و إما أنه رفض صراحة المكتسبات الایجابیة للتبحّر العلمی الاستشراقی، و ذلك عند ما ربطه ب «العلم الاستعماری» علی طول الخط. و هكذا نجد أننا لم نخرج بعد من إطار إیدیولوجیا الكفاح الهادفة إلی التحرّر السیاسی. و هی إیدیولوجیا ضروریة فی وقتها، و لكن استمراریتها حتی بعد حصول الاستقلال و التحرّر السیاسی من الاستعمار لها مخاطرها. فهی تجعلنا نهمل الأولویة الفكریة لتحریر العقلیات، هذا التحریر الذی لا یمكن أن یحصل إلّا عن طریق النقد العلمی للتراث الدینی علی وجه الخصوص.
إن الإسلام لا یستطیع أن یلقی نظرة نقدیة علی مساره التاریخی و تركیباته العقائدیة من دون المرور بالفكر الیهودی، و المسیحی، و الفكر الغربی الحدیث. ینبغی أن نعلم أنه فی
______________________________
(1) انظر كتابنا: 1982،.ed e 2،Buchet -chastel ،Paris ،demain ،hier ،LIslam ،.pM .Arkoun
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 89
فترة توسّعه و ازدهاره كان الإسلام قد استوعب مكتسبات الیونان، و حضارة وادی الرافدین، و إیران، و الهند. و أما الغرب، فعلی العكس، كانت نظرته إلی الإسلام فی الغالب عدائیة أكثر من اللزوم. و هذه الحالة تعبّر عن تعسّف و اعتباطیة العقل الغربی المهیمن. و یبدو أن الهجمات النقدیة التی یتعرّض لها هذا العقل من الداخل، و كذلك التحلیلات التفكیكیة التی تتركز علیه، لم تؤثّر فی هذه الاعتباطیة أو لم تنل منها.
فی الصراعات الفوضویة الجاریة حالیا، بقی علینا أن نموضع الدور الذی یلعبه الفكر الیهودی فیها. و كنت قد سكتّ عنه حتی الآن. و لم یكن هذا السكوت من قبیل الإهمال، و إنما من قبیل الحیطة و الحذر. فی الواقع، إنه من الصعب أن نقیس حجم التفاوت الكائن بین تضامن إسرائیل السیاسی مع العقل الغربی المهیمن، و بین الجهود التی یبذلها الفكر الیهودی من أجل المحافظة علی استقلالیته بالقیاس إلی الغرب. و هذا ما بموضعه بالأحری فی جهة الفكر الإسلامی.
غیر أن رهانات تاریخنا لا تنحصر، طبعا، بالعالم التوحیدی و الغرب العلمانی. ذلك لأن هذین العالمین كلیهما ینبغی أن یصغیا إلی التعالیم الآتیة من جهة آسیا و إفریقیا. و هنا نلتقی بالإرادات التبشریة للقوی العظمی المتولدة عن الدیانة التوحیدیة. فالإسلام التابع و المهیمن علیه من قبل الغرب، یصبح فی إفریقیا و آسیا تماما كالمسیحیة. فهو ینافسها هناك علی اكتساب المواقع الجدیدة أو المعتنقین الجدد. و هنا نجد أنفسنا أمام تعقیدات جدیدة لا تزال تنتظر من یدرسها بشكل جید و یحلّلها بشكل دقیق و صحیح، و لا نزال بشكل أخصّ ننتظر تشكّل نظام عالمی جدید مؤسّس علی تعالیم أخلاقیة مقبولة من، جانب جمیع الشعوب و لیس فقط من جانب الأنظمة السیاسیة أو الدول. و هذا ما یحیلنا مرة أخری إلی الوظیفة النبویة التی نعرف أن شروط ممارستها لم تعد متوافرة الآن.
ربما كان ینبغی أن نعمّق التحلیل النقدی أكثر لیس فقط فی ما یخصّ الظاهرة الدینیة، و إنما فی ما یتعلق أیضا بكل التركیبات الثقافیة و التشكیلات المؤسساتیة التی تقوم بها الروح البشریة. و ما كانوا قد اتفقوا علی تسمیته بالروح «الحدیثة» راح یحلّ محل الأدیان التقلیدیة من أجل ترسیخ الفكرة القائلة بأن الإنسان مؤهّل لتحقیق التقدم، و الخیر، و فهم الأشیاء و السیطرة علیها، و إقامة العدالة علی هذه الأرض، و نشر المعرفة بالإنسان عن طریق الإنسان. و نلاحظ أن ایدیولوجیا حقوق الإنسان تنشر فی كل مكان (علی غرار الأدیان سابقا) ذلك الیقین القائل بكونیة الفتوحات العلمیة، و السیاسیة، و الاقتصادیة. هذه الفتوحات التی كان لأوروبا الغربیة امتیاز تحقیقها لأول مرة فی التاریخ.
و لكننا نعلم أن قابیل قتل أخاه هابیل و أعلن منذ ذلك الزمان أنه «لا توجد عدالة، و لا قضاة». فی الواقع، إن علماء الاجتماع و الانتربولوجیا یفضّلون دراسة المجتمعات البشریة بصفتها أنظمة قائمة علی التفاوت و عدم المساواة. و لكن التشریعات القانونیة تحاول، هنا
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 90
و هناك، أن تخفّف من حدّة هذه التفاوتات و اللامساواة. عند ما دعی المفكر الفرنسی بییر لوجندرLegendre Pierre إلی إلقاء محاضرة عن الغفران، فإنه فضل أن یتحدث عن «ما لا یغتفر» لكی یقترب بشكل أفضل من «مبدأ الحیاة ذاته فی جنسنا»، ثم «حرصا منه علی رؤیة أفق الهشاشة و اللائقین و الیأس» كما هی مفروضة من قبل النقد التفكیكی للعقل المعاصر «1». و أحب أن أقول، فی ما یخصّنی، بأن هذه الفلسفة التشاؤمیة التی یولّدها تفكیك كل التركیبات المفهومیة، و المؤسساتیة، و الخیالیة الموروثة عن جمیع الثقافات البشریة، لا ینبغی أن نحتفظ بها أو نمارسها إلّا كاستراتیجیة منهجیة. و أقصد بذلك استراتیجیة تهدف إلی تخلیص الروح البشری من الأساطیر و الأوهام التی تنغلق فیها أو داخلها. أو علی الأقل إنها استراتیجیة تهدف إلی تخفیف الآثار الكارثیة الناتجة عن عقل یشتغل من أجل تقویة هیمنة ما، أو مركز معیّن من مراكز السلطة، أكثر مما تهدف إلی حمایة أولویة و أسبقیة النضال الذی یقوم به البشر لكی یخفّفوا من الإكراهات التی تضغط علیهم. و هی إكراهات ناتجة عن العنف، و ما لا یعوّض، و لا یستعاد، و المتعذر سبره. كما أنها ناتجة عن الاستلاب، و الوراثة أو اللامساواة المرسّخة بشكل مؤسّساتی، و الكوارث الطبیعیة .. إلخ.
ینبغی أن نقیس حجم الدور الذی لعبه الفكر الدینی فی مختلف الطوائف و لا یزال یلعبه فی تثبیت أنظمة الفكر الموروثة و توجیهها و المحافظة علیها .. و ینبغی أن ندرك عدم صحة الاستراتیجیات التی ابتعث حتی الآن من أجل تحقیق تحرّر الوضع البشری من الإكراهات التی انتهینا للتوّ من التذكیر بها. فهی غیر ملائمة علی الاطلاق. و ینبغی أن نعرّی المسلّمات الایدیولوجیة التی ترتكز علیها «العقائد القومیة التی تبلغ مرحلة القداسة» و المفروضة من قبل الدول العلمانیة أو «الكنائس» المختلفة. و عند ما أقول الكنائس فإنی أقصد كل الأدیان المرسّخة بشكل مؤسساتی علی هیئة جامع، أو كنیس، أو معبد بروتستانتی. عند ما ننظر إلی ذلك، فإننا مضطرون إلی العودة إلی أفق الهشاشة و اللائقین الذی تحدّث عنه بییر لوجندر، و لكن لیس بالضرورة الیأس. ینبغی أن نعود إلیه لكی نكتشف مسالك أخری أكثر موثوقیة. و لكنّی إذ أثیر هذا التقشف الفكری، فإنّی أجد أمامی كتیبة كاملة من المدافعین عن «الإیمان الصحیح». أكاد أراها تتقدم لكی تسدّ بكل قوة و تصمیم هذا الأفق الجدید الذی یحاول العقل بكل تواضع و صبر و عزیمة أن یجعله مرئیا و ملیئا بالوعود.
إن نظام إنتاج مجتمعات الكتاب المقدّس/ الكتاب العادی و مستوی التحلیل المطلوب
______________________________
(1) انظر بحث بییرلوجندر: «ما لا یغتفر»، المنشور فی كتاب الغفران المذكور سابقا:،Legendre Pierre . 81.p ،.op .cit ،Pardon Le :In ، ( (Limpardonnable((
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 91
ضمن المنظور الموصوف سابقا یمكن أن یلخّصا فی المراحل و أنماط النقل التالیة:
1- حدث تدشینی: توراة، أناجیل، قرآن- تاریخ أرضی- تاریخ النجاة فی الدار الآخرة.
2- الحواریون أو الصحابة الذین شهدوا النقل الصحیح للوحی- التابعون-- الأمة المفسّرة- التولید الخیالی للتراث الحی- الذاكرة الجماعیة الحیّة.
3- المدوّنات المكتوبة و النقل الشفهی للتراث الحیّ.
4- قراءات مفسّرة و صراع التفاسیر فی ما بینها.
ینبغی أن نعلم أن هذه المستویات الأربعة من إنتاج المعنی و الممارسة التاریخیة مترابطة بشكل لا ینفصم. و قبل ظهور العقل النقدی الحدیث، فإنها كانت تمیل إلی ممارسات استدلالیة و أنظمة تصوّرات مشتركة لدی الأدیان الثلاثة المدعوة بأدیان الوحی.
و لكن بعد ظهور الحداثة و توسّعها، ثم بشكل أخصّ بعد ظهور السیاق الأوسع للعولمة، فإن تماسك الخیال الدینی المشكّل علی هذا النحو و كذلك مضامین و وظائف التراث الدینی، تشهد الآن نوعین من التفكك:
1- فی ما یخصّ الأدیان التی تهیمن علیها الایدیولوجیا الكفاحیة أو الجهادیة، فإن التفكك عنیف و فجّ. و لكنه لم یدرك بعد علی هذا النحو أو قل إنه مدرك بشكل قلیل أو ردی‌ء. و هذا التفكك قد یؤدی إلی تسفیه لا مرجوع عنه للذروة الدینیة بصفتها التجربة البشریة مع الإلهیّ (أو الحطّ من قیمتها نهائیا بسبب أعمال العنف التی ترتكب باسمها).
2- أما فی ما یخصّ الأدیان المخترقة من قبل الحداثة، حتی و لو علی الرغم منها، كالمذهب الكاثولیكی مثلا، فإن إعادة تأسیس الرسالة الروحیة للذات الإنسانیة لن یكون لها أی حظ من النجاح إلّا ضمن فرضیة الإسهام الفعّال للعقل الدینی فی عملیة النقد الضروری و المتكرر لجمیع الأنظمة التی تتحكم ب «المنشأ الهدّام للمعنی» داخل جمیع أطر العمل التاریخی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 93

- 2- موقف المشركین من ظاهرة الوحی‌

اشارة

أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً كَثِیراً [سورة النساء، الآیة 82].
إننا إذ نطرح الیوم هذه المسألة، فإن ذلك یعنی أننا نمارس عملا من أعمال الفكر الحیّ لیس فقط داخل إطار الفكر الإسلامی، و إنما أیضا داخل المنظور الأكثر اتساعا لتجدید الفكر الدینی بشكل عام. فمن الواضح أن مختلف تراثات الفكر الدینی لا تزال تمارس نفسها داخل إطار النظام المغلق ل «القیم» الخاصّة بكل طائفة دینیة، أكثر مما تمارسه من خلال الحرص علی إبداع أدوات جدیدة للتحلیل و المعقولیة «*».
إنّ هدفنا من هذا العرض القصیر ینحصر فقط فی الإجابة علی السؤال التالی: لما ذا تشكّل مسألة موقف المشركین من ظاهرة الوحی أحد المواقع الاستراتیجیة التی تنبغی دراستها من أجل تأسیس فكر مبدع و جدید عن دلالة الدین و معناه؟ سوف نبیّن فیما بعد كیف أن أخذ كل الأبعاد التاریخیة للمسألة بعین الاعتبار سوف یؤدی بالضرورة إلی طرح تساؤل ذی نمط أنتربولوجی عن منشأ اللغة الدینیة و وظیفتها.

1- المقاربة التاریخیة للمسألة

هناك آیات عدیدة فی القرآن تبرهن بكل وضوح علی أن الجمهور المستمع لمحمد، و بخاصة الیهود و المسیحیین، كانوا یطالبونه بتقدیم البراهین علی صحة قوله بأنه یتحدث باسم اللّه حقا. طبعا، إننا لا نخلط هنا بین المشركین و بین الیهود و المسیحیین. و لكنهم فی ما یخصّ هذه النقطة، اتخذوا موقفا متشابها، و رفضوا التصدیق بنبوة محمد و الوحی القرآنی
______________________________
* یقصد أركون بذلك أن كل طائفة دینیة سواء أ كانت إسلامیة أم مسیحیة أم یهودیة لا تزال منغلقة داخل سیاجها الخاص: أی داخل عقائدها الدوغمائیة التی تعتبرها مطلقة و تنفی كل ما عداها. و هو یرید أن یحصل التفاعل و التحاور بین مختلف الأدیان و التراثات الثقافیة، فیتشكّل بذلك تاریخ الأدیان المقارن.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 94
كما هو معروف. و من المفید أن نبتدئ بتجمیع هذه الآیات و وضعها أمام أنظارنا من أجل إجراء التحرّی التاریخی فیما بعد علی أرض صلبة.
جاء فی القرآن:
1- وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّی تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ یَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِیلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِیراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَیْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِیَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِیلًا. أَوْ یَكُونَ لَكَ بَیْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقی فِی السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِیِّكَ حَتَّی تُنَزِّلَ عَلَیْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّی هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [سورة الإسراء، الآیات 90- 93].
2- وَ قالَ الَّذِینَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَیْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً. وَ قالُوا أَساطِیرُ الْأَوَّلِینَ اكْتَتَبَها فَهِیَ تُمْلی عَلَیْهِ بُكْرَةً وَ أَصِیلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِی یَعْلَمُ السِّرَّ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِیماً. وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ یَأْكُلُ الطَّعامَ وَ یَمْشِی فِی الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَیْهِ مَلَكٌ فَیَكُونَ مَعَهُ نَذِیراً. أَوْ یُلْقی إِلَیْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ یَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [سورة الفرقان، الآیات 4- 8].
3- وَ قالَ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَیْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَری رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِی أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِیراً ... وَ قالَ الرَّسُولُ یا رَبِّ إِنَّ قَوْمِی اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِیٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِینَ وَ كَفی بِرَبِّكَ هادِیاً وَ نَصِیراً. وَ قالَ الَّذِینَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَیْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِیلًا. وَ لا یَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِیراً [سورة الفرقان، الآیات 21، 30- 33].
4- وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَیْكَ الْكِتابَ فَالَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْكِتابَ یُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ یُؤْمِنُ بِهِ وَ ما یَجْحَدُ بِآیاتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ [سورة العنكبوت، الآیة 47].
5- وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِیرٌ بَصِیرٌ [سورة فاطر، الآیة 31]. [و الفكرة نفسها موجودة فی سورة النساء، الآیة 50، و سورة البقرة، الآیة 83].
6- وَ النَّجْمِ إِذا هَوی. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوی. وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحی. عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُوی. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوی. وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلی [سورة النجم، الآیات 1- 7].
7- وَ لَقَدْ آتَیْنا بَنِی إِسْرائِیلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَی الْعالَمِینَ. وَ آتَیْناهُمْ بَیِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ «1» فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ یَقْضِی بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ فِیما كانُوا فِیهِ یَخْتَلِفُونَ [سورة الجاثیة، الآیتان 16- 17].
______________________________
(1) فی ما یخص هذه النقطة، انظر الكتاب التالی للمستشرق السویدی جیوفیدینغرین: محمد- رسول الله و صعوده، ص 129، هامش (3):His and God of Apostle The :Muhammad :Geo .Widengren . 5591،Uppsala -Wiesbaden ،Ascension
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 95
یمكننا بسهولة أن نكثر من عدد الاستشهادات أو الآیات القرآنیة التی تذهب فی الاتجاه عینه إذا كنا مهتمین بالتعرّف علی أنواع الرفض و الاعتراضات التی لاقاها أنبیاء آخرون غیر محمد أو قبله. و لكن الآیات التی ذكرناها تكفی للبرهنة علی الدور المحوری الذی لعبه موضوع الصحة الإلهیة للكتاب. فهی تتیح لنا أن نكشف عن المفاهیم المشكّلة أو المؤسّسة لذلك المصطلح القدیم، مصطلح «الكتاب السماوی» «*» الذی استعاده القرآن و بلوره باللغة العربیة. هذا یعنی أننا لن نكتفی بتكرار ما قالته التفاسیر الإسلامیة الكلاسیكیة عن طریق ضبط تاریخیة معلوماتها و تقییم مدی صحة أو متانة تفسیراتها، و إنما نهدف من وراء هذا البحث إلی شی‌ء أبعد و أعمق.
إننا نهدف إلی طرح السؤال التالی: إلی أی مدی یمكن للمشكلة التی أثارها معاصرو النبی أن تحثّ الفكر الإسلامی الحدیث علی القیام بمراجعة نقدیة للموقف المكرس و المرسّخ منذ قرون عدیدة من قبل «الأرثوذكسیة»، و علی فتح المناقشة من جدید بناء علی الأسس العلمیة الحالیة. و للتوصل إلی مثل هذا الهدف ینبغی اتخاذ القرارات التالیة:
1- إن الجدلیة التوتریة أو الصراعیة الكائنة بین المعارضین/ و القابلین، أو بین الكفّار/ و المؤمنین «الذین یرجون لقاء اللّه»، ینبغی أن تدرس أولا دراسة تاریخیة، و لیس داخل الإطار اللاهوتی كما كان یحصل سابقا. بمعنی أنه ینبغی أن نقدم صورة تاریخیة عن الوضع الذی كان سائدا آنذاك، لا أن ننغلق منذ البدایة داخل الصورة اللاهوتیة الموروثة.
2- لا ینبغی علی التحرّی التاریخی بعد الآن أن یحصر مهمته فقط بوصف الوقائع، و تحدید الأسماء أو التحقق من هویتها، و كذلك تحدید المصادر، و أصل الأفكار و قراباتها و سلاسلها. و إنما الشی‌ء الأهمّ من ذلك هو التالی: تحدید نمط معیّن من أنماط المعرفة، أو طریقة ما من طرق إدراك الزمن و الواقع، ثم تحدید شبكة معیّنة من شبكات التواصل أو التوصیل. هذا هو الشی‌ء الأكثر أهمیة إذا ما أخذنا بعین الاعتبار مكتسبات التاریخ الخارجی. و علی هذا النحو یمكننا أن نطرح من وجهة نظر تاریخیة، و نفسانیة، و لغویة مسألة الاستمراریة و الانقطاع داخل فعالیة الوعی الدینی.
______________________________
* مصطلح الكتاب السماوی هو بالفرنسیةCeleste Livre .Le و یبدو أنه كان موجودا قبل ظهور الإسلام و القرآن فی ثقافات منطقة الشرق الأوسط القدیم. ثم عرفه الیهود و اعتقدوا بنزول كتاب علیهم من السماء. و كذلك فعل المسیحیون. ثم جاء القرآن لكی یقدم لأول مرة صیاغة باللغة العربیة عن هذا الكتاب السماوی المقدس. و كذلك شاع مصطلح الأدیان السماویة تمییزا لها عن الأدیان الأرضیة. و لكن المشكلة هی أن الباحثین اكتشفوا وجود علاقة تاریخیة بین هذه و تلك. و كان كشفا صاعقا لا یقل أهمیة عن اكتشافات داروین أو كوبرنیكوس .. هذا لا یعنی بالطبع نفی الوحی أو الاستلهام الربانی كما یفعل الملاحدة و الوضعیون ...
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 96
3- ینبغی أن نعلم أن الفكر الحدیث قد قضی عملیا علی إشكالیة «الكتاب السماوی أو العلوی أو الإلهی» مع النظرة إلی العالم و الممارسات الشعائریة، و الأخلاقیة، و السیاسیة التی تنطوی علیها. و لكن هذا الفكر لم یقم حتی الآن بتقییم الوظیفة النفسانیة- الاجتماعیة- الثقافیة التی تلعبها هذه الإشكالیة فی مجتمعات «الكتاب المقدس». و من وجهة النظر هذه، فإن مسألة موقف المعارضین لظاهرة الوحی لا تحتاج فقط إلی القیام بتفحّص تاریخی صرف، و إنما ینبغی أن نطرحها بكل أبعادها خارج نطاق كل غایة تبجیلیة. فهذا هو الشرط الذی لا بد منه لكی نتتبّع المسارات العمیقة للوعی الإسلامی داخل العالم المعاصر.
یمكن أن نحصر المقاربة التاریخیة مؤقتا «1» بتفحّص النقاط الثلاث التالیة: القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی 96 1 - المقاربة التاریخیة للمسألة ..... ص : 93
معطیات المسألة؛ 2- طریقة معیّنة فی التعبیر؛ 3- نمط معیّن من أنماط الفكر.

2- معطیات المسألة:

یتفق المؤرّخون عادة علی أن معارضی الدعوة التبشیریة لمحمد كانوا هم من المكّیین. و لكنهم لا یمیّزون بوضوح داخل هؤلاء المكّیین بین أولئك الذین كانوا یعارضون باسم نظام العقائد/ و اللاعقائد الخاصّة بالدین العربی السابق علی الإسلام، و بین أولئك الذین كانوا یعتنقون «الإیدیولوجیا الملكیة» التی نشرت فی الشرق الأوسط القدیم من قبل الأدیان الإیرانیة، و أدیان وادی الرافدین، و الأدیان السامیة «2» .. إلخ. و هذا التمییز یفترض امتلاك معرفة دقیقة بالعلاقات التی كانت قائمة بین الدین العربی بصیغته المكیّة بشكل خاص و بین هذه «الإیدیولوجیا الملكیة» التی كانت منتشرة بشكل متفاوت فی أوساط الجماعات العدیدة التی كانت تسكن منطقة الشرق الأوسط.
و هكذا نجد، مثلا، أن علاقات النسب التی یقیمها الباحث ج. س. فادیة.J .C Vadet بخصوص الحنفاء أو الحنیفیین یمكنها أن تغنی كثیرا ملف هذه المسألة إذا ما استطعنا تجمیع شهادات أكثر عددا و إقناعا. و یمكن أن نقول الشی‌ء ذاته عن البحوث المتبحّرة التی قام بها المستشرق جیو قیدینغرین‌Windengren Geo عن «الإیدیولوجیا الملكیة» و «الكتاب السماوی». فمیزتها الكبری تكمن فی فتح مبحث تاریخی واسع جدا. و دراسة موقف المشركین من ظاهرة الوحی ینبغی أن تحتل مكانتها داخل هذا
______________________________
(1) هل هناك من داع للقول بأن هذه الدراسة ككل لیست إلّا محاولة مؤقتة. فهناك مسائل عدیدة سوف تبقی معلّقة كما سیلاحظ القارئ من خلال تتبع الدراسة حتی النهایة.
(2) حول مفهوم «الإیدیولوجیا الملكیة»، انظر كتاب المستشرق ج. فیدینغرین السالف الذكر، ص 199 و ما بعدها.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 97
المبحث الواسع. و لكن علی الرغم من كل هذه الإنجازات، فإنه بقی علینا الكثیر لكی نفعله فی هذا المجال قبل أن نستطیع إطلاق حكم موثوق علی هویة المعارضین للوحی القرآنی. أقصد هویتهم (أو مكانتهم) الاجتماعیة و الثقافیة داخل المجتمع المكّی.
من الممكن أن نساهم فی تقدم هذا البحث عن طریق استخلاص المعطیات الضمنیة للآیات التی استشهدنا بها سابقا. قلت الضمنیة و لم أقل الصریحة. و ذلك لأن الدراسة التی تنحصر باستكشاف المعانی الصریحة للآیات تسقط بسرعة فی نوع من النزعة التاریخویة و اللغویة المتطرفة. و تخفی علیها بالتالی العناصر الأساسیة للتصوّر و الإدراك، هذه العناصر التی تولّد المعانی الصریحة. و هكذا نجد أنه إذا ما أمعنّا النظر فی الآیات المذكورة، فإننا نجد أنها توحی بوجود ذات جماعیة «1» فی مكّة. و فكر هذه الذات الجماعیة تهیمن علیه المسلّمات التالیة:
1- الإیمان مرتبط بالبراهین. فإذا لم توجد براهین، لا إیمان.
2- البرهان یتمثّل بالملاحظة البصریة لظواهر فیزیائیة أو مادیة محدّدة بدقة. فإذا لم یرها الناس لن یؤمنوا و لن یصدّقوا. و لكن نلاحظ أن هناك استمراریة بین واقعة مدركة عن طریق الحواس كانبثاق ینبوع ماء من الأرض مثلا، و بین حدث «خارق للطبیعة» كالصعود إلی السماء، أو هبوط ملاك إلی الأرض، أو تنزیل الكتاب المقدّس.
3- هناك فئة خلقت للكذب، و الخطأ، و الضلال، و الهوی. و فئة خلقت للحقیقة المثلی، و صحة النقل، و المرونة، و وضوح الوحی المتجلّی.
4- یمكن لأحد أعضاء الجماعة أن یختلق الأكاذیب و یخدع السامعین السذّج الذین یصدّقون كل شی‌ء. فیخرجهم بالتالی عن إطار الممارسة و الخطاب المعترف بهما من قبل الإجماع التقلیدی (أی یخرجهم عن دین الآباء و الأجداد).
5- إن السمات الممیزة للرسالة الصحیحة هی التالیة: قدرتها علی تولید الخیرات المرغوبة جدا كتفجیر نبع ماء فی الصحراء، أو استنبات حدائق النخیل و العنب حیث یسیل الماء، أو تشیید قصر ملی‌ء بالزینة و الزخارف. ثم إن هذه الرسالة الصحیحة تتمیز بقدرتها علی تولید أحداث غیر مألوفة: كإسقاط السماء علی الأرض قطعا، قطعا، أو أن یكون الشخص (النبی) مصحوبا بملاك منذر، أو تلقی الكتاب السماوی دفعة واحدة، أو رؤیة اللّه مباشرة ... كل هذه تشكّل براهین قاطعة فی نظر المكّیین علی صحة الرسالة و أن من یأتی بها یكون نبیا حقا. ینبغی علی الرسول أن یرتفع فوق الوضع البشری العادی و أن یلتحق بوضع الملائكة لكی یصدّقوه.
______________________________
(1) حول هذا المفهوم الاجتماعی- اللغوی، انظر كتاب العالم الفرنسی المختصّ بالألسنیات: ب. غیران:
مقالات فی علم الأسلوب:، 1969Klincksiek ،Paris ،stylistique de Essais :P .Guirand : و انظر أیضا كتاب الناقد لوسیان غولدمان: الماركسیة و العلوم الإنسانیة:sciences et Marxisme :L .Goldmann . 0791،Gallimard ،Paris ،humaines
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 98
6- إن الكتاب المتلقّی ضمن هذه الشروط هو كتاب الوحی، و ینبغی أن یستطیع الناس قراءته. و عندئذ یصبح المصدر الأعلی لكل معرفة صحیحة، و المعیار الأعلی لكل سلوك مستقیم. و لهذا السبب ینبغی الاشتباه بالنسخ المزیفة الشائعة عن كتاب الوحی و تنبغی إدانتها أو فضحها. فالكتاب المزوّر مكروه جدا. و أما الكتاب الصحیح أو الحقیقی، فیدخل قطیعة داخل الوضع البشری عن طریق شعور الناس بوجود ما قبل الكتاب/ و ما بعده.
هذه الخلفیة الفكریة التی تقبع خلف خطاب «الكفّار» أو «غیر المؤمنین» تبرهن علی أن رفضهم لیس ناتجا عن الجهل، أو عن معارضة منتظمة لظاهرة الكتاب المقدس باسم عقیدة منافسة أو مضادة. علی العكس، إنهم یتموضعون داخل إشكالیة الكتاب السماوی أو المقدّس و لا یطلبون شیئا آخر غیر أن یؤمنوا ... اللهمّ إذا ما ملأ محمد كل الشروط المطلوبة عادة من أجل أن یؤمن الناس. و هكذا تحیلنا المسألة إلی تاریخ سابق و إلی فینومینولوجیا مختلف أنواع الوحی السابقة له، أی السابقة علی الوحی الذی حصل لمحمد «*». الشی‌ء المهم هنا و الذی ینبغی أن نركّز علیه الأضواء هو أن هذه الشروط كانت معروفة فی مكّة فی بدایة القرن السابع المیلادی. و قد ضغطت بكل ثقلها علی التبشیر القرآنی أو قل علی الدمج الاجتماعی- الثقافی لهذا التبشیر (أی علی رفضه أو قبوله).
إذن نلاحظ أنه كان یوجد فی مكّة موقف جدلی و احتجاجی قائم علی المحاجّة و طلب البراهین باسم تصوّر راسخ آنذاك عن الكتاب السماوی أو كتاب الوحی. و فی مواجهة هذا الموقف راح الخطاب القرآنی یحاول فرض الإسلام، أی موقف تسلیم النفس بكل ثقة إلی الوحی الذی نقل فعلیا إلی محمد. إنّ الآثار اللغویة لعملیة الانتقال هذه موجودة علی مدار النصّ القرآنی كله (أقصد الانتقال من موقف معیّن للروح إلی موقف آخر، أو الانتقال من موقف ما قبل الإسلام إلی موقف ما بعد الإسلام). بل و یصل بنا الأمر إلی حد التساؤل عمّا إذا لم تكن الضرورة الأولیة لتحویل استعداد عقلی ما هی التی أدت، فی النهایة، إلی تولید لغة جدیدة، و فرض نمط تعبیری قائم علی الاحتجاج و المعارضة.
فالانقسام الأكبر المتمثّل بثنائیة الكفّار/ المؤمنین لیس له فقط دلالة عقائدیة، و إنما له انعكاسات أو تأثیرات علی البنیة اللفظیة و المعجمیة و النحویة و التركیبیة للخطاب القرآنی.
إنّ هذه البنیة اللغویة ما هی إلّا تعبیر عن حالة اجتماعیة- ثقافیة كان ینبغی تجاوزها آنذاك.
و لكن هذه البنیة سوف تلعب لاحقا- علی بعض الأصعدة و بدرجات متفاوتة بحسب الفترات الزمنیة- دور العقبة الإبستمولوجیة داخل الفعالیة المعرفیة للفكر الإسلامی.
______________________________
* المقصود بالفینومینولوجیا هنا الوصف الظاهراتی للوحی السابق علی الوحی القرآنی، أی الوحی التوراتی و الإنجیلی. و أركون یعتبر الوحی ظاهرة مثله فی ذلك مثل الظواهر الطبیعیة كسقوط المطر، أو هبوب الریاح أو أیة ظاهرة أخری. و بالتالی، فینبغی أن ندرس ظاهرة الوحی كما هی، أی كما أثّرت فی ملایین البشر طیلة قرون و قرون.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 99
فبالنسبة للمؤمن الذی یفترضه القرآن، فإن الإیمان لیس مرتبطا ببراهین ملموسة أو محسوسة، براهین مذهلة تحصل فورا علی رءوس الأشهاد، و إنما بالقرار الأعظم الذی لا یعلمه إلّا اللّه. إنه مرتبط بالأمل و بالرغبة الحارقة لملاقاته (أی ملاقاة المؤمن للّه). و بالتالی فیكفی إذن استقبال الكلام الأعظم الذی ینفخ هذا الأمل أو یضخّمه، ثم یشعل تلك الرغبة الحارقة و یبشّر بالقرار الأمثل الملائم لكی یؤمن الإنسان. و لكن البراهین المطلوبة من قبل «الكفّار» لم تهمل من قبل هذا الخطاب اللغوی الجدید، أی القرآن. فقد قام محمد بسفرة لیلیة، أی بالإسراء. تقول الآیة القرآنیة: سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِیَهُ مِنْ آیاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ [سورة الإسراء، الآیة 1]. و قد تلقی الكتاب السماوی عن طریق «كائن ذی قوة عظیمة»، كما لم یكن ضالا أبدا. یقول القرآن بالحرف الواحد: وَ النَّجْمِ إِذا هَوی. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوی. وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحی. عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُوی [سورة النجم، الآیات: 1- 5].
بدءا من تلك اللحظة راح مفهوم «الكفّار» یتحوّل و یتغیّر: فلم یعد الأمر یتعلق بأولئك الذین یطالبون ببراهین مشروعة لكی یصدّقوا، و إنما بأولئك الذین یظلّون معاندین حتی بعد أن تقدّم لهم البراهین الكافیة. إن الترتیب الزمنی للآیات القرآنیة كان سیتیح لنا- لو عرفناه بدقة- أن نتتبع تطوّر معنی هذا المفهوم: «الكفّار»، و المفهوم المرافق له: «المؤمنون». و لو حصل ذلك لنتج عنه استخدام لاهوتی أقلّ تبسیطیة و أكثر تاریخیة. إن إمكانیة تجدید الفكر اللاهوتی فی الإسلام سوف تتبدّی لنا أكثر عند ما ندرس صیغة التعبیر و نمط الفكر المستخدمین فی القرآن لكی یفرض علی سامعیه المعاصرین له صحته الإلهیة.

طریقة معیّنة فی التعبیر:

لا نزال بحاجة إلی بلورة تیبولوجیا للخطاب القرآنی. و المقصود بالتیبولوجیا هنا الكشف عن أنماط الأسالیب المختلفة التی یستخدمها هذا الخطاب «*». و هذا مبحث صعب یستحق أن یدرس بذاته و لذاته، و لیس بشكل عرضی، أو علی هامش مبحث كمبحثنا الهادف أساسا إلی شی‌ء آخر. ینبغی الكشف عن أنماط الأسالیب التعبیریة (أو اللغویة) المستخدمة فی القرآن من أجل بلورة إشكالیة مشتركة تنطبق علی دراسة جمیع مجتمعات الكتاب المقدس. و بالتالی، فأرجو من القارئ أن یعتبر الملاحظات التالیة مجرد ملاحظات مؤقتة «1» لیس إلّا.
______________________________
* كلمة تیبولوجیاTypologie : مشتقة من كلمةType ، أی نوع أو نموذج، و بالتالی فهی تعنی علم الأنواع أو النماذج. و القرآن یستخدم عدة أسالیب لغویة. و بالتالی، ینبغی أن یقوم أحد الباحثین بدراسة مختلف أنواع الأسالیب المستخدمة فی القرآن.
(1) انظر بحثنا: «هل نستطیع أن نتحدث عن العجیب المدهش أو الساحر الخلّاب فی القرآن؟»، و هو منشور فی كتابنا: قراءات فی القرآن: ( (؟Coran le dans merveilleux de parler Peut -on ((:M .Arkoun . 78.p ،.op .cit ،Coran du Lectures :In
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 100
عند ما ننظر عن كتب إلی البنیة الأساسیة لأسلوب التعبیر المستخدم فی القرآن، فإننا نكتشف أن صحة الكتاب المقدس ذات قاعدة لغویة أساسا. لا ریب فی أن المؤمن یتصوّر هذه الصحة و كأنها نقل حصل بالفعل بواسطة وسائل و أسالیب التوصیل «السماوی أو الإلهی». أما عالم الأنتربولوجیا الحدیث فیقول بأن هذه الوسائل و الأسالیب ما هی إلّا مجازیة أو خیالیة أو أسطوریة. و لكن التجلّی الملحوظ و المحسوس للرسالة المنقولة حصل فی لغة بشریة- هی هنا اللغة العربیة- حیث إن لافظ الكلام یؤكّد ذاته عن طریق صیغة معیّنة و نمطیة من صیغ التعبیر. كل الأدبیات الكلاسیكیة التی تركّزت حول مسألة الإعجاز (علی الأقل فی مكتسباتها اللغویة المحضة) تؤكّد علی هذا الدور الحاسم الذی لعبته هذه الصیغة التعبیریة اللغویة فی انبثاق الوعی بالكتاب السماوی الموحی به داخل الدائرة اللغویة العربیة.
و لهذا السبب أقول بأن البحث التاریخوی الأكادیمی أنهك نفسه من دون جدوی من أجل تقلیص الصحة الإلهیة للخطاب القرآنی و ذلك عن طریق الإكثار من ربطه بالمرجعیات القدیمة، أو عن طریق الاقتصار علی وصف الجوانب البلاغیة و الأسلوبیة لنظریة الإعجاز «*». قلت تقلیص الصحة الإلهیة و كان یمكن أن أقول جعلها نسبیة. لا ریب فی أن نظریة الإعجاز كانت قد أضعفت، و بشكل عام، زیّفت من قبل المسلّمة اللاهوتیة المسبقة.
و لكنها تحتوی علی معلومات أو تعالیم یمكن لعالم الألسنیات الحدیثة أن یستخلصها و یستخدمها ضمن منظور حدیث و جدید تماما.
یتفق علماء الألسنیات الحدیثة علی التمییز بین نوعین من استخدام اللغة: السرد القصصی، و الخطاب. و كل واحد من هذین النوعین فی التعبیر یتمیّز باستخدام شكلین لفظیّین أو معجمیّین، و جهازین متمایزین من الوظائف النحویة و التركیبیة «1». و نلاحظ أن
______________________________
* القرآن مكتوب بلغة طبیعیة هی هنا اللغة العربیة. فكلماته و حروفه هی ذات الكلمات و الحروف التی كان یستخدمها الشعر الجاهلی مثلا، أو النثر العربی فی القرن السابع المیلادی. و لكن تركیبته اللغویة شدیدة الإبداع و الجمال و عمیقة التأثیر، و لذلك سحرت ألباب القرشیین أو المكیین: إن من البیان لسحرا ...
و الدلیل علی أنها وحی هو أن تأثیرها یخترق القرون و یصل إلی الملایین. و أما البحث التاریخوی الأكادیمی فیقصد به أركون بحوث المستشرقین الذین حاولوا البرهنة علی الطابع البشری للقرآن عن طریق ربطه بكتب الوحی السابقة: أی التوراة و الأناجیل أساسا. فقصة موسی و عیسی، و نوح، و الطوفان، و مریم العذراء، و قصة یوسف، و فرعون، إلخ .. كلها واردة سابقا فی كتب الیهود و، المسیحیین. و لكن القرآن أعطاها صیاغة جدیدة فی اللغة العربیة. و أما نظریة الإعجاز فهی عبارة عن المسلمة اللاهوتیة التی تقول بأن القرآن یرتفع علی كل الكلام العربی بشكل لا یضاهی حتی و لو كان مكتوبا بنفس حروف اللغة العربیة، و نحوها و صرفها.
(1) حول مفهوم السرد أو الحكایة، انظر كتاب كلود بریمون: منطق السرد القصصی::Cl .Bremond 3791،Seuil ،Paris ،recit du .Logique و أما فی ما یخص الخطاب، فإن التوجّهات و التحلیلات التی قدمها إمیل بنقینیست تظل هی الأكثر وضوحا. انظر كتابه: مسائل فی علم الألسنیات العامة،-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 101
القرآن یستخدم بشكل واسع كلا الشكلین أو كلتا الصیغتین فی التعبیر. و لكن التحلیل العمیق یكشف لنا أن البنیة الأساسیة للنصّ ككل تتمثّل بالحوار حیث نجد أن «صیغتین لغویتین فی حالة الشراكة تجدان نفسیهما مسئولتین عن الكلام أو القول بالتناوب. و هذا الإطار یتشكل بالضرورة مع الكلام ذاته» «1».
من السهل تبیان أن الحكایات أو القصص القرآنیة تحصل داخل الإطار العام للحوار.
فهناك متكلّم أعظم «2» مهیمن علی النصّ القرآنی كله «*». و هو یتدخل صراحة فی النصّ لكی یحوّل جذریا وعی المتلقّی. و عن طریق هذه التدخلات المستمرة للمتكلّم الأعظم، یحصل الانتقال من المعنی الصحیح الأمثل (أی التوجّه الأمثل أو الهدی كما یقول القرآن) إلی الصیغ اللفظیة و النحویة التی تمارس دورها بعدئذ بصفتها انعكاسات للمعنی الأصلی الأمثل و للعلامات المحفّزة من أجل تولید متكلّمین جدد للمعانی الثانیة (انظر بهذا الصدد كل الأدبیات التفسیریة، أی كتب تفسیر القرآن).
و حتی لو قصرنا حدیثنا علی الآیات المستشهد بها سابقا، فإننا نستطیع أن نجد العناصر الأساسیة ل «الجهاز اللغوی للقول أو للكلام» فی القرآن. سوف نكتفی بتعدادها هنا، أو بذكرها مجرد ذكر، لأننا كنا قد درسناها تفصیلا فی مكان آخر «3».
نجد أولا بنیة العلاقات بین الضمائر (أنا، هو، أنت، نحن، هم، أنتم ...). و هذه البنیة تمیّز كلیة النصّ القرآنی لأنها متواجدة علی مداره «**». و لكن داخل هذه البنیة یمكن
______________________________
- بجزئیه الأول و الثانی:،Gallimard ،Paris ،II ،I ،linguistique de Problemes :E .Benveniste . 4791، 1966
(1) انظر: إمیل بنقینیست: المصدر نفسه، الجزء الثانی، ص 85.
(2) إنّی أستخدم الحرف الكبیر بالفرنسیة لكتابة مفهوم المتكلّم- الناطق‌Enonciateur و لیس الحرف الصغیر.enonciateur و أرید بذلك التدلیل علی الدور اللغوی المهیمن ل «أنا» أو لذات معیّنة و مضخّمة فی بنیان الكلام المنطوق (أو الخطاب). فهذا الناطق- المتكلّم الجبار یهیمن علی الخطاب القرآنی من أوله إلی آخره.
* هذا المتكلّم الأعظم یجبل اللغة جبلا و یستخدمها بطریقة تؤدی إلی تغییر عقلیة السامع. و ینعكس ذلك علی تراكیب اللغة و مفرداتها إلی حد أن أی شخص واقع تحت تأثیر اللغة القرآنیة لا یعود یستطیع مقاومة هذا التأثیر أو التخلّص منه إلّا بشقّ النفس. أما المعانی الثانیة فیقصد بها أركون شروحات القرآن أو التعلیقات و التفاسیر التی أثارها منذ البدایة و حتی الآن. فالقرآن هو اللغة الأولی أو المعنی الأول، و التفاسیر هی المعنی الثانی أو اللغة الثانیة التی تعیش علی اللغة الأولی. بهذا المعنی یمكن القول بأن القرآن هو النصّ التأسیسی الأول الذی أثار نصوصا ثانیة عدیدة حتی الیوم.
(3) انظر دراستنا: «قراءة سورة الفاتحة» (المبحث الثالث فی هذا الكتاب) و هو بالأصل منشور فی كتاب قراءات فی القرآن (بالفرنسیة) 41.p ، (Fatihade Lecture (،.op .cit ،Coran de Lectures :.M .Arkoun
** یتخذ تحلیل أركون هنا طابعا ألسنیا أو لغویا محضا. و هذا شی‌ء مهم جدا علی الرغم من و عورته-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 102
أن نركّز علی علاقة متمیّزة ذات قیمة تأسیسیة أو تشكیلیة بنیویة (بالنسبة للشكل كما بالنسبة للمضمون و جوهر التعبیر). و بعدها نلاحظ وجود علاقة ثانویة أو أدواتیة (أی تابعة للأولی). الأولی تتخذ صیغة النحن/ أنت، أنا (أی محمد)/ أنت بالمعنی الكبیر للكلمة (أی اللّه). و أما الثانیة المتمثّلة ب نحن/ أنت، هو (أی الكفار/ محمد)، النحن (ضمنیة)/ أنتم/ هو، النحن/ أنت (ضمنیة)/ هم بصیغة المفعول به، و الفاعل (أی بنی إسرائیل).
نلاحظ من خلال تأمّل هذه العلاقات بین الضمائر الشخصیة مدی أهمیة المتلقی المتمیّز (أی محمد)، و لكنه لا یمثّل فی الوقت ذاته سوی مجرد ناقل وسیط لرسالة موجّهة إلی البشر (أی: أنتم، هم). و لا یصبح المتلقی متكلما لافظا متوجها بكلامه إلی الآخرین إلّا فی حالات استثنائیة و داخل إطار القول الخاص بالمتكلّم الأساسی.
أما الطبقة الثانیة لعلامات القول (أو التلفّظ بالكلام)، فمشكّلة من قبل «قرائن التبیین»، أو «الأفراد اللغویین» الذین یحیلوننا إلی أشخاص، أو لحظات، أو أماكن «1».
و هذه هی حالة الضمائر الشخصیة، أو البرهانیة، أو النعتیة ... إلخ. و عن طریق هذه الضمائر یتوصل الناطق المتكلّم إلی تنظیم المكان، و العلاقات، و الأحوال أو أسالیب الحیاة و الوجود. انظر بهذا الصدد العبارات القرآنیة التالیة: و قالوا ما لهذا الرسول ... هذا القرآن، و قالوا أساطیر الأولین ...، إنّ هذا إلّا إفك افتراه، بنو إسرائیل: المذنبون، أو المجرمون.
إنّ الصیغ الزمنیة التی یستخدمها الناطق المتكلم من أجل تنظیم الزمن انطلاقا من الحاضر الذی یتموضع فیه تشكّل المجموعة الثالثة من هذا التحلیل اللغوی أو الألسنی.
نلاحظ مثلا أن استخدام الفعل بصیغة الماضی أو الحاضر من قبل الجاحدین أو غیر المصدقین یتحكّم به حدث محوری أو تأسیسی هو: نزول الكتاب السماوی. و طبقا للآیات المذكورة، فإننا نفهم أن هذا النزول قد حصل سابقا، و لكنه یتضمّن متبقّیات تعید تحیین الحدث من دون توقف «*». ینتج عن ذلك حاضر أبدی تندرج داخله حواضر (أو أزمنة حاضرة) مؤقتة أو عابرة مرتبطة بظروف محدّدة. بمعنی آخر: لقد حصل النزول للتوّ بشكل
______________________________
- و صعوبة فهمه. فالنصوص الدینیة الكبری- و بخاصة القرآن- تبدو و كأنها فوق الزمان و المكان و المشروطیات اللغویة. و لذا، فإن التركیز علی بنیتها اللغویة و النحویة و اللفظیة یحرّرنا إلی حد ما من هیبتها اللاهوتیة الضخمة و یحیلها إلی حقیقتها، أی كنصوص لغویة تنطبق علیها القوانین النحویة و الصرفیة نفسها التی تنطبق علی بقیة النصوص الأخری.
(1) انظر: إمیل بنقینیست، مصدر مذكور سابقا، ص 83.
* بمعنی أنه كلما نزلت آیة أو مجموعة آیات أو سورة كلما تم تحیین الوحی من جدید. فالوحی لم ینزل دفعة واحدة، و إنما علی دفعات تفصل بینها مسافات زمنیة قد تطول أو تقصر. و قد استمر نزوله مدة عشرین سنة كما هو معروف.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 103
جزئی أو كلّی، و ینبغی فرض صحّته علی الناس فورا. و هكذا تتأكد صحّة تلك الملاحظة التی نصّ علیها العالم إمیل بنقینیست «**»: «یمكننا الاعتقاد بأن الزمنیة (أو الزمانیة) هی إطار غریزی أو فطری للفكر. فی الواقع، إنها تحصل داخل عملیة النطق أو الكلام و بواسطتها.
و عن النطق تتشكّل مقولة الحاضر، و عن مقولة الحاضر تتولّد مقولة الزمن» «1».
إنّ الوظائف النحویة- التركیبیة التی یستخدمها الناطق- المتكلّم للتأثیر علی المتلقی موجودة كلها فی القرآن. نقصد بهذه الوظائف هنا الأسالیب اللغویة من نوع: التساؤل، التعجّب، التبلیغ أو الإعلام، الإثبات أو الجزم. و كلها أسالیب مستخدمة فی القرآن. فی الآیات التی نحلّلها هنا نلاحظ أولا و بشكل خاص مدی الأهمیة التی یتخذها أسلوب الإثبات أو الجزم القاطع. فالآیات تستخدم الإثبات و النفی المدعومین أم لا من قبل یمین القسم. كما و نلاحظ أن هذه الآیات تستخدم بشكل متكرر الجملة الاسمیة. و عن طریق هذه الأسالیب اللغویة نلاحظ أن الناطق یرید ترسیخ یقینیات معیّنة فی ذهن السامع أو فی وعیه. إنه یوجّه بطریقة واضحة و مدروسة كل الاستخدام المعرفی للّغة فی الوجهة التی یریدها. انظر مثلا كیفیة استخدامه للكلمات التالیة: الكفّار، الجاحدون، الظالمون، العدو، المجرمون. فهؤلاء جمیعا یشكّلون فئة احتقرت و حطّ من قیمتها عن طریق الأقاویل المفرطة، أو الحمقاء المجنونة، أو المتغطرسة و المتكبرة التی عزیت إلیها. علی العكس من ذلك، فإن الآیات المذكورة تقدّم المؤمنین علی أساس أنهم أولئك الذین یتّبعون النبی.

نمط معین من أنماط الفكر:

إنّ هذا الاستخدام النمطی للغة لا یولّد آثار المعنی المرغوبة من قبل الناطق إلّا إذا قدّم ثمة نظام فكری مناسب. و لا نقصد بالنظام الفكری هنا فقط الكفاءة اللغویة بالمعنی الذی یعطیه علم القواعد التولیدیة لهذا المصطلح، أی المقدرة المستبطنة من قبل الذات و التی تولّد مثل هذه الكفاءات داخل اللغة. و إنما نقصد به- أی بالنظام الفكری- مجمل التصوّرات، و العقائد الإیمانیة، و المسلّمات التی تتطلّب هیكلیّتها استخداما متفرّدا للفكر. و هذا ما ندعوه، إذا ما استعرنا تعبیر میشیل فوكو، بالإبستمیة، أی النظام الفكری الذی یهیمن علی فترة بأسرها.
فی الواقع إن مصطلح الإبستمیةepisteme یطرح مشكلة هائلة، ذلك لأنه یضع علی محك الشك المسلّمة العظمی التی تتحكّم بكل فكر لاهوتی ناشئ و متطوّر داخل خط الاعتقاد بالكتاب السماوی (أو كتاب الوحی). لما ذا أقول ذلك؟ لأن كلام اللّه فی
______________________________
** إمیل بنقینیست‌Benveniste Emil الذی یستشهد به أركون هنا هو أحد كبار علماء الألسنیات فی فرنسا. ولد فی مدینة حلب بسوریا عام 1902، و توفی فی باریس عام 1976، و ألّف عدة كتب مهمة.
(1) إمیل بنقینیست مصدر مذكور سابقا، ص 83.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 104
شكله و مضمونه و المنقول فی الكتاب السماوی یتعالی علی كل الكفاءات اللغویة المتحقّقة سابقا أو القابلة للتحقّق لاحقا فی اللغات البشریة. و بالتالی، فإنه یتعالی علی كل الاستخدامات البشریة للفكر (أو یتجاوزها، أو یتخطاها). ینتج عن ذلك أن العقل المجبول بهذا الكلام هو أیضا أبدی أو غیر مخلوق، و بالتالی فوق التاریخ أو یتجاوز التاریخ. أی أنه یفلت من التاریخیة و یتخطاها. و هذا العقل ظل مهیمنا طیلة قرون عدیدة علی الأنظمة اللاهوتیة و المیتافیزیقیة الكلاسیكیة. صحیح أنه قد یعترف ب «تعدّدیة الفلسفات من حیث المبدأ»، إنما مع المحافظة علی مبدأ «وحدة الحقیقة» و عن طریق الخضوع ل «معیار الموضوعیة التی تتجاوز كل عقل أو كل عقلانیة» «1».
لن نستطیع استنفاد هذه المناقشة المهمّة هنا أو إیفاءها حقّها. فهی تتطلّب معالجات طویلة و معقدة. و لكن الشی‌ء الأساسی الذی ینبغی التركیز علیه هو التالی: سوف یكون من العبث، بل و من الخطر اجتماعیا و سیاسیا، أن نحسم مسألة الموقف من ظاهرة الوحی فی المناخ الإسلامی عن طریق التصدیق علی إحدی الفرضیتین المتصارعتین و المتمثّلتین إما بتاریخیة العقل المشكّل من قبل الوحی و إما بلا تاریخیته. و لذا فسوف نتّبع بالأحری طریقا آخر، ألا و هو استخدام مثال القرآن من أجل إغناء مناقشة صعبة.
لا توجد حتی الآن أی دراسة تطبق علم القواعد التولیدیة «*» علی اللغة العربیة.
و بالتالی، لا نستطیع أن نعالج بشكل مفید مسألة الكفاءة اللغویة التی تفترضها الإنجازات اللغویة القرآنیة (أو العبارات القرآنیة). فی المقابل، كنا قد استكشفنا فی مقالات عدیدة سابقة بعض السمات الممیّزة للنظام الفكری الذی یتحكّم بالخطاب القرآنی «2». و نحن نزمع مواصلة البحث و التحرّی داخل الإطار الأوسع لكتاب كامل. لنكتف هنا بإضافة بعض الملاحظات التی تتیحها لنا قراءة الآیات السابقة التی استشهدنا بها.
بعد قراءة الآیات عن كثب نلاحظ انبثاق المطلب النقدی الذی یمارس نفسه من خلال
______________________________
(1) انظر: كتاب المستشرق الفرنسی لویس غاردیة: دراسات فی الفلسفة و التصوف المقارن.:L .Gardet . 91- 61.pp ، 1972،J .Vrin ،comparees mystique de et philosophie de Etudes
* علم القواعد التولیدیة:generative grammaire La هو من اختراع المفكّر الأمریكی نعوم شومسكی و مجموعة علماء الألسنیات الباحثین فی معهد ماساشوسیتس للتكنولوجیا..M .I .T و ضمن هذا المنظور فإن علم القواعد هو عبارة عن آلیة محدودة بمجموعة قواعد و لكنها قادرة علی تولید عدد لا محدود من العبارات أو الجمل. و لهذا السبب دعی بعلم النحو التولیدی أو علم القواعد التولیدیة. و الجنس البشری، تمییزا له عن بقیة الأجناس الأخری، یمتلك بنیات كونیة فطریة تتیح للطفل تعلّم اللغة و اكتساب نحوها و صرفها بشكل تدریجی منذ الصغر.
(2) انظر: دراستینا «قراءة سورة الفاتحة» فی هذا الكتاب، و «كیف نقرأ القرآن؟» المنشورة فی كتابنا (بالفرنسیة): قراءات فی القرآن، مصدر مذكور سابقا::in ) )؟Coran le lire Comment ((:M .Arkoun ..op .cit ،Coran du Lectures
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 105
التفحّص التجریبی المباشر. و نلاحظ أیضا بدایة البلورة للتمییز بین الوضع البشری العادی (كتناول الطعام مثلا، أو الذهاب إلی السوق) و بین الوضع الأعلی غیر الموصوف بدقة.
و الحقیقة هی أن العالم الخیالی/ و العالم المحسوس الواقعی، و كذلك التاریخ الأسطوری أو المقدس/ و التاریخ الحدثی، أو تاریخ الأحداث و الوقائع، كلها أشیاء كانت لا تزال مختلطة أو غیر متمایزة. فالمزدوجات الثنائیة من نوع: فوق الطبیعة/ طبیعة، عجیب خارق للعادة/ واقعی، لا مادی/ مادی، هی أشیاء مسلّم بها من قبل بنیة الاحتجاج و موضوعه.
و لكنها لا تزال أبعد ما تكون عن أن تشكل مقولات موجّهة للفكر. فظهور الملاك المنذر إلی جانب النبی، و صعود النبی إلی السماء، و رؤیته المباشرة للّه، و قراءة كتاب نازل من السماء، هی أشیاء كان یطالب بها معاصر و محمد و كأنها وقائع محسوسة یمكن لمسها بالید أو رؤیتها بالعین. و یمكنها أن تظهر فی الحیاة الیومیة كما ینبثق نبع ماء من الأرض، أو كما ینشأ بیت ملی‌ء بالزخارف ... إلخ. فهناك اتصالیة مستمرة للواقع. ینبغی أن نوسّع هذه القراءة لكی تشمل مجمل النصّ القرآنی لكی نبیّن كیف أن كائنا واحدا أعظم ینفصل عن هذه الاتصالیة المستمرة، و یتعالی علیها و یعید خلقها من دون توقف. و لكن علی هذا المستوی من النصّ هناك إحلال للرؤیا الجدیدة المبلورة من قبل الناطق أو المتكلّم محل الرؤیا القدیمة. بقی علینا أن نحدّد بدقة إلی أی مدی تقطع فیه هذه الرؤیا الجدیدة مع مجریات و آفاق الفكر الأسطوری كما كان یمارس ذاته فی السیاقات الاجتماعیة- الثقافیة المختلفة للشرق الأوسط القدیم. ثم علی العكس: إلی أی مدی یعتبر فیه هذا الفكر و كأنه استعید فی خطوطه الأساسیة مجرد استعادة فی اللغة العربیة؟ هذه هی نوعیة الأسئلة التی ینبغی أن تطرح. و فی ذات الوقت ینبغی أن نستكشف التجلّیات الأولّیة أو الجنینیّة، ثم البذور الواعدة لما سوف یفرض نفسه لاحقا تحت اسم الفكر الواقعی (كالعقلانیة، و التاریخ المحسوس، و المعرفة الصحیحة للواقع). إن هذا التساؤل حول نمط الفكر الذی ولّد الخطاب القرآنی و الذی سیغدو لاحقا مستنبطا منه هو الآن ضروری جدا. نقول ذلك خصوصا و أن القراءات الإسقاطیة و الامتثالیة التوافقیة لا تزال تلقی نجاحا كبیرا فی الأوساط العربیة- الإسلامیة «1».
بمعنی آخر، إن ظاهرة الوحی لا تزال متجاهلة فی بعدیها التاریخی و الأنتربولوجی من قبل جمهور المسلمین.

بعض الركائز من أجل إعادة قراءة القرآن‌

اشارة

إنّ المشاكل التی لمسناها بالكاد لمسا خفیفا فی الصفحات السابقة، توحی لنا بحجم المهام الملقاة علی عاتق الفكر الإسلامی النقدی. و لكن ینبغی علینا أن نرتب هذه المهام
______________________________
(1) إن المثل الأحدث من حیث الزمن و الأكثر دلالة علی ذلك تقدمه لنا مؤلّفات الكاتب المصری د.
مصطفی محمود. انظر: القرآن، محاولة فی فهم عصری، بیروت، الطبعة الثالثة، 1973.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 106
بحسب الأولویة و الأهمیة، و بحسب علاقاتها بالمهام التی یهتمّ بها البحث المعاصر فی العلوم الإنسانیة. فلقد آن الأوان بالنسبة للفكر الإسلامی لأن یقطع، إن لم یكن مع خطاب التبجیل الذاتی للذات، فعلی الأقلّ، لأن یوازنه بخطاب آخر، هو خطاب الفكر الجاد و المسئول. و أقصد بذلك أن علیه أن یتخذ القرار التالی: أن یتحمّل مسئولیة المخاطر الحدیثة للمعرفة العلمیة، و ذلك بالتضامن مع جمیع التراثات الثقافیة الكبری للبشریة.
لكی نجعل إعادة قراءة القرآن تتقدم فی هذا الاتّجاه، فإنه یبدو لنا من الضروری أن نكثّف جهودنا فی الاتجاهات التالی بیانها:

1- تحدید نظام اللّغة العربیة بین عامی 550 و 632 م‌

هذان التاریخان لیسا إلا نقطتین استدلالیتین یمكن للبحث أن یؤكدهما أو یعدّلهما لاحقا. لا ریب فی أنه توجد أدبیات غزیرة حول العرب قبل الإسلام و خلال فترة الوحی.
و لكن بقی علینا أن نقوم بجردة نقدیة موثوقة للوثائق التی سوف تستخدم كقاعدة من أجل تحدید اللغة العربیة المعاصرة للقرآن.
و مثل هذه الجردة لا ینبغی أن تحتفظ بالعناصر الإیجابیة فقط، و إنما ینبغی علینا أیضا، و بالدرجة ذاتها، أن نهتمّ بما سندعوه بالمعطیات السلبیة المرافقة لكل إعادة قراءة حدیثة للقرآن. و نقصد بذلك ما یلی: بما أن بعض المواد أو الوثائق الأساسیة و الضروریة للتوصّل إلی معرفة صحیحة بالقرآن قد اندثرت إلی غیر رجعة، فإنه ینبغی علینا أن نعترف بأن أیة إعادة قراءة لا یمكنها أن تتوصل إلی المعنی التاریخی الكامل للعبارات اللغویة القرآنیة «*». و هذه العقبة التی لا حیلة لنا فیها قادرة وحدها علی عرقلة الاستغلال الایدیولوجی للخطاب القرآنی. و لهذا السبب نلاحظ أن الفئات الاجتماعیة التی تعیش علی هذه الإیدیولوجیا تصرف النظر عن هذه العقبة لكی تحافظ علی الوظیفة التعبویة أو التجییشیة للنصّ. و هكذا نلاحظ أنه یوجد اختلاف أساسی بین مصالح المعرفة الموضوعیة، و بین الضرورات الملزمة أو الإجباریة لحیاة الفئات الاجتماعیة. و نلاحظ أیضا أن هذا الاختلاف أو التناقض یحصل بخصوص جمیع النصوص الكبری التی استخدمت كمحرّك إیدیولوجی.
هكذا نجد أن اللغة الدینیة تسحب باستمرار فی اتجاه الاستخدامات الإیدیولوجیة (لا یوجد دین إلا و تعرض للاستغلال الإیدیولوجی أو السیاسی من قبل هذه الفئة أو تلك).
و بالعكس، فإن النموذج الإیدیولوجی الظافر (كالنموذج السنّی المالكی فی الغرب
______________________________
* فی ما یخصّ هذا المفهوم الألسنی «ظرف الخطاب» أو حیثیات الخطاب، انظر المبحث الثالث فی هذا الكتاب: «قراءة سورة الفاتحة». و ظرف الخطاب یعنی كل الحیثیات و الظروف المحیطة بالخطاب أثناء لفظه أو النطق به لأول مرة. فمثلا كیف كان النبی ینطق بالآیات القرآنیة أمام أهل مكة؟ و ضمن أیة ظروف؟
و كیف كانوا ینظرون إلیه أو یتلقون كلامه و هو ینطقه؟ هذه أشیاء یستحیل أن نصل إلیها.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 107
الإسلامی، أو النموذج الشیعی فی عهد البویهیین .. إلخ)، یؤدی إلی تولید مصائر تاریخیة متنوعة أو متغیرة للغة الدینیة.
إن البحوث و التحرّیات التی ینبغی أن تجری حول اللغة العربیة فی الفترة الواقعة بین القرنین السادس و السابع المیلادیین لا ینبغی أن تقتصر علی استغلال الوثائق المكتوبة. و إنما توجد طریقتان أخریتان كان الرواد الكبار قد شقّوهما و مهّدوا لهما الطریق سابقا، و ینبغی علینا استكشافهما بشكل منتظم و كامل. و هما: الطریقة الأركیولوجیة، و الطریقة العرقیة- اللغویة «*». إنّ اهتمام الباحثین بنتاج المؤرّخین الكلاسیكیین و العربیة الفصحی أكبر بكثیر من اهتمام بعض الاختصاصیین القائل بنقوش جنوب الجزیرة العربیة، أو بالتحرّیات المیدانیة الإثنوغرافیة، أو بعلم اللهجات. فهذه المیادین العلمیة لم تكتسب بعد فی البلدان العربیة المكانة التی تستحقها أو التی تتناسب مع أهمیتها المعرفیة. و هذا الموقف قدیم جدا و لیس حدیث العهد. فی الواقع، ینبغی لنا أن نعود إلی القرآن نفسه لكی نفهم منشأ هذا الموقف الذی یرمی فی «ظلمات الجاهلیة» تلك الشعوب أو الأقوام التی بقیت بمنأی عن «نور الإسلام». و بالتالی، فنحن نحتاج هنا إلی بذل جهود ضخمة لكی نعید إلی هذه الأشیاء اعتبارها. یكفی أن نضرب هنا مثلا واحدا علی هذه الجهود التی ینبغی أن تبذل: ألا و هو إنجاز معجم لفظی شامل للغة العربیة القدیمة. و نحن نأمل أن تقدم لنا الدراسة المنتظمة لجمیع اللهجات العربیة المعروفة إسهامات ثمینة بهذا الصدد.

2- الأساطیر، و الشعائر، و الأدیان فی الشرق الأوسط القدیم:

هذا موضوع ضخم كان قد أثار بحوثا علمیة غزیرة بقدر ما هی رائعة. و السبب هو أن الیهودیة و المسیحیة معنیّتان مثل الإسلام بمعرفة هذا المجال و استكشافه. و لكن لا تزال تنقصنا دراسات تمهیدیة كثیرة لكی نحدد بدقة ماهیة العناصر الفعلیة، أو الملائمة، التی استعارها الخطاب القرآنی من هذا التراث القدیم جدا و السابق علیه. إن مصطلح «الملاءمة» حاسم و أساسی هنا من أجل القیام بإعادة القراءة هذه. لما ذا؟ لأنه هو الذی یبیّن كل الفرق بین مجرد التراكم الأكادیمی للمعلومات عن إبراهیم مثلا و التی یقوم بها الاستشراق، و بین دراسة المجریات الأسلوبیة التی استخدمها القرآن من أجل إعادة توظیف نتف متبعثرة من
______________________________
* یقصد أركون أن علم التاریخ الحدیث لم یعد یكتفی باستغلال الوثیقة المكتوبة من أجل كتابة تاریخ مجتمع ما، أو تراث ما، كتراثنا نحن العرب مثلا، و إنما أصبح یلجأ إلی وسائل أخری تتمثّل بدراسة النقوش الموجودة علی الآثار المتبقیة و التی تعود إلی تلك الفترة فی شبه الجزیرة العربیة. و هذه هی الطریقة الأركیولوجیة. كما و یمكن أن نلجأ إلی الطریقة العرقیة (الإثنولوجیة) فندرس القبائل البدویة و لغاتها و لهجاتها فلعلها تساعدنا قلیلا فی تخیّل الجو الذی كان سائدا قبل أربعة عشر قرنا. كل الوسائل ینبغی أن تستخدم لأن الوثائق المكتوبة و الموثوقة التی وصلتنا عن تلك الفترة قلیلة ما عدا القرآن ذاته.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 108
خطاب اجتماعی قدیم بغیة بناء قصر إیدیولوجی جدید «1».
ضمن هذا المنظور لا یبدو لنا مهما جدا أن نقارن بین بعض المشاهد أو الوقائع أو السمات المعزولة من شخصیتی إبراهیم، و موسی ... إلخ، فی نصّی التوراة و القرآن كلیهما.
فهذه المقارعة أو المقارنة لا یمكن أن تأخذ كل أهمیتها التفسیریة و الإیضاحیة إلّا إذا كانت الوظائف المعنویة فی كلتا الحالتین قد حدّدت بدقة و بشكل صحیح. و هذا یفترض أن نقوم مسبقا بتحلیل بنیوی لكل الحكایات أو القصص الواردة فی القرآن، و ذلك علی غرار ما فعله بعض الباحثین الفرنسیین مؤخرا بالنسبة للإنجیل «2». إن منهجیة المقارنة المطبّقة علی صیغ التعبیر اللغویة و بنی المعنی سوف تغنی حتما معرفتنا بالظاهرة الدینیة المحصورة حتی الآن داخل إطار التاریخ الخطّی وحده «*».

3- مفهوم مجتمع الكتاب المقدّس‌

: إن مفهوم «مجتمع الكتاب» أكثر اتساعا و تعقیدا من مفهوم «أهل الكتاب» المستخدم سابقا من قبل القرآن. فهو یشمل المكوّنات أو العناصر المشتركة لدی المجتمعات الیهودیة، و المسیحیة، و الإسلامیة. و هذه المكونات أو الأفكار المشتركة هی التالیة:
1- الإحالة المرجعیة إلی كتاب سماوی موحی به أو ملهم من قبل إله متعال یتحدث إلی البشر.
2- إن الكتاب الموحی به علی هذا النحو قد أصبح بالنسبة لجمیع المؤمنین المصدر الأعلی لكل المعاییر المثالیة و المطلقة التی ینبغی أن تتحكّم بالفكر و السلوك الروحی، و الأخلاقی، و السیاسی.
3- إنّ تحدید هذه المعاییر المثالیة المطلقة (أو بلورتها) یتطلب تقنیّة معینة فی قراءة الكتابات المقدسة أو تفسیرها. و هذه التقنیة التأویلیة محصورة بالسلطات العقائدیة المأذونة أو بالفقهاء.
- السلطات العقائدیة المأذونة أو الفقهاء یسیطرون علی عملیة تحدید الاعتقاد السلیم‌lorthodoxie للمؤمنین و السلوك السلیم أو المستقیم أیضا.lorthopraxie
______________________________
(1) یقول كلود لیقی- ستروس: «إن الفكر الأسطوری یبنی قصوره الإیدیولوجیة بواسطة انقاض خطاب اجتماعی قدیم»، 32.p ،Paris ،sauvage pensee La :.Cl .Levi -Strauss
(2) انظر مثلا كتاب الباحثین كلود شابرول و لویس ماران: الحكایة الإنجیلیة::L .Marin et Cl .Chabrol . 4791،Aubier -Montaigne ،Paris ،evangelique recit Le
* المقصود بالتاریخ الخطّی أن كل تراث دینی یكتب تاریخه بشكل خطیّ، مستقیم، معزول عن التراثات الدینیة الأخری المشابهة له من حیث الأصل. و قد أن الأوان لكی نكتب تراثنا الدینی بشكل مواز للتراثات الأخری عن طریق المقارنة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 109
إن هذه المكوّنات الفكریة التی ذكرناها بعبارات عمومیة جدا لكی تشمل المثال الیهودی و المسیحی قد اتخذت مع القرآن تدقیقات یجدر التنبیه إلیها. ینبغی أن نعلم أن تعبیر «أهل الكتاب» الوارد فی القرآن یشیر إلی الكتاب السماوی بصیغة المفرد لأن جمیع الأنبیاء السابقین علی محمد قد تلقوا رسالات صادرة عن النموذج المثالی الأعلی للكتاب أو: أمّ الكتاب كما یقول القرآن (انظر بهذا الصدد الآیة السابعة من سورة آل عمران). و هذا الكتاب الأعلی أو أمّ الكتاب مصون فی اللوح المحفوظ (انظر بهذا الصدد الآیة الثانیة و العشرین من سورة البروج). یحصل ذلك كما لو أن كتب الوحی المتتابعة لیست إلّا طبعات أرضیة لهذا الكتاب السماوی و النموذجی الأعلی، أی أمّ الكتاب. و هذا الاعتقاد تترتب علیه نتائج و انعكاسات مطلوب من إعادة القراءة أن تتفحّصها بكل انتباه.
و أول هذه الانعكاسات أو النتائج ما یلی: المعرفة فی «أمّ الكتاب» متصوّرة و كأنها كلّیة، صحیحة، أزلیة و أبدیة. كما أنها صحیحة، و لكنها جزئیة و عرضة للتنقیح و التعدیل و المراجعة (أو الناسخ/ و المنسوخ) فی الطبعات الأرضیة. یضاف إلی ذلك أن التوصل إلی المعنی الصحیح لكلام اللّه المتجلّی أو الموحی به یتوقف علی صلاحیة تقنیّات التأویل أو التفسیر. و ینتج عن ذلك توجّه ما و شیوع أشكال نمطیة من المعرفة فی مجتمعات الكتاب.
أما النتیجة الثانیة المترتبة علی هذا الاعتقاد فتتمثّل فیما یلی: إنّ علوم اللغة تمیل إلی أن تحتل المرتبة الأولی أو الخطوة الأولی فی تنظیم المعرفة ككل داخل هذا النوع من المجتمعات. و لكننا نلاحظ فی الوقت ذاته أن هذه العلوم تعتمد فی أن معا علی نظام العقائد/ و اللاعقائد المفروض من قبل الكتاب السماوی (انظر بهذا الصدد النظریات المتعلقة بأصل اللغة أو منشئها: هل هی معطی من اللّه أم اصطلاح؟ ..)، كما تتوقف علی الأطر الاجتماعیة- الثقافیة للمعرفة. و هی أطر خاصة بكل عصر و كل وسط اجتماعی، و تختلف من هذا العصر إلی ذاك، و من هذا المجتمع إلی ذاك. و بالتالی فمن الضروری أن نبیّن إلی أی مدی یمكن وصف جدلیة الكتابات المقدسة- القراءات «1» بصفتها انعكاسا للجدلیة الاجتماعیة فی مجتمعات الكتاب السماوی و محفّزا لهذه الجدلیة.
و هكذا تتعقّد المهام اللغویة و السیمیائیة الدلالیة لإعادة القراءة عن طریقة إضافة منهجیات علم الاجتماع و علم النفس التاریخی إلیها. و الواقع أنه فی كل هذه الذری تعاش و تتجسد الجدلیة الكلیانیة الكائنة بین المعنی و الوجود (و لیس الجدلیة المتشظیة أو المتبعثرة علی عدّة مستویات أو وجهات نظر اختصاصیة).
______________________________
(1) لشرح هذه الصیاغة التعبیریة أو المفهومیة، انظر كتاب محمد أركون: مقالات فی الفكر الإسلامی (بالفرنسیة)، مرجع مذكور سابقا، ص 186 و ما بعدها.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 110
و لهذا السبب نقول بأن دراسة مجتمعات الكتاب السماوی لا تستطیع أن تتحاشی تفحّص المصیر الحقیقی للّعبة المعقدة الكائنة بین المفاهیم التالیة و ذلك فی كل مرحلة من مراحل تطوّرها التاریخی. لنعدد الآن هذه المفاهیم:
1- هل الكتاب السماوی یستمر عبر السیاقات الاجتماعیة- الثقافیة الأكثر تنوعا فی الاضطلاع بهذه الوظیفة الفوق تاریخیة أو التی تتجاوز التاریخ؟ أقصد الوظیفة المعتبرة بمثابة إسهامه الفرید الذی لا یختزل إلی أی شی‌ء آخر و الذی یتمثّل فی المحافظة علی طرح السؤال الخاص بالمعنی النهائی و الأخیر. أم علی العكس إنه یترك نفسه تنحلّ فی قراءات ظرفیة عارضة أو عابرة؟ «*» 2- هل القراءات أو التفاسیر التی أثارها الكتاب السماوی یمكن اختزالها إلی مجرد الإیدیولوجیات المكلّفة بإضفاء المشروعیة علی عمل و مصالح الفئات التی تنتسب إلیها؟ أم أنه یمكننا أن نجد فی بعضها حرصا أساسیا علی التوصل إلی المعنی النهائی و الأخیر و النصّ علیه؟
3- أخیرا، كیف یمكننا أن نقرأ العلاقة بین الوضع التاریخی للإنسان، و الوساطة المحتومة للّغة من أجل الاضطلاع بهذا الوضع، ثم الحنین الجارف و العنید إلی المعنی النهائی و الأخیر؟ هذا الحنین الذی كان دائما قد عبّر عن نفسه من خلال الشوق للانصهار بالكینونة و الرغبة الحارقة فی البقاء و الخلود «**».
إن ضخامة المسائل التی أثرناها آنفا تبیّن لنا إلی أی مدی یمكن للدراسة المعمّقة لظاهرة الوحی أن تشكّل وسیلة نافعة لتنشیط الفكر الإسلامی من جدید و لجعله ینخرط فی المناقشات الكبری لعصرنا أو یشارك فیها. ینبغی علیه أن یقوم بعملیات نزع الأسطرة، و نزع التزییف، و نزع الأدلجة عن كل تركیباته الفكریة و العقائدیة السابقة. و یتعین علیه التأكید من جدید علی راهنیّة و آنیّة حدوسه أو استبصاراته الكبری، و كذلك راهنیّة بعض محاولاته المجهضة و أسلوبه فی الشهادة علی الكینونة.
هذه هی، فی نظرنا، المهام الكبری الملقاة علی عاتق إعادة قراءة القرآن. و هذه القراءة الجدیدة ینبغی أن تشكّل عملا مرنا من أعمال التضامن التاریخی سواء مع الأجیال الماضیة أو مع الأجیال الجدیدة لأبناء عصرنا.
______________________________
* المقصود بهذا الكلام: المعنی النهائی و الأخیر للوجود و الكون، أو للحیاة و الإنسان. فالكتب المقدسة تتحدث عن هذا المعنی و تعتبر أنه یتمثل فی الحیاة الآخرة، حیاة الأبدیة و الخلود، لا الحیاة الدنیا، العابرة و الزائلة بطبیعتها.
** نفهم من كلام أركون هنا أن المعنی النهائی و الأخیر یهدف إلی تحجیم خطر الموت أو حتی تحییده نهائیا.
و هنا تكمن الوظیفة الأساسیة للدین: فهو یعد بحیاة أخری بعد الموت، حیاة أكثر خلودا و بقاء. و بالتالی فلم یعد الموت فناء عدمیا.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 111

- 3- قراءة سورة الفاتحة

اشارة

«قال الحسن البصری: إن اللّه أودع علوم الكتب السابقة فی القرآن، ثم أودع علوم القرآن فی الفاتحة. فم علم تفسیرها كان كمن علم تفسیر جمیع الكتب المنزلة. أخرجه البیهقی».
(السیوطی، الإتقان فی علوم القرآن، الجزء الرابع، ص 120) «*».
لا یهم كثیرا فی ما إذا كان المعلم الشهیر لمدینة البصرة قد قال هذا الكلام أم لا.
و معلوم أنه كان أحد المفكّرین الأكثر قوة و نفوذا و أحد أولئك الذین ساهموا فی إیقاظ الوعی العربی- الإسلامی فی بدایاته. فالشی‌ء الأساسی هو أن هذا القول ظل یتكرر جیلا بعد جیل. و هو لا یزال حتی الیوم یحذّرنا من خطر ممارسة كل قراءة اختزالیة.
هذا لا یعنی بالطبع أننا سوف ننخرط فی الخط التبجیلی، و أن نكرر بصیاغات لغویة مختلفة ما كان عدد كبیر من المفسّرین المسلمین قد قالوه سابقا. و إنما یكمن مقصدنا الأكثر بعدا و عمقا فی المساهمة بتشكیل فكر دینی منفتح عن طریق مثال الإسلام. لقد ابتدأ العلماء یعترفون بأن الخطابات اللاهوتیة التی ظهرت حتی الآن مرتبطة كلها بإیدیولوجیا رسمیة أو معارضة (كاثولیكیة/ بروتستانتیة، سنّیة/ شیعیة ...). و نحن نرید أن نخرج من هذا الإطار الضیق، و أن نجعل ممكنا وجود تفكیر دینی منفتح (من دون أیة أسبقیات لاهوتیة) علی جمیع التجارب الدینیة للبشریة.
سوف یعترض علیّ اللاهوتیون المحترفون فورا زاعمین أنّی أرید أن أختزل كلام اللّه إلی مجرد مشروع أنتربولوجی مهدّد بالإغراء الوضعی. و سأجیبهم، لكیلا أضیع وقتی فی مناقشات مبدئیة لا نهایة لها، بأن الشجرة تحاكم عادة بناء علی نوعیة ثمارها «**».
______________________________
* تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، القاهرة، نشر دار التراث، 1985.
** یقصد أركون بالمشروع الأنتربولوجی المهدّد بالإغراء الوضعی ما یلی: إذا ما طبّقنا المنهجیة التاریخیة نفسها علی جمیع الأدیان التی شهدتها البشریة، و لیس فقط علی الیهودیة و المسیحیة و الإسلام، فإن ذلك-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 112
ظهرت مؤخرا دراسات عن النصوص التوراتیة و الإنجیلیة «1»، و قد برهنت علی الحقیقة التالیة: إنّ للقراءة الألسنیة قیمة لا تضاهی من حیث التقشف و الدقة و الصرامة. فهی تجبرنا علی أن نظلّ محصورین داخل الحدود الصارمة للإمكانیات التعبیریة للّغة، مع استبعاد كل المفترضات الصریحة و الضمنیة، هذه المفترضات أو المسلّمات التی تضفیها أو تخلعها كل قراءة علی النصّ. و لكننا سوف نری كیف أن نصّا متمیزا كسورة الفاتحة یمكن أن یجبرنا علی فتح القراءة الألسنیة بطریقة لا محدودة.
و سوف یتضمّن مسارنا ثلاث مراحل. سوف نحدد أولا الشی‌ء الذی سنقرؤه. ثم ننتقل إلی تنفیذ القراءة المعیّنة بالذات أو ما أسمّیه: اللحظة الألسنیة (أو اللغویة). و أخیرا سوف نتأمل قلیلا فی ما یمكن أن ندعوه ب «العلاقة النقدیة».

-I ما هو الشی‌ء الذی سنقرؤه؟

تحدیدات:

إن التحدیدات التی سندخلها هنا لیس لها إلا قیمة المواقع- المقترحات الكشفیة أو الاستكشافیة. و هی لا تزعم الارتباط بأیة إبستمولوجیا جاهزة، و إنما علی العكس، لقد اخترناها بسبب المنظورات التی تفتحها من أجل الانخراط فی بحث عن الأسس الإبستمولوجیة لتشكیل فكر دینی جدیر باللحظة الراهنة: أی بالیوم. و لهذا السبب نقول إنها لا تنطوی إلّا علی قیمة استكشافیة.
نحن واعون، فی الواقع، بالنواقص أو نقاط الضعف التی تعتری القراءة الألسنیة، و بخاصة عند ما تطبّق علی ما یدعی بالكتابات المقدسة. و الأمر لا یتعلق أبدا بإخضاع القرآن.
______________________________
- یعنی أننا ننخرط فی مشروع أنتربولوجی. بمعنی آخر، إننا نرید أن نفهم ظاهرة التقدیس فی كل تجلیاتها لدی الإنسان أینما كان. فالتدیّن أو التعلّق بالمقدس ظاهرة أنتربولوجیة، أی إنسانیة لا یخلو منها أی مجتمع بشری علی وجه الأرض. و لكن تجلّیاته تختلف من الأدیان التوحیدیة، إلی الأدیان البوذیة و الهندوسیة، إلی الأدیان الإفریقیة، إلی أدیان وادی الرافدین أو الأدیان المصریة القدیمة .. إلخ. و علی الرغم من كل هذه الاختلافات، فهناك جوهر واحد یجمع بینها، هو ظاهرة التقدیس. أ لا یعنی ذلك اختزال الدین و القضاء علی خصوصیته و تعالیه أو تنزیهه؟ هذه هی المعضلة.
(1) انظر بشكل خاص الكتب التالیة:
أولا، كتاب الباحث پ. بوشام: الإبداع و الفصل: دراسة تفسیریة للفصل الأول من سفر التكوین:.P . 0791،Paris ،Genese la de )l(chapitre du exegetique separation .Etude et Creation :Beauchamp و ثانیا، كتاب الباحث ل. ماران: سیمیائیات آلام المسیح:،Paris ،passion la de Semiotique :L .Marin . 1791 و ثالثا، كتاب جماعی من تألیف رولان بارت و آخرین بعنوان: تفسیر و تأویل::.al et R .Barthes . 1791،Seuil ،Paris ،hermeneutique et Exegese
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 113
- أو التوراة، أو الأناجیل- إلی امتحان علم واثق من أسسه و إمكانیاته أو وسائله. بل علی العكس، فنحن لا نستبعد أبدا فكرة إخضاع الألسنیات المعاصرة إلی امتحان نصّ یمكنه أن یزعزع الكثیر من الیقینیات الدوغمائیة.
مهما یكن من أمر، فإننا نعلن قائلین منذ البدایة بأننا لا نخضع لأی مدرسة ألسنیة محدّدة دون غیرها. فنحن نرفض الاستبعادات و التحییدات الاعتباطیة أو التعسفیة التی تختار الألسنیات البنیویة بواسطتها نصوصها المتخذة كعیّنات للدراسة. كما و سنوفر علی أنفسنا و علی القرّاء ذلك الجهد الهائل الذی تتطلّبه مصطلحات «علم التحلیل الدلالی» «1».
و لذلك، فإننا سوف نستمر فی التحدّث عن قراءة ألسنیة أكثر مما هی سیمیائیة أو علاماتیة.
فمثال القرآن سوف یتیح لنا أن نبرهن علی أن منهجیة علم التحلیل الدلالی و إشكالیته و مصطلحاته المعقدة و المرعبة تجد تبریرها، علی ما یبدو، فی ضرورة تجاوز المسلمات التی لا تحتمل و لا تطاق للألسنیات البنیویة «*». و سوف نحاول أن نبرهن علی أن هذا التجاوز ربما كان ممكنا إذا ما أعدنا للّغة كمادة كل أبعادها.
النص الذی نرید قراءته قصیر نسبیا. و هو یشكّل جزءا من نصّ أكبر و أكثر اتساعا كان قد نقل إلینا تحت اسم القرآن.
من الناحیة الألسنیة أو اللغویة یمكن القول بأن القرآن عبارة عن مدونة منتهیة و مفتوحة من العبارات أو المنطوقات المكتوبة باللغة العربیة. و هو مدونة لا یمكن أن نصل إلیها إلّا
______________________________
(1) من دون أن نستبق بأی حكم مسبق علی نتائج البحث الجاری حالیا تحت اسم: علم السیمیائیات (أو علم الرموز و العلامات اللغویة و غیر اللغویة)، و علم السیمیولوجیا (أو دراسة حیاة العلامات وسط الحیاة الاجتماعیة)، و التحلیل السیمیائی، فإننا نلتزم فقط بهذه الملاحظة التی قدّمها العالم إمیل بنقینیست. یقول: «كل سیمیولوجیا لنظام غیر لغوی ینبغی أن تتمّ عن طریق اللغة. و بالتالی، فلا یمكنها أن تنوجد إلّا بواسطة سیمیولوجیا اللغة و من خلالها ... إن اللغة هی مترجم (أو مفسّر) جمیع الأنظمة الأخری من لغویة و غیر لغویة». 130.p ،l / 9691،Semiotica :Benveniste .Emile بمعنی آخر: لا یمكننا أن نفهم الأنظمة السیمیائیة أو العلاماتیة الأخری إذا لم نمر من خلال اللغة.
* الواقع أن البنیویة الشكلانیة سقطت الآن، و لكنها كانت مهیمنة علی الدراسات الأدبیة، بل و طاغیة، عند ما كتب أركون دراسته هذه. و هناك مصطلحان ینبغی أن ننتبه إلیهما و هما: مصطلح‌Semiotique ، و مصطلح.Semanalyse الأول نترجمه بعلم العلامات أو علم الرموز من لغویة و غیر لغویة. و أحیانا نقول: علم السیمیائیات. و هو یستعید نفس مشروع دی سوسیر فی دراسة حیاة العلامات داخل الحیاة الاجتماعیة. فنظام اللغة مشكّل من علامات، أی من كلمات و حروف، و نظام السیر فی المدینة مشكّل من علامات أو إشارات و لكن غیر لغویة، و قس علی ذلك كل أنظمة الحیاة الاجتماعیة الملیئة بالإشارات و الرموز. أما المصطلح الثانی الذی ترجمناه بعلم التحلیل الدلالی أو السیمیائی، فهو ضروری جدا لفهم الأول لأنه یربطه بالتاریخ و الذات الفاعلة و الظروف الاجتماعیة المحیطة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 114
عن طریق النصّ الذی ثبّت حرفیا أو كتابیا بعد القرن الرابع الهجری/ العاشر المیلادی. إن كلّیة النص المثبّت علی هذا النحو كانت قد عوملت بصفتها كتابا واحدا أو عملا متكاملا «*».
إن كل كلمة من الكلمات التی شدّدنا علیها تتطلّب شروحات و إضاءات سوف تتیح لنا إذا ما أنجزت أن نقدّم منهجیة و إشكالیة من أجل إتمام الدراسة.
1- إن القرآن مدوّنة متجانسة و لیس عبارة عن مدونة- عیّنة (أو متخذة كعیّنة) و مقتطعة اعتباطیا بواسطة قواعد مسبقة فی البحث. كل العبارات التی یحتویها كانت قد أنتجت فی نفس الوضعیة العامة للكلام (أو نفس الظرف العام للخطاب) «**».
لنذكّر هنا بالتحدید الذی یقدّمه المختصّون عن هذا المصطلح الألسنی. یقولون:
«ندعو الوضعیة العامة للخطاب مجمل الظروف التی جری فی داخلها فعل كلامی (سواء أ كان مكتوبا أم شفهیا). و یخصّ ذلك فی آن معا المحیط الفیزیائی- المادی و الاجتماعی الذی نطق فیه هذا الكلام، كما و یخصّ الصورة التی شكّلها المستمعون عن الناطق لحظة تفوهه بالخطاب، و یخصّ هویة هؤلاء، و الفكرة التی یشكّلها كل واحد منهم عن الآخر (بما فی ذلك التصوّر الذی یمتلكه كل واحد عن رأی الآخر فیه). كما و یخصّ الأحداث التی سبقت مباشرة عملیة التلفظ بالقول (و بخاصة العلاقات التی كان المتخاطبون یتعاطونها فیما بینهم)، ثم بشكل أخصّ التبادلات الكلامیة التی اندرج فیها الخطاب المعنیّ» «1».
قد یبدو من غیر المعقول أو المحتمل أن یكون الخطاب القرآنی متجانسا و منسجما، خاصة إذا ما علمنا أنه استمر علی مدی عشرین عاما «***». كان المسلمون قد أنشئوا علما
______________________________
* القرآن لم یثبّت كلیا أو نهائیا فی عهد عثمان علی عكس ما نظن. و إنما ظل الصراع حوله محتدما حتی القرن الرابع الهجری حین أغلق نهائیا باتفاق ضمنی بین السنّة و الشیعة. و ذلك لأن استمراریة الصراع كانت ستضرّ بكلا الطرفین. بعدئذ أصبح معتبرا كنصّ نهائی لا یمكن أن نضیف إلیه أی شی‌ء أو نحذف منه أی شی‌ء. و أصبحوا یعاملونه كعمل متكامل علی الرغم من تنوّع سوره و اختلافها فیما بینها من حیث الموضوعات و الأسالیب.
** المدوّنة هی المصطلح العربی المقابل للمصطلح الفرنسی.Corpus و كان یمكن أن نترجمه بالمجموعة النصیة أو النصوصیة. فالقرآن مشكل من مجموعة نصوص (أو سور) مختلفة الطول. و أما مصطلح الظرف العام للخطاب فیقابله بالفرنسیة المصطلح التالی:discours de situation .la و هو یعنی أن كل خطاب أو كلام یقال داخل ظرف معین أو أحوال معینة. و الذین یحضرون الجلسة التی قیل فیها هذا الكلام یفهمونه بشكل أفضل من الغائبین الذین یطلعون علیه قراءة.
(1) انظر القاموس الموسوعی لعلوم اللغة تألیف الباحثین: تزفتان تودوروف، و إزوالد دیكرو:،O .Ducrot . 714.p ، 1972،Seuil ،Paris ،langage du sciences des encyclopedique Dictionnaire :T .Todorov
*** التجانس الذی یتحدث عنه أركون لیس التجانس الظاهری السطحی. فمن الواضح أن هناك اختلافات كثیرة، بل و كبیرة، بین سور القرآن المختلفة. فأحیانا ینتقل القرآن فجأة من موضوع إلی آخر لا-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 115
یبحث عن تحدید أسباب النزول الخاصّة بكل آیة. و لكن هذه «الأسباب» لا تشمل جمیع الظروف المتعلّقة بالوضعیة العامة للخطاب، بل هی بعیدة جدا عن ذلك. فی الواقع، إن أسباب النزول لیست إلّا ذریعة أو تعلّة. إنها عبارة عن الأسباب الخارجیة، أو نوع من القصة الصغیرة المرافقة لكل آیة. سوف نری، علی العكس من ذلك، أن تجانسیة المدوّنة النصّیة القرآنیة ترتكز علی شبكة معجمیة أو لغویة واسعة، و علی نموذج قصصی أو تمثیلی واحد لا یتغیّر «*».
2- هذه المدونة منتهیة بمعنی أنها محصورة أو مغلقة أو ناجزة. إنها حالیا محدودة أو محصورة بعدد معیّن من العبارات أو الآیات التی تشكّلها. كما أنها ناجزة و مكتملة من حیث صیغة التعبیر و صیغة المضمون (نقصد بذلك أنماط التمفصل ما بین الدالّ و المدلول، أو الدّالات و المدلولات). إن مفهوم الإنجاز أو الإكمال و التمام هذا یجنّبنا من السقوط فی و هدة القراءة التبجیلیة التی تلح بشكل أساسی علی الطابع المعجز للقرآن. كما و یجنّبنا من الاكتفاء بالقراءة الفیلولوجیة التی تبحث عن المصادر السابقة المؤثّرة فی النص، و عن غموضه، و تناقضاته، و نواقصه الأسلوبیة.
3- و لكن هذه المدونة ذاتها مفتوحة أو منفتحة علی الرغم من محدودیتها أو اكتمالها. أقصد أنها منفتحة علی السیاقات الأكثر تنوّعا و التی تنطوی علیها كل قراءة أو تفرضها. بمعنی آخر، أنّ النصّ القرآنی یقول شیئا ما، و یؤمّن التواصل أو التوصیل، و یحفّز علی الفكر، أیّا یكن الوضع العام للخطاب، هذا الوضع الذی یتموضع القارئ داخله.
و سوف نلتقی بهذه السمة الحاسمة مرة أخری عند ما نتحدث عن الأثر أو العمل المتكامل.
علی الرغم من أن المدونة القرآنیة أصبحت مغلقة نهائیا و بشكل لا مرجوع عنه من
______________________________
- علاقة له به علی الإطلاق. و لذا یجد الكثیرون صعوبة فی قراءة القرآن أو فی فهمه نظرا لو عورته و غرابته و بعده عن مناخنا المعنوی و اللغوی الحدیث. و لكن فی العمق هناك انسجام علی مدار القرآن من أوله إلی آخره. فشبكة الضمائر التوصیلیة (أنا، نحن، أنت، هم) (أو اللّه- محمد- البشر) تخترق الخطاب القرآنی كله. و كذلك الأمر فی ما یخصّ البنیة القصصیة التی ترمز إلی النبی و الأنصار/ و الكفار و المنافقین ... إلخ.
و إذن هناك انسجام علی مستوی العمق لا علی مستوی السطح.
* النموذج القصصی أو التمثیلی یقابله فی الفرنسیة المصطلح التالی المستمد من علم الألسنیات الحدیثة:
actantielmodel .le و المقصود بالنموذج القصصی أو التمثیلی لحكایة ما ذلك النموذج الذی نستخدمه لتوضیح البنیة الداخلیة للقصة أو للحكایة. فهو الذی یساعدنا علی دراسة الممثلین الأساسیین الذین یلعبون مختلف الأدوار فی القصة أو الحكایة أو الأسطورة. فالبنیة الأساسیة لكل قصة مشكّلة من أربعة أشخاص أو عاملین أساسیین هم: البطل، الغایة التی یبحث عنها، المساعدون أو الأنصار الذین یساعدونه من أجل بلوغها، و الأعداء الذین یعترضون طریقه و یحاولون منعه من تحقیق بغیته.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 116
الناحیة اللاهوتیة، فإننا نستطیع أن نقبل تاریخیا بأنها تظل مفتوحة علی التحسینات النصّیة التی قد یقدّمها النقد الفیلولوجی أو اللغوی- التاریخی (؟) «*». و لكن هذه التحسینات تظلل افتراضیة جدا و مشكوكا فیها. و هی علی أیة حال لو حصلت فلن تعدل من مبادئ القراءة التی نبلورها هنا.
4- عند ما افترضنا بأن القرآن هو مجموعة عبارات أو منطوقات لغویة، فإننا لفتنا الانتباه إلی أنه كان و لا یزال كلاما شفهیا قبل أن یكون نصّا مكتوبا. و لكن الكلام المتلفّظ به من قبل النبی لیست له نفس المكانة اللغویة كذاك الذی یردده المؤمن فی صیغة صوتیة و كتابیة مثبّتة بكل صرامة. و هذه الاعتبارات تقودنا إلی التمییز بین ثلاثة أنواع أو بروتوكولات للقراءة.
5- مجمل المنطوقات أو العبارات اللغویة المدعوة آیات تشكّل سلسلة من النصوص القصیرة المفتوحة علی النصّ الكلیّ الشامل المكوّن من كل المنطوقات المسجّلة فی المدونة. إن المكانة اللغویة و الأدبیة للنصّ الكلّی لا یمكن أن تحدد إلّا بعد القیام بسلسلة من التحرّیات و الاستكشافات للنصوص القصیرة (أی الآیات)، و النصوص المتوسطة (أی السور). و هكذا ینبغی علینا أن نقیس درجة الاستقلالیة الذاتیة، و درجة انغلاق و انفتاح كل واحد من هذه النصوص «1».
6- أیّا تكن نتائج التحرّی المطبّق لفهم نوعیة العلاقات الكائنة بین النصوص القصیرة و الوسطی من جهة، ثم النص الشمولی الكلّی من جهة أخری، فإنه لیمكن القول منذ الآن إنّ هذا النصّ كان قد عومل بصفته عملا متكاملا أو كتابا واحدا. و هذا یعنی أنه ما انفك یقرأ المرة تلو المرة، و أنه یستمر فی مطالبتنا بإعادة قراءته من دون أن تكون مدلولاته المضمرة أو الاحتمالیة قد تجلّت كلیا و بشكل صحیح. و ربما یستحیل ذلك علی التحقّق فی أی یوم من الأیام (؟). و بالتالی، فإن الأمر یتعلق إذن بإبداع أدبی مزوّد بطاقة إبداعیة یمكن القول بأنها لانهائیة ضمن الظروف الحالیة لإمكانیاتنا فی القراءة.
هكذا تطرح علینا عدة مشاكل مرعبة أو ضخمة فی ما یخصّ عملیة إعادة القراءة
______________________________
* لن نستطیع التوصل إلی ترتیب زمنی دقیق و موثوق أو نهائی للآیات و السور القرآنیة مهما حاولنا و فعلنا.
یمكننا أن نتوصل إلی بعض التقدم فی هذا المجال كما فعلت المدرسة الفیلولوجیة الألمانیة التی نقل بلاشیر نتائجها إلی الفرنسیة. انظر كتابه التالی:Maisonneuve ،Paris ،Coran au Introduction :Blachere Regis . 1991،Larose et
(1) إن دراسة الأدبیات التفسیریة الإسلامیة سوف تساعد كثیرا فی عملیة التقییم هذه. بالنسبة للمسائل المنهجیة، انظر من جملة كتب و بحوث أخری عدیدة مقالة الباحث م. أریقی: «مسلّمات من أجل الوصف الألسنی للنصوص الأدبیة»:des liguistique description la pour Postulats ((:M .Arrive .ff 3.pp ، 3/ 1969،francaise Langue :in ، ( (litterairestextes
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 117
الكلیّانیة للنصّ- العمل المتكامل. و سوف نكتفی فی اللحظة الراهنة بصیاغتها علی هیئة فرضیات عمل نحددها فی ما یلی:
1- ضمن أی مقیاس یمكن القول بأن النصّ- العمل المتكامل هو نتاج قدر (فردی و جماعی) معاش، و مستقبل (فردی و جماعی) مرغوب و محیّن أو مجسّد أدبیا؟
2- ضمن أی مقیاس یستخدم الصوت الذی یتكلّم هنا معطیات ماض فردی و جماعی من أجل تشكیل صیاغة محرّكة للوجود؟ أقصد تشكیل كلّ متماسك من السلوكات أو التصرفات النموذجیة المثلی التی تتّخذ كقدوة، و التی تتعالی علی المشروطیات الفضائیة- الزمانیة للوجود البشری.
3- إذا ما استطاع التحلیل العلمی البرهنة علی صحة هذه السمات الخاصة بالنصّ- العمل المتكامل، فإنه یبقی علینا أن نحدد آلیّة اشتغال العلاقة الكائنة بین الطرفین التالیین:
عمل متكامل- إبداع. نقصد بذلك دراسة النصّ الكلّی فی آلیّة اشتغاله، و بنیته، و معانیه المثولیة أو الملازمة لنصانیّته اللغویة، أی: معانیه الحرفیة. ثم ینبغی أن ندرس العلاقة الكائنة ما بین العمل المتكامل- و القدرة الإبداعیة التولیدیة. و نقصد بذلك مجمل النصوص الثانیة «*» أو الثانویة التی ولّدها النص الأول، كما و نقصد مجمل الأعمال (بالمعنی الإسلامی الواسع للكلمة «1») و التی تولّدت عن قراءات العمل المتكامل- الإبداع. و هذه النقطة الأخیرة تنطبق علی كل إبداع أدبی كما برهن علی ذلك بشكل خاص كلود لیقی- ستروس. و هكذا نحن نتساءل: ما هی التصحیحات، أو التحفّظات التی ینبغی إجراؤها لكی نستطیع أن نطبّق علی القرآن المواقف الفكریة الملخصة فی المقطع التالی:
«لنسلّم إذن بأن كل عمل أدبی إبداعی، شفهیا كان أم كتابیا، لا یمكنه أن یكون فی البدایة إلّا فردیا. و لكن إذا ما سلّم بسرعة إلی التراث الشفهی كما یحصل ذلك لدی الشعوب التی لا كتابة لها، وحدها المستویات المركبة أو الراسخة التی ترتكز علی أسس مشتركة تظل ثابتة. أما المستویات الاحتمالیة فتبدی قابلیة كبیرة جدا للتغیر أو التحول المرتبط بشخصیة الرواة المتتالین. و لكن فی أثناء حصول عملیة النقل الشفهی، تصطدم هذه
______________________________
* یقصد أركون بذلك أن القرآن هو النصّ التأسیسی الأول فی الإسلام. و هذا النص التأسیسی كان یتمتع بطاقة إبداعیة ضخمة كبقیة النصوص التأسیسیة الكبری، و بالتالی فقد ولّد العدید من النصوص الثانیة التی كانت بمثابة التعلیق علیه أو التفسیر له أو الانطلاق منه لبناء نصّ جدید. و من الناحیة المنهجیة یقول أركون بوجوب أن ندرس النص الأول لوحده أولا. و بعدئذ ننتقل إلی دراسة النصوص الثانیة التی ولّدها بشكل مباشر أو غیر مباشر. فلا ینبغی أن نخلط بینه و بینها لأنه كان یتمتع بطاقة إبداعیة و انفتاح فكری أو رمزی أوسع منها بكثیر. فتفسیر الطبری مثلا للقرآن لیس هو القرآن و إنما نص آخر. و قل الأمر ذاته عن تفسیر فخر الدین الرازی و بقیة النصوص التفسیریة الأخری علی الرغم من أهمیتها.
(1) نقصد بذلك الكتابات كما التصرفات أو السلوكات التی تستلهم النصّ القرآنی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 118
المستویات الاحتمالیة ببعضها البعض. ثم تتآكل بفعل هذا الاصطدام، محرّرة بالتدریج من كتلة الخطاب الأساسیة ما یمكن أن ندعوه: أجزائه البلّوریة الشفافة. إنّ الأعمال (أو المؤلّفات) الفردیة هی جمیعا أساطیر محتملة، أو أساطیر كامنة بالقوة. و لكن تبنّیها علی الهیئة الجماعیة هو وحده ما یجسد، إذا ما لزم الأمر، أسطوریتها» «1».

الفاتحة: منشأ المفهوم و بروتوكول القراءة:

لا نملك هنا إلا أن نطرح بعض الأسئلة التی لا نستطیع أبدا الإجابة عنها. فالشی‌ء المثالی الذی نحلم به و الممتنع عن التحقیق هو أن نستطیع وصف الوضعیة العامة للخطاب بشكل شمولی كامل، أقصد: وصف الظروف التی لفظت فیها سورة الفاتحة بشكل شفهی لأول مرة.
كل ما نستطیع قوله هو أن هذا النصّ القصیر الموضوع فی رأس المدونة القرآنیة- و من هنا اسم الفاتحة الذی خلع علیها فیما بعد- یحتلّ فی الترتیب الكرونولوجی الرقم 46.
و لذا یمكن القول بأنه من المفید، علی الأقل تاریخیا، أن نقرأ الفاتحة من خلال السیاق الممتد من السورة رقم (1) إلی السورة رقم (46). و لكن بشرط أن یكون هذا الترتیب التاریخی لسور القرآن صحیحا بشكل قاطع، ثم علی الأخص، بشرط ألا تكون السورة غائبة عن مدونة ابن مسعود و مدونة ابن عباس (أو مصحف ابن مسعود، و مصحف ابن عباس) «2».
و لكن هذه الحالة التی تعذّب العالم الفیلولوجی و تؤرّقه، لا تزعج إطلاقا عالم الألسنیات. فالمعطی المهمّ بالنسبة لهذا الأخیر هو وضع الفاتحة فی رأس المدونة «المعتمدة علی هیئة الطریقة الجماعیة» كما یقول لیقی- ستروس. و المقصود بذلك، بالمعنی أو المصطلح اللاهوتی، تلك النسخة الرسمیة التی شكّلت فی ظل الخلیفة عثمان،
______________________________
(1) انظر كتاب كلود لیقی- ستروس: الإنسان العاری: 1971،Plon ،Paris ،nu Lhomme :Cl .Levi -Strauss . 065.p
(2) من المفید أن نلاحظ أن هذا الغیاب یطرح مشكلة أساسیة، بل و حاسمة. و كان الرازی قد قدّم عنها هذه الصیاغة الحادّة: «جاء فی كتب القدماء أن ابن مسعود أنكر أن الفاتحة تشكل جزءا من القرآن. و أنكر أیضا أن المعوّذتین تشكلان جزءا منه. اعلم أنه توجد هنا صعوبة كبیرة. فإذا ما قلنا بأن التواتر كان قد حدث فی زمن الصحابة و فیه أن القرآن یشتمل علی الفاتحة، فإن ذلك یعنی أن ابن مسعود كان علی علم بذلك. و بالتالی، فإن إنكاره یعنی الكفر أو النقص العقلی. و إذا ما قلنا بأن التواتر بالمعنی المشار إلیه لم یحصل فی ذلك الزمن، فإن ذلك یرغمنا علی القول بأن نقل القرآن لم یحصل عن طریق التواتر فی البدایة، و بالتالی فإنه یكفّ عن كونه برهانا موثوقا. و هكذا نمیل إلی الاعتقاد بأن نقل هذا الموقف عن طریق ابن مسعود كاذب و خاطئ. و علی هذا النحو یمكننا حلّ هذا الإشكال أو تجاوزه».
(فخر الدین الرازی، تفسیر مفاتیح الغیب، الجزء الأول، ص 15). إن هذا المقطع یدل دلالة بالغة علی استراتیجیة الرفض المتبعة من قبل الفكر الدوغمائی من أجل إفشال الفكر النقدی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 119
و التی ثبّتت نهائیا بعد القرن الرابع الهجری/ العاشر المیلادی. و حتی لو كان هذا العمل من صنع مؤمن واحد فقط، فإنّه یعبّر عن مسار المعنی داخل الوعی الجماعی، و یدشّن الطاقة الإبداعیة للفاتحة التی أصبحت منذ الآن فصاعدا مرتبطة بالنصّ الكلّی الشمولی إلی درجة أنه نتج عن ذلك حالة بنیویة أو انبنائیة جدیدة.
إن آلیّة اشتغال هذه الحالة الانبنائیة الجدیدة هو ما ندعوه بالفاتحة مقروءة من خلال ارتباطها الوثیق بالنّص الكلّی أو الشمولی. و آلیّة الاشتغال هذه تولّد معانی أو دلالات یصعب أن نعرف إلی أی درجة تعبّر بأمانة عن المقاصد الأولی المتضمّنة فی الحالة الانبنائیة الأصلیة أو تعدّل منها. نقصد بالحالة الانبنائیة الأصلیة وضع الفاتحة فی سیاق السور المرقمة من (1) إلی (46)، ثم فی حالة خطاب المتكلّم الأول (أو الناطق الأول). و هذه المسألة التی تتطلّب أولا جوابا ألسنیا، تحمل فی طیاتها مسألة أخری تخصّ منشأ الوعی الدینی أو انبثاقه انطلاقا من مدونة نصّیة فی طور التشكّل (أی القرآن من عام 610 إلی عام 632 م)، ثم فی طور الانغلاق.
و بالتالی، ینبغی علینا أن نمیّز بین منطوقة أو عبارة أولی تخص الجمل التی تلفّظ بها النبی حقیقة ضمن ظروف لا یمكن أن نعرفها أبدا، و بین منطوقة ثانیة تخصّ النصّ المعطی لنا أو الذی وصل إلینا كتابة، و الذی ینبغی أن نقرأه أو أن نتلوه تلاوة. و نقصد به نصّ الفاتحة الموضوع فی رأس المدونة الكلّیة (أی المصحف). إن مفهوم الفاتحة یحیلنا أساسا إلی جمیع القیم الشعائریة، و اللاهوتیة، و اللغویة، و السیاقیة. و هی قیم مدركة أو مسقطة علی المنطوقة الثانیة عن طریق تراث تفسیری طویل غیر منفصل عن ممارسة دینیة مركزیة «*». الواقع أنه ینبغی أن تتلی الفاتحة فی بدایة كل ركعة من ركعات الصلاة الإسلامیة: أی سبع عشرة مرّة فی الیوم علی الأقل. و هذه الحالة تعقّد مهام قراءتنا. فبدءا من اللحظة التی تتخذ فیها المنطوقة الأولی وظائف المنطوقة الثانیة و مضامینها المتعددة، فإن هناك ثلاثة بروتوكولات تفرض نفسها علینا:
______________________________
* نلاحظ أن أركون یستخدم مصطلحات ألسنیة محضة للتحدث عن القرآن. فهو یقول المنطوقة أو العبارة اللغویة بدلا من الآیة القرآنیة، و یقول المدوّنة النصیة بدلا من القرآن .. إلخ. و سبب ذلك هو أنه یرید تحیید الشحنات اللاهوتیة التی سرعان ما تستحوذ علی و عینا عند ما نتحدث عن القرآن. فالقداسة اللاهوتیة أو الهیبة اللاهوتیة العظمی التی تحیط بالقرآن منذ قرون تمنعنا من أن نراه كما هو: أی كنص لغوی مؤلّف من كلمات، و حروف، و تركیبات لغویة و نحویة و بلاغیة .... بمعنی آخر، إن المادیة اللغویة للقرآن اختفت تماما أو غابت عن أنظارنا بسبب الهیبة العظیمة التی تحیط به. و میزة القراءة الألسنیة هی أنها تحیّد الهیبة و لو للحظة من أجل فهم التركیبة النصیة أو اللغویة للقرآن. و تزداد هذه الهیبة فی ما یخص سورة الفاتحة لأنها مستخدمة یومیا فی الشعائر و الطقوس، أی فی الصلاة أساسا. و بالتالی، فإن نزع الهیبة عنها و رؤیتها فی مادّیتها اللغویة أمر بالغ الصعوبة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 120
هناك أولا بروتوكول القراءة الطقسیة أو الشعائریة. بالطبع فإن هذه القراءة هی وحدها الصالحة أو الصحیحة من وجهة نظر الوعی الإسلامی. فالمسلم إذ یكرر الكلمات المقدسة للفاتحة، یعید تحیین أو تجسید اللحظة التدشینیة التی تلفّظ أثناءها النبی بكلمات الفاتحة لأول مرة. و هذا یعنی أنه یلتقی من جدید بالحالة العامة للخطاب الخاصّ بالمنطوقة الأولی. إنه یلتقی بالمواقف الشعائریة، و التواصل الروحی مع جماعة المؤمنین الحاضرین و الغائبین، و بالالتزام الشخصی لكل مؤمن بالمیثاق الذی یربطه باللّه. كما و یستبطن كل التعالیم الموحی بها و المكثّفة فی الآیات السبع لسورة الفاتحة. و هی آیات تشفع له عند اللّه یوم القیامة، و تنقذ روحه؛ آیات منفتحة علی الدین كله «1». و لا یعود هناك أی معنی للمسافة التاریخیة الحقیقة التی تفصل شخص بربری یعیش فی جبال الأطلس، أو شخص باكستانی، أو یوغسلافی ... إلخ، عن النبی. و لهذا السبب، ینبغی أن نحدد بدقة المادة اللغویة (أو الدعامة اللغویة) لهذا التواصل الحمیمی الذی یتحدی المسافات الجغرافیة، أو قل یتحدی المكان، و الزمان، و العقلانیة الخاصة بالخطاب «العلمی».
أما البروتوكول الثانی للقراءة فیمكن وصفه بالبروتوكول التفسیری. و هو الذی اتبعه المؤمنون منذ أن كانوا قد تعرّفوا علی المنطوقة الأولی (أو المنطوقة رقم (1)). و هكذا شكّلوا أدبیات تفسیریة غریزة علی مدار القرون. و أحد النصوص أو التفاسیر الأكثر غنی علی هذا الصعید هو تفسیر فخر الدین الرازی (ت 606 ه/ 1209 م). فغناه عائد إلی أنه تلقی و استفاد من جهد البلورة العقائدیة للقرون الستة السابقة له. إنّ القراءة التفسیریة تتمیز باعتماد المنطوقة الثانیة بصفتها نصّا ذا وصایة، مخلوطا بالمنطوقة الأولی و مفسّرا بمساعدة المبادئ التی تمارس عملها بشكل عفوی فی البروتوكول الشعائری. و قد ظلت هذه المبادئ مقدسة و لا یمكن مسّها حتی یومنا هذا. فهی تحصر كل إعادة قراءة للفاتحة ضمن حدود لم یستطع حتی تدخل الفلسفة العربیة- الإسلامیة فی العصر الكلاسیكی أن یتجاوزها.
إنّ دراسة النصوص العدیدة الثانیة التی أنتجتها القراءة التفسیریة ینبغی أن تخضع لتحرّ طویل، صعب، لا بدّ منه. و نأسف لأننا لا نمتلك فی اللحظة الراهنة للأمور أیة دراسة أكادیمیة دقیقة عن واحد علی الأقل من التفاسیر الكلاسیكیة. إنّ الأمر یتعلق هنا بالشروع فی حفر أركیولوجی كامل عن المعنی. و یفهمنا القارئ إذا ما قلنا له بأننا غیر قادرین علی فعل ذلك هنا. و لكننا نأمل علی الأقل بأن نقدّم فی الصفحات التالیة نموذجا موحیا من أجل القیام بقراءة مثمرة لجمیع هذه النصوص الثانیة.
أما البروتوكول الثالث و الأخیر للقراءة فهو ذلك الذی سنحاول اتباعه. و بما أننا لا
______________________________
(1) انظر فیما سبق، ص 104 و ما تلاها من مبحث «موقف المشركین من ظاهرة الوحی» فی هذا الكتاب.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 121
نمتلك تسمیة أفضل فإننا سندعوه بالبروتوكول الألسنی النقدی. و سوف تكون قراءتنا ألسنیة أو لغویة أولا لأنها تهدف، بقدر الإمكان، إلی تبیان القیم اللغویة المحضة للنصّ. و لكنها ستكون نقدیة أیضا بمعنی أن كل ما سنقوله لن تكون له إلّا قیمة استكشافیة أو افتراضیة فی نظرنا. فی الواقع إننا لن نفضّل أیة مدرسة ألسنیة علی غیرها. و من المعلوم أن مدارس علم الألسنیات هی الآن فی طور التشكّل و البلورة. و سوف نترك المسائل الأساسیة مفتوحة، و هی المسائل التی تقرر مصیر مضمون كل قراءة و توجّهها. و نقصد بها مسألة العلامةSigne ، و مسألة الرمزSymbole ، و مسألة الذات‌sujet Le ، و مسألة العلاقة بین اللغة- الفكر- التاریخ ... إلخ. فنحن نعتقد أن القرآن، مثله فی ذلك مثل التوراة و الأناجیل، عبارة عن نصوص ینبغی أن تقرأ من خلال روح البحث و التساؤل، لأنها یمكن أن تحبّذ حصول التقدم الحاسم فی ما یخصّ معرفة الإنسان.
قبل أن نشرع بقراءتنا الخاصة لسورة الفاتحة، فإنه یبدو لنا مفیدا أن نذكّر بالمبادئ التی تتحكّم بالقراءة التفسیریة، و تلك التی تتحكّم بالقراءة الألسنیة النقدیة. و بعدئذ یستطیع القارئ أن یقیس بشكل أفضل ضرورة إعادة القراءة و وعودها، أو الخیر العمیم الناتج عنها.
إنّ المبادئ التی تتحكّم بالقراءة التفسیریة الكلاسیكیة تمارس دورها أو فعلها كمسلّمات ضمنیة أو صریحة «*». و یبلغ عددها ثمانیة مبادئ:
1- اللّه موجود. إنه هو الذی هو. و لا أستطیع أن أتحدّث عنه بشكل مطابق أو صحیح إلّا من خلال الكلمات التی اختارها هو نفسه و استخدمها فی كلامه.
2- لقد تكلّم إلی جمیع البشر باللغة العربیة لآخر مرة و من خلال محمد (أو بواسطته).
3- لقد استقبل كلامه أو جمع فی مدونة صحیحة موثوقة هی: القرآن.
4- إنّ كلامه یقول كل شی‌ء عن كینونتی أو وجودی، و عن كینونة العالم أو وجوده، و عن وضعی فی العالم، و عن موجودی، و قدری، و مصیری ... إلخ. و لا یمكننی أن أرفضه فی أی شی‌ء، و لا فی أیة لحظة.
______________________________
* هذه المسلّمات العلیا هی التی تتحكم بالفكر الإسلامی منذ أن كان قد وجد و حتی الیوم. و هی تتخذ طابع التقدیس و المعصومیة. بمعنی أنها لا تناقش و لا تمس، و إنما تقبل بشكل إیمانی و تسلیمی كامل. إنها تشكّل ما یدعوه میشیل فوكو بالإبستمیةepisteme ، أی نظام الفكر الذی یهیمن علی فترة معیّنة و ثقافة معینة. كما أنها تشكّل النموذج المثالی الأعلی الذی یهیمن علی الفكر العربی منذ ظهور القرآن، و هو ما یدعوه العالم الإبستمولوجی الأمریكی توماس كون بالبارادیغم.Paradigm و المقصود بالبارادیغم النظریة التی تمثّل الحقیقة المطلقة و التی تسیطر علی البشریة فترة قد تطول أو تقصر.
نضرب مثلا علی ذلك نظریة أرسطو (أو بارادیغم أرسطو) الذی سیطر علی البشریة طیلة ألفی سنة قبل أن ینهار علی ید دیكارت و غالیلیو.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 122
5- كل ما یقوله هو الحقیقة الوحیدة، و كلّ الحقیقة.
6- یمكننی أن أحدّد (أو أعرف) هذه الحقیقة، بل و ینبغی علیّ أن أعرفها عن طریق الاستعانة بأقوال الجیل- الشاهد علیها: أقصد جیل المؤمنین الأوائل الذین تلقوا الوحی من فم النبی مباشرة، و الذین طبّقوه عملیا فیما بعد. و لذا، فإن هذا الجیل یشكّل العصر التدشینی الأمثل (أو ما یدعی فی اللغة الإسلامیة بالصدر الأول).
7- إن موت النبی سجن جمیع المؤمنین أو بالأحری وضعهم داخل إطار الدائرة التأویلیة. بمعنی أن كل واحد منهم أصبح منذ الآن فصاعدا فی مواجهة نصّ یمثّل (أو بالأحری یجسّد) الكلام المطلق «*». و كل واحد منهم ینبغی «أن یؤمن لكی یفهم، و أن یفهم لكی یؤمن» «1».
8- إن علم النحو، و علم اللغة التاریخی (الفیلولوجیا)، و علم البلاغة، و علم المنطق، كلها تعلّمنی تقنیات الوصول إلی المعنی و تقنیات إنتاج المعنی. و بالتالی، فهی تتیح لنا أن نستخلص من النص- الذی یمثّل كلام اللّه- الحقیقة التی تضی‌ء عقلی، و إرادتی و أعمالی.
ینبغی أن نعلم أن هذه المبادئ الثمانیة قد مارست دورا موجّها یتحكّم بكل مجالات الفكر العربی- الإسلامی حتی مجی‌ء عهد الإیدیولوجیا الاشتراكیة- الماركسیة أو المتمركسة. و الیوم تحصل قطیعة فعلیة مع هذه المبادئ، و لكن غیر مرفقة بقطیعة نظریة «**». بمعنی أن هذه القطیعة تحصل خارج إطار أی دراسة نقدیة و نظریة لهذه المبادئ. و لذا، فإن المبادئ التی ستتحكّم بإعادة قراءتنا تهدف إلی أن تتحمل مسئولیة القطیعة علی مستوی الفهم. أقصد مسئولیات القطیعات، و الإنكارات، و التناقضات
______________________________
* النصّ القرآنی یمثّل الحقیقة المطلقة بالنسبة للمسلمین مثلما یمثّل النصّ الإنجیلی أو التوراتی الحقیقة المطلقة بالنسبة للمسیحیین أو الیهود. و الدائرة التأویلیة هی المصطلح العربی الذی اخترناه لترجمة المصطلح الفرنسی‌heremeneutique cercle .le و المقصود به التموضع داخل المعادلة التالیة: ینبغی علیك أن تؤمن أولا لكی تستطیع أن تفهم النصّ، و أن تفهم لكی تؤمن بالنصّ. و بالتالی، فالإیمان و الفهم مترابطان مع بعضهما البعض داخل دائرة مغلقة هی: الدائرة التأویلیة.
(1) بواسطة هذه العبارة یحدّد بول ریكورP .Ricoeur الدائرة التأویلیة.
** ینبغی أن نعلم أن أركون كتب بحثه فی أوج سیطرة الإیدیولوجیا الماركسیة أو المتمركسة علی الجزائر و مصر و المشرق العربی عموما. و لم تكن الإیدیولوجیا الأصولیة (أو السلفیة) قد حلّت محلها بعد و أخذت تشغل جمیع الناس. فی الواقع، إن الماركسیة كما فهمها المثقفون العرب لم تكن قطیعة مع الإیمان التقلیدی بقدر ما كانت تبنّیا للماركسیة علی طریقة الإیمان التقلیدی. و بالتالی فلم یظهر حتی الآن فی اللغة العربیة أی فكر قادر علی إحداث القطیعة مع المسلمات الإیمانیة التقلیدیة، اللهمّ إلا فكر محمد أركون ذاته الذی أترجمه الآن إلی اللغة العربیة. لا یوجد أی فكر حدیث عن التراث الإسلامی فی اللغة العربیة. و بالتالی، فهناك قطیعة فعلیة أو یومیة مع هذه المسلمات و لكن لا توجد قطیعة نظریة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 123
المفروضة كل یوم فی البلدان الإسلامیة من قبل الممارسة العملیة المعاصرة «1».
لقد آن الأوان لكی نعدد المبادئ التوجیهیة التی ستتحكّم بقراءتنا. و هی خمسة مبادئ یمكن أن ننصّ علیها كما یلی:
1- إن الإنسان یمثّل مشكلة محسوسة بالنسبة للإنسان [لقد عبّر التوحیدی عن هذا المبدأ بكلمات مشابهة عند ما قال: و قد وجدت أن الإنسان أشكل علیه الإنسان. انظر بهذا الصدد كتابی: النزعة الإنسانیة العربیة فی القرن الرابع الهجری: مسكویه مؤرّخا و فیلسوفا.
و انظر أیضا البحث المنشور فی كتابی: مقالات فی الفكر الإسلامی (بالفرنسیة)، و الذی یحمل العنوان التالی: «النزعة الإنسانیة العربیة فی القرن الرابع الهجری/ العاشر المیلادی طبقا لكتاب الهوامل و الشوامل»] «*».
2- إنّ معرفة الواقع بشكل صحیح أو مطابق هی مسئولیتی، و مسئولیتی وحدی (نقصد بالواقع: العالم، الكائن الحیّ، المعنی .. إلخ.).
3- إنّ هذه المعرفة تشكّل (فی اللحظة الراهنة من التاریخ و من وجود الجنس البشری) جهدا متواصلا من أجل تجاوز الإكراهات البیولوجیة- الفیزیائیة، و الاقتصادیة، و السیاسیة، و اللغویة. و هی الإكراهات (أو القیود) التی تحدّ من شرطی الوجودی بصفتی كائنا حیا (و إذن قابلا للموت)، و متكلما، و سیاسیا، و تاریخیا، و اقتصادیا (و إذن عاملا أو مشتغلا).
4- هذه المعرفة هی عبارة عن خروج متكرر- و بالتالی مجازفة مستمرة- خارج حدود السیاج المغلق الذی یمیل كل تراث ثقافی إلی تشكیله بعد أن یعیش مرحلة من البلورة المكثّفة.
5- هذا الخروج یتوافق مع مسارین فی آن معا: مسار الصوفیّ الذی یقوم بحركة روحیة لا تستقر فی أی مرحلة من مراحل السلوك نحو اللّه؛ و مسار الباحث الذی یتخذ البحث العلمی كممارسة نضالیة. بمعنی أنه یرفض إبستمولوجیا التوقف عند حلّ معیّن مهما حقق من نتائج. فهو یعتبر الخطاب العلمی بمثابة حلّ تقریبی مؤقت، أی أنه مدعو إلی تجاوزه فی مرحلة لاحقة.
______________________________
(1) توجد فی الأدبیات الدینیة و الأخلاقیة الإسلامیة مادة غزیرة تتیح لنا أن نستخلص نظریة معیّنة للفهم و الممارسة، انظر مثلا: كتاب مسكویه، تهذیب الأخلاق، الترجمة الفرنسیة لمحمد أركون، دمشق، 1969.
* یشیر أركون هنا إلی المرجعین التالیین:
. 1982،J .Vrin ،Paris ،Xesiecle /IVe au arabe LHumanisme :l -M .Arkoun و قد ترجم إلی العربیة بعنوان: نزعة الألسنة فی الفكر العربی- جیل مسكویه و التوحیدی. بیروت، دار الساقی، 1997.
.ff 211.p ، 1984،Larose et Maisonneuve ،Paris ،islamique pensee la sur Essais :-M .Arkoun 2
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 124
نأمل أن تكون هذه المبادئ واضحة بما فیه الكفایة، و بالتالی قادرة علی تحاشی كل سوء تفاهم. ثم قادرة بشكل أخصّ علی تحاشی كل تأویل یحوّل جهدنا إما إلی مشروع تبجیلی، و إما إلی محاولة للتفسیر الاختزالی. فالقرآن لیس بحاجة إلی تبجیل لكی یفرض غناه و عظمته. كما أنه یصل فی الغنی إلی درجة أنه یحول دون انتشار المزعم العلموی وقتا أطول مما یجب. و سوف یدرك القارئ كل ذلك بعد أن یطلع علی الصفحات القادمة «*».

-II اللحظة الألسنیة (أو اللغویة)

اشارة

إلیكم النص العربی الذی سوف نقرؤه فی كلّیته: إنّ هذا التمییز بین النصّ الأصلی و النصّ المترجم ضروری جدا، بل و لا مندوحة عنه، من أجل وصف عملیة القول أو النطق. و لكنه أقل ضرورة فی ما یخصّ تحلیل المقال
______________________________
* المقصود بالمزعم العلموی ادعاء التبجیلیین المسلمین بوجود علم الذرة و الطب و الفلك فی القرآن! فهو یحتوی فی نظرهم علی كافة الاكتشافات العلمیة. و لا یمكن أن یحصل أی اكتشاف فی المستقبل إلا و هو متضمّن فیه بالضرورة. انظر مصطفی محمود و سواه من التبجیلیین الذین فقدوا كل حسّ تاریخی .. و لكن القرآن لیس بحاجة إلی ذلك فی رأی أركون. و لا ینبغی تحمیله فوق طاقته. فهو لیس كتابا فی علم الفیزیاء أو الكیمیاء، و إنما هو خطاب دینی عالی المستوی، و خطاب روحی و أخلاقی بالدرجة الأولی.
و بهذا المعنی فهو خطاب كونی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 125
أو مضمون المقال «1» (أو عملیة النطق، و تحلیل المنطوقة).

عملیة القول (أو عملیة النطق):

إنّ علم الألسنیات المعاصر یمیّز بین عملیة النطق، أو فعل إنتاج النصّ من قبل متكلّم، و بین المنطوقة أو العبارة التی هی النص المنجز أو المتحقّق، أی النتیجة اللفظیة الكلّیة لعملیة النطق. و فائدة هذا التمییز هی أنها تتیح لنا أن نقیّم درجة تدخل الذات المتكلّمة أثناء عملیة النطق و أنماط هذا التدخل. كما و أنها تتیح لنا أن نعود إلی المنطوقة فی صیاغتها الناجزة أو المكتملة من أجل دراسة إنتاجیتها (أو مدی إنتاجیتها).
تستخدم عملیة القول (أو النطق) بعض العناصر اللّغویة التی ندعوها بصائغات الخطاب أو بمشكّلاته التی تصوغه علی هیئة معیّنة «*». و هكذا ندرس بشكل متتابع المحدّدات أو المعرّفات (من أدوات تعریف و تنكیر، و صفات، و ضمائر)، ثم النظام الفعلی، ثم النظام الاسمی، ثم البنی النحویة، و أخیرا النظم و الإیقاع، إن لم نقل الأوزان و العروض.
و فی ما یخصّ كل هذه الأشیاء أو المستویات، فإننا لا نهدف إلی كشف المعاییر النحویة للّغة العربیة، بقدر ما نهدف إلی فهم خیارات المتكلّم أو الناطق. أقصد سبب اختیاره لهذه الكلمة أو تلك دون غیرها، و ذلك ضمن الإمكانیات التی یتیحها نظام اللغة.
و بالتالی، فإن دراسة عملیة القول أو النطق ما هی إلّا تهیئة و إعداد لفهم المعنی المقصود من قبل المتكلم. أقول ذلك و نحن نعرف أن المقصد الواحد لدی المتكلّم یولّد لدی السامعین و القرّاء تعدّدیة فی المقاصد و المعانی «2». و كلّما حدّدنا بصرامة و دقة صائغات الخطاب، ثم بشكل أكثر احتمالیة و صدفویة المفردات المجرّدة، كلما اقتربنا بالتالی من مقصد الناطق أو المتكلم. و لكن هذا العمل الهادف إلی مقاربة المعنی أو تحدیده بدقة یظلّ مهمة مطروحة
______________________________
(1) سوف نترك للقارئ المهمة التالیة: أن یتحقق بذاته من درجة عدم تطابق مختلف ترجمات الفاتحة فی كل اللغات مع النصّ الأصلی العربی.
* صائغات الخطاب هی حروف اللغة، و ألفاظها، و أفعالها، و أسماؤها، و بنیتها الصرفیة و النحویة. كل هذه الأشیاء تتدخل فی تشكیل الخطاب أو صیاغته علی هذا النحو دون ذاك. فحروف الجرّ، و أل التعریف، و التنكیر، و الصفات، و الضمائر ... كلها استخدمت بطریقة معیّنة فی القرآن من أجل التوصل إلی أفضل صیاغة ممكنة لتوصیل المعنی إلی السامع أو القارئ و التأثیر فیه بأقوی ما یكون. و هذه الصیاغة هی ما یدعوه أركون بالنظم و الإیقاع، أو الأوزان و العروض. فالعبارات القرآنیة تكون أحیانا متوترة، متلاحقة كالشعر.
(2) انظر دراستی: «العقلانیة المركزیة و الحقیقة الدینیة فی الفكر الإسلامی»، بحث منشور فی كتاب: مقالات فی الفكر الإسلامی::in ، ( (islamiquepensee la dans religieuse verite et Logocentrisme ((:M .Arkoun .ff 581.pp ، 1984،edition e 3،Larose et Maisonneuve ،Paris ،islamique pensee la sur Essais
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 126
علینا باستمرار و لا سیما فی ما یتعلق بنصّ كنصّنا حیث یحصل تبادل بین الكینونة و الكلام، بین العالم و اللّغة، بین الحیاة و القول، بین الضرورة و الحریة.

المحدّدات أو المعرّفات:

نلاحظ أولا أن جمیع الأسماء (من مصادر، أو أسماء الفاعل و المفعول به أو الصفات الاسمیة) محدّدة إمّا بواسطة أل التعریف، و إمّا بواسطة تكملة تعریفیة. هذا یعنی أن كل ما یتحدث عنه المتكلّم معروف تماما أو قابل لأن یعرف. و باستثناء الحمد، الصراط، المغضوب و الضالین، فإن جمیع التحدیدات أو الأسماء الأخری مسبوقة بكلمة اللّه أو مقادة من قبلها. و هذه الكلمة تحتلّ مكانة مركزیة و أساسیة من حیث المعنی، علی الرغم من أنها لا ترد كفاعل نحوی إلّا مرة واحدة: أنعمت. إنّ اللّه محدّد فی آن معا من قبل أداة التعریف أل، و من قبل سلسلة من أسماء البدل «*» التی تشكّل أیضا تحدیدات و صفیة.
إذا ما رجعنا إلی الحالة العامة للخطاب و الخاصّة بالمتكلّم- الناطق الأول (أی محمد) «**»، فإن تعریف إله عن طریق أداة التعریف قد یحیلنا إلی مفهوم غیر متبلور كثیرا فی النصوص السابقة للفاتحة (أی السور القرآنیة من رقم (1) إلی رقم (45)). بالمقابل، فإن هذا التعریف یمیل إلی أن یحلّ تسمیة وحیدة و كونیة محل استخدام مشترك ذی مضمون متغیّر. و لأجل تثبیت المضمون الجدید للتحدید، فقد شرحت أل التعریف بشكل ما مباشرة من قبل استخدام أسماء البدل من أمثال: الرحمن الرحیم، رب العالمین ... إلخ. كذلك الأمر فی ما یخصّ الصیاغة التشفّعیة أو الاسترضائیة، فإن الاسم المستخدم (ب- سم) محدّد مباشرة عن طریق اللّه الذی یشكل محدّدا أو معرّفا من الناحیة القواعدیة أو النحویة. و لكنه بعد أن یستعاد من قبل مصدرین مستخدمین كنعتین، فإنه یخلع علی المحدّد اسم قیمة، الاسم الأمثل بامتیاز، أی:Nom باللغة الفرنسیة، و لیس.nom و هكذا تجد الصیاغة التعبیریة (ب- سم) نفسها و قد رقّیت نهائیا لكی تتخذ دلالة متفردة و متجسّدة فی الصیاغة الأخری الشائعة: باسمه تعالی، حیث إن اللّه لم یعد مسمّی إلّا من قبل ضمیر شخصی.
إن قیمة أداة التعریف مهمّة جدا أیضا فی التركیبة اللغویة التالیة: الحمد، أو الحمد، بالأحری. ینبغی أن نسجل هنا قائلین بأن فطنة المفسّرین الكلاسیكیین كانت قد
______________________________
* المقصود بأسماء البدل: الرحمن الرحیم. و هما كلمتان تردان بعد كلمة اللّه فی الآیة الأولی: «بسم اللّه الرحمن الرحیم». أما عبارة «مالك یوم الدین»، فهی أیضا تحل محل كلمة اللّه و تلعب دور البدیل عنها.
و یمكن أن نقول الشی‌ء ذاته عن عبارة «رب العالمین» ... فهی أیضا بدل عن كلمة اللّه.
** أول من نطق بالقرآن أو تلفّظ به هو النبی محمد بالطبع. و بعدئذ نطق به أو تلاه عدد لا یحصی من المؤمنین من ذلك الوقت و حتی یومنا هذا. و لذا یدعی محمد بالناطق الأول.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 127
لمحت أو أدركت الأهمیة المعنویة لهذا الاستخدام. و قالوا بأن أداة التعریف لها قیمة التعمیم فی الزمان و المكان، و قیمة الحمد. یقول الرازی: «الفائدة الثانیة، إنه تعالی لم یقل أحمد اللّه و لكن قال (الحمد اللّه). و هذه العبارة الثانیة أولی لوجوه. أحدها: أنه لو قال أحمد اللّه أفاد ذلك كون ذلك القائل قادرا علی حمده، أما لما قال (الحمد اللّه) فقد أفاد ذلك أنه كان محمودا قبل حمد الحامدین، و قبل شكر الشاكرین. فهؤلاء سواء حمدوا أم لم یحمدوا، و سواء شكروا أم لم یشكروا، فهو تعالی محمود من الأزل إلی الأبد بحمده القدیم و كلامه القدیم» «1».
إن أداة التعریف لها وظیفة التصنیف فی التراكیب اللغویة التالیة: الصراط المستقیم، الذین أنعمت علیهم (المنعم علیهم) «2»، المغضوب علیهم، الضالّین. فهذه التراكیب هی عبارة عن مفاهیم، أو أصناف أشخاص محدّدین بدقة من قبل المتكلّم «*» و قابلین للتحدید من قبل المخاطب عند ما یصبح بدورة قائلا أو متكلما (انظر بروتوول القراءة الطقسیة أو الشعائریة).
إنّ الصیاغة المسماة فی النحو العربی بالإضافة تتیح أیضا أن، نلفت الانتباه إلی وجود علاقة وثیقة بین الوظیفة النحویة و القیمة المعنویة. نحن نعلم أنه یوجد تفاعل نحوی متبادل بین المحدّد و المحدّد (مضاف/ مضاف إلیه). و فی تعبیر رب العالمین، كما فی تعبیر بسم اللّه (أو ب- سم اللّه)، فإن هذا التفاعل المتبادل موجود علی مستوی المعنی. فالمعنی الشائع لكلمة رب (أو سید، كما نقول: سید البیت) قد أصبح خصوصیا أو مخصّصا عن طریق الطرف المحدّد: أی عالمین (و هی كلمة تعنی الكون بصفته حقیقة فضائیة و زمانیة «3»).
و بالعكس، فإن عالمین علی الرغم من لانهائیتها موضوعة تحت تبعیة رب.
______________________________
(1) انظر تفسیر الرازی، مصدر مذكور سابقا، ص 116.
(2) النسبة لیست إلّا عبارة عن صفة نحویة. انظر دراسة إمیل بنقینیست: «الجملة النسبیة»، و هی منشورة فی كتابه: مبادئ فی علم الألسنیات العامة:de Elements :in ، ( (relativeLaphrase ((:E .Benveniste .ff 802.p ،generale linguistique
* المقصود بذلك أن كلمة «المغضوب علیهم» أو «الضالّین» تدلّ علی أشخاص محدّدین بدقة فی مكّة، و كانوا معادین للرسالة الجدیدة و لذلك دعوا بالمغضوب علیهم و الضالّین. و لكن القرآن لا یحدد أسماءهم و إنما یترك الصیاغة عامة شمولیة تنطبق علی أعداء هذا الدین فی كل زمان و مكان. و هنا تكمن إحدی السمات الأساسیة للخطاب القرآنی. فهو یستخدم لغة عمومیة أو تجریدیة، و لا ینزل إلی مستوی تسمیة هؤلاء الناس بأسمائهم الحقیقة.
(3) فی ما یخصّ هذا الجمع «العالمین»، أعتقد أنه من المفید أن أورد هنا ملحوظة فیلولوجیة كان صدیقی جیرار تروبو قد تفضل و أرسلها إلیّ. یقول تروبو: ( (إن أصل كلمة عالم كما یقترحه الرازی مشتق من كلمة علم (أی علامة أو وسم أو دمغة). و هذا الرأی بارع من وجهة نظر علم التأویل، و لكنه غیر مقبول من وجهة نظر علم الفیلولوجیا (أو فقه اللغة).
فنحن نعلم أن صیغة فاعل، و جمعها فواعل، ممثّلة فی اللغة العربیة بعدد محدود جدا من الكلمات. و هذا-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 128

الضمائر فی سورة الفاتحة:

إنها تمثّل صنفا آخر من أصناف المحدّدات التی تتیح متابعة تدخل المتكلّم. و تحلیلها یمثّل إحدی اللحظات الحاسمة لقراءتنا، و ذلك لأنه سیجبرنا علی معالجة تلك المسألة الحسّاسة جدا و الخاصة بمؤلّف النصّ.
نلاحظ أولا وجود ضمیر زائد خاص بالشخص الثانی المفرد (أو ضمیر المخاطب فی صیغة المفرد). و هو مستخدم مرتین مع أداة الفصل إیّا للدلالة علی من تتوجّه إلیه العبادة (نعبد)، و من نطلب منه المعونة (نستعین): إِیَّاكَ نَعْبُدُ، وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ (2) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ (3) الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ (4) مالِكِ یَوْمِ الدِّینِ (5) إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ (6) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ (7) صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لَا الضَّالِّینَ. لم یتفق الفقهاء و المفسّرون القدامی علی دمج الآیة الأولی فی سورة الفاتحة أو استبعادها. و لا نرید هنا أن نتخذ موقفا من هذه المناقشة التی تتجاوز الحالة الخاصة لسورة الفاتحة. و لكن فقط نرید أن نلاحظ أن هذه الآیة تتكرر فی بدایة كل سورة من سور القرآن ما عدا سورة التوبة. و هذه الآیة عبارة عن صیغة تشفّعیة أو استرضائیة و تشكّل بحد ذاتها نصّا قصیرا تمكن قراءته لوحده. و سوف نری أن التحلیل الألسنی سیدعم بالأحری موقف أولئك الذین كانوا ضد دمج الآیة فی الفاتحة.
. و المرسل إلیه المقصود هنا هو ال- لاه (اللّه). و یعود هذا الأخیر بصفته فاعلا نحویا فی أنعمت، و اهدنا.
أما المتضادة الثنائیة: أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ، غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ- 5- 7- إن قراءتنا سوف تعتمد علی النصّ العربی و لیس علی الترجمة الفرنسیة. و ذلك لأننا نرید أن نبیّن كیفیة حصول البلورة البطیئة لهذه الترجمة. كما نرید أن نبیّن المسافة الكائنة بالضرورة بین كل نصّ و ترجمته، أی عند ما ننتقل من لغة إلی لغة أخری.

ملاحظات:

، فإنها تبیّن لنا أن الفاعل النحوی مصرّح به فی الحالة الأولی عن طریق ضمیر المخاطب (ت) المستخدم فی أنعمت.
فهو المعترف به كفاعل للأفضال أو النعم الممنوحة لبعض المخلوقین. أمّا فی الحالة الثانیة، فعلی العكس نلاحظ أن الفاعل النحوی المفروض من قبل السیاق لا یمكن أن یكون إلا ال- لاه (اللّه) أیضا. و لكنه مضمر فی هذه الحالة و لیس مصرّحا به. بل و إنه من الناحیة القواعدیة مجهول. و تركیبة العبارة علی صیغة المجهول یعادل الذین غضب علیهم. سوف
______________________________
- العدد لا یتجاوز العشرین كلمة فی اللغة العربیة كلها، و كلها من أصل أجنبی. و معظمها مستعار من اللغة الآرامیة عن طریق السریانیة. و من الغریب و المدهش أن نلاحظ أن كلمة عالم متكررة فی القرآن 73 مرة. و هی دائما تتكرر فی حالة الجمع. و لكن الأكثر ادهاشا هو أن الجمع لیس عوالم كما هو متوقع، و إنما عالمین، أی دائما بحالة مائلة أو منحرفة. و هذا دلیل مؤكد علی استعارتها عن طریق اللغة السریانیة.
و لكی نفهم جیدا معنی هذه الكلمة فی اللغة العربیة، فإنه ینبغی علینا إذن أن نذكّر بمعانیها المختلفة فی اللغة السریانیة. فی هذه اللغة نجد أن كلمة عولم و جمعها عولمین تعنی أولا: «قرن، أبدیة، عصر»، ثم عن طریق الامتداد و البسط تعنی: «القرن الحاضر»، أی «العالم»، «البشر». و هذه الكلمة تقابل تماما الكلمة الإغریقیة «آیون»alon و الكلمة اللاتینیة.saeculum و كلتاهما تعنیان: «زمن، أبدیة، قرن»، و لكن تعنیان أیضا: «عصر، جیل، عالم».
و یبدو أن كلمة عالمین الواردة فی آیات عدیدة من القرآن قد اتخذت معنی «أجیال البشر». ففی هذه الآیات یقول القرآن بأن اللّه قد اختار فردا أو شعبا یعتبر قدوة لجمیع البشر الآخرین، أو أنه یعامل شخصا ما كما لم یعامل أی إنسان آخر، أو أن شخصا تصرف بطریقة تختلف عن جمیع البشر.
انظر أیضا اللغة الأثیوبیة، فكلمة عالم، جمع: عالمات. و هی تعنی: «عصر، قرن، أبدیة، إنسان ینتمی لعصر ما، عالم»)) [انتهی كلام جیرار تروبو].
نلاحظ أن جیرار تروبو لا یذكر تعبیر: «رب العالمین». و دلالات هذا التعبیر یمكن أن تكون زمنیة (أبدیة، عصر، قرن)، و فضائیة أو مكانیة (العوالم، الكون)، و أنطولوجیة (الكائنات، البشر). إنه رب كل شی‌ء؛ إنه رب العالمین. لنلاحظ أیضا أن الحقل المعنوی لكلمة «عالمین» الواردة فی القرآن أكثر تعقیدا من ذلك الذی توحی به الإیتیمولوجیا (علم أصول الكلمات) و السیاقات المباشرة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 129
نری فیما بعد ما هی الدروس التی یمكن أن نستخلصها من هذا التضاد.
و أمّا الضمیر الآخر المصرّح به فهو: نحن الموجودة فی نعبد، نستعین، اهدنا. إنّ «نحن» تعبّر عن «لا- أنا» ضمنیة و ضروریة مصحوبة بقیمتین: أنا و أنت، أنا و هم. و لكن بما أن النحن مرتبطة أولا ب أنت فی نصّنا، فإن قیمتها المعنویة لا یمكن أن تكون إلّا أنت و هم. و المقصود ب «هم» هنا جمیع القائلین أو المتكلّمین الحاضرین أثناء التلاوة الطقسیة أو الشعائریة. و لكنها أیضا تعنی جمیع المتكلّمین المحتملین أو الممكنین الذین عند ما یقولون النصّ (أو عند ما یلفظونه) لا یمكنهم أن یفلتوا من القیم اللغویة الملازمة أو المحایثة، هذه القیم التی نحاول استخلاصها الآن. و لكن قبل أن نتقدم أكثر فی دراسة السمات الخصوصیة لهذه اللغة الأدائیة أو التحقیقیة، لنحاول أولا أن نكمل تحلیل المشاكل التی تطرحها الضمائر علینا. لنحاول أن نستنفدها.
ینبغی أن نعلم أنه لا توجد فی النصّ أیة علامة قواعدیة دالّة علی هویة المؤلّف.
فالارتباط الثنائی بین «أنت/ نحن»، و الذی كنا قد أشرنا إلیه للتوّ، یتیح لنا أن نتحدث عن «أنا» متكلمة متغیّرة و عن مرسل إلیه وحید، و محدّد تماما. و لكننا نعلم فی ما یخصّ بقیة النص القرآنی أن العلامة اللغویة الدالّة علی المؤلّف تظهر غالبا. إنها تتمثّل فی فعل الأمر:
قل. أو قد تتمثّل فی أنا قواعدیة و فاعلة للقرارات و الأفعال الخاصة بالأوامر ... إلخ فی أن معا. و هی تظهر فی صیغة إنّا: أی «نحن» الدالّة علی الجلالة و العظمة المطلقة. و هذه النحن هی التی تظهر فی الفاتحة بصفتها العامل المرسل- المرسل إلیه.
إننا لا ندخل هنا هذا المفهوم الصعب (مفهوم العامل «*») إلّا لأنه یبدو لنا الأكثر قدرة علی شرح آلیّة الاشتغال النحویة و المعنویة لنصّنا. فلو أننا حصرنا أنفسنا بالمفهوم الكلاسیكی (للذات، أو الفاعل) لما استطعنا تحلیل هذا التعبیر المركزی الحمد للّه بكل الدقة و الصرامة المطلوبة.
من الناحیة النحویة أو التركیبیة نمتلك هنا جملة اسمیة، أی تركیبا لغویا مشكلا من عنصرین: مبتدأ و خبر. یوجد هنا عمل معروض و كأنه موجّه إلی اللّه خارج كل إشارة إلی متكلم معیّن أو إلی زمن محدّد. فاللّه إذن هو المرسل إلیه المستمر، أقصد یرسلون إلیه عملا (هو الحمد). و هذا العمل له بالضرورة فاعل- مرسل. و لكن لا ینبغی الخلط بین هذا الفاعل- المرسل و بین القائل أو المتكلّم. لما ذا؟ لأنی أستطیع أن أقول «الحمد للّه» علی سبیل المثال النحوی، لیس إلّا. و لكن إذا ما انتقلنا من الصعید النحوی التركیبی إلی الصعید
______________________________
* مفهوم العامل هو المصطلح الألسنی الذی یقابل مصطلح‌actant فی اللغة الفرنسیة. و هو یعنی الفاعل فی الواقع و لكن بمعنی یتجاوز المعنی النحوی. ففی كل سرد لغوی أو حكایة یوجد: فاعل، و موضوع، و مرسل، و مرسل إلیه، و معارض للبطل (أو للفاعل)، و مساعد (أو نصیر) له.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 130
المعنوی، فإن القائل ینفصل بصعوبة أكثر عن الفاعل- المرسل. إنّ العلاقة تغتنی فی الواقع بوظیفة جدیدة. بمعنی أن فعل الحمد یفترض معنویا فاعلا مرسلا للنعم و عاملا مستقبلا (أو مرسلا إلیه) لهذه النعم. و هكذا نصل إلی نموذج عاملی حیث یكون اللّه فیه هو العامل المرسل للنعم، و الذی یستقبل فعل الحمد و الشكر. أما القائل فهو العامل الذی ترسل إلیه النعم، و الذی یرسل فعل الحمد و الشكر إلی اللّه. و هكذا نری أن مفهوم العامل یلبّی بالفعل تلك الحاجة التی تدفعنا إلی تعیین جملة من الوظائف النحویة و المعنویة المنجزة من قبل «فاعل» واحد، أو «ذات» واحدة.
بما أن النصّ یمتلك مثل هذه البنیة الملازمة أو المحایثة، فإن مسألة المؤلّف لا تعود تطرح من خلال المفاهیم المعتادة. أقصد بذلك أنها لم تعد تشرط فهم النصّ كما كانت تفعل حتی الآن. فالنسیج اللغوی للنصّ یبلغ من الخصوصیة حد أن المؤلّف ینبثق من خلاله بشكل من الأشكال، ثم ینبنی و یتشكّل كلما راحت عملیة القول تتطوّر و تتقدّم.
ما ذا یعنی كل ذلك؟ یعنی أننا لم نعد بحاجة للانطلاق من المسلمات اللاهوتیة الدوغمائیة لكی نتحدث عن القرآن. و لكن علی الرغم من ذلك فإننا سوف نلتقی بهذه المسلمات كلها علی طریقنا، أی فی أثناء البحث المفتوح عن معنی النصّ.
سوف نحتفظ حتی الآن من كل ما قلناه بما یلی: إن اللّه (أو ال- لاه) هو العامل المرسل- المرسل إلیه رقم (1). أمّا القائل- أی الإنسان- فإنه العامل المرسل إلیه- المرسل رقم (2). لنحاول الآن أن نری كیف یتشكّل هذان العاملان من خلال التفاعل المشترك و تبادل المنظورات «*».

الأفعال فی سورة الفاتحة:

نلاحظ أن الأفعال قلیلة فی هذه السورة بالقیاس إلی الضمائر. نجد أولا فعلین مصرّفین علی طریقة الفعل المضارع و هما: نعبد، نستعین. و صیغة الفعل المضارع تدل علی التوتر، و علی الجهد الذی یبذله العامل رقم (2) لكی یصل إلی العامل رقم (1) «**».
إنّ الفعل المضارع یدلّ علی دیمومة هذا الجهد من أجل سدّ الفجوة الكائنة بین متكلّم یعترف بوضعه كخادم و ضعیف «***»، و مخاطب محدّد بكل إلحاح بصفته الشریك الأعلی الجدیر بالعبادة، و القادر فی خط الرجعة علی الشفقة و الرحمة (یدلّ علی هذا الإلحاح
______________________________
* المقصود أنهما یتشكلان من خلال التموضع بالقیاس إلی بعضهما البعض، و علی مدار النص القرآنی.
** العامل رقم (1) هو اللّه، و العامل رقم (2) هو الإنسان كما أوضحنا سابقا. و هما یتبادلان الأدوار داخل النصّ القرآنی.
*** المتكلم هنا هو الإنسان، و المخاطب هو اللّه، و من الطبیعی أن یشعر الإنسان بأنه خادم و ضعیف أمام اللّه.
و هذه هی العلاقة التی أسسها القرآن و رسخها علی مدار العصور فی جمیع المجتمعات التی انتشر فیها الإسلام.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 131
استخدام كلمة إیّاك مرتین قبل كل فعل: إیّاك نعبد، إیّاك نستعین). هنا أیضا نلاحظ أن الوظائف النحویة أو التركیبیة تتحالف مع القیم المعنویة لكی تعبّر بشكل مطابق أو صحیح عن الجدلیة المشكّلة لكلا العاملین، و لكی تقوّیها. إن فعل الأمر اهدنا الذی یجی‌ء بعد الفعلین المضارعین، لا یمكن أن یشتمل فعلا علی قیمة الأمر. بل علی العكس فإنه یوضح الاسترحام الموجود ضمنیا فی نعبد و نستعین.
أما الفعل الوحید الذی یتخذ صیغة الماضی (أنعمت)، فإن فاعله النحوی هو العامل رقم (1). و هو یدلّ علی حالة حصلت أو تمّت و لا مرجوع عنها. إنها ناتجة عن فاعل سید و مستقل. و بالتالی، فلا یوجد توتر مع الفاعل. و الفجوة الكائنة بینه و بین فعله، ما إن یتم هذا الفعل، تهمّ المرسل إلیهم (علیهم). و هكذا یضیف التضادّ الكائن بین الفعل الماضی/ و الفعل المضارع سمة إضافیة متمیّزة لمكانتی كلا العاملین.

الأسماء و التحویل إلی اسم فی سورة الفاتحة:

إن أهمیة الأسماء تتجلّی فی عدد المفاهیم البدئیة أو الأصلیة و فی اللجوء إلی التحویل إلی اسم.
إنّ المفاهیم الأصلیة هی تلك التی إذا ما اختزلت إلی جذرها المعنوی تفلت من التمفصلات المنطقیة و الصرفیة التی تدخلها التحدیدات التقنیة إلی الكلمات أو المفاهیم المشتقة. و بالتالی، فإن هذه المفاهیم الأصلیة تحیلنا إلی كونیة اللغة فی تمفصلها المعنوی «الطبیعی». إنها تقدّم معیارا صلبا من أجل تحدید تیبولوجیا للخطاب القرآنی، و للخطابات بشكل عام.
إن نصّنا یحتوی علی الكلمات البدئیة أو الأصلیة التالیة: اسم، ال- لاه، حمد، رب، یوم، دین، صراط. علی الرغم من أن كلمة عالم مشتقة، و كذلك الصنو المتماثل رحمان رحیم. إلّا أن لها صیغة قریبة من الجذر (جذر الكلمة فی التصریف). و دراسة الحقل المعنوی لهذه الكلمات ینبغی أن تتمّ علی مرحلتین: ینبغی أولا أن نربطها بالبنی الإیتیمولوجیة (أو الأصلیة) للمعجم العربی، أی لمفردات اللغة العربیة؛ و ینبغی ثانیا أن نقیّم التحوّلات المعنویة التی طرأت علیها داخل النظام اللفظی أو المعجمی المستخدم من قبل اللغة القرآنیة «*». لا
______________________________
* یقصد أركون بذلك أن استخدام القرآن للغة العربیة یختلف و یتشابه مع النصوص العربیة الأخری التی كانت سائدة فی وقته أو سابقة له. فینبغی أن نطلع أولا علی معانی الكلمات العربیة كما كانت شائعة فی منطقة الحجاز، و نقارن بینها و بین معانی الكلمات القرآنیة لكی نعرف ما ذا طرأ من تغیر علی معانی الكلمات ذاتها. فالقرآن قد یستخدم نفس الكلمة و لكن بعد أن یضفی علیها معنی جدیدا یتناسب مع المنظور الدینی أو الروحی الذی كان فی طور تدشینه. و حتما، فإن القرآن استخدم نفس الكلمات التی كانت شائعة فی بیئته بعد أن أجری علیها تعدیلا طفیفا أو كثیرا. و لكن هل نمتلك نصوصا موثوقة و تعود إلی نفس فترة القرآن لكی نقوم بعملیة المقارنة؟ هذا هو السؤال.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 132
نستطیع للأسف أن نقوم هنا بهاتین المهمتین من البحث العلمی. أقول ذلك و نحن نعلم أنه عن هذا الطریق وحده نستطیع أن نقیس حجم تدخل المتكلم فی عملیة القول، و انطلاقا من ذلك، فی ترسیخ مناخ جدید من المعانی.
یبدو من السهل أكثر أن نقبض علی هذا التدخل فی عملیات التحویل إلی اسم، أی اللجوء إلی كلمات مزدوجة (كالمصادر التی قد تكون أسماء فاعل أو مفعول به). و هذه المصادر تمارس فعلها نحویا كأسماء فی الوقت الذی تعبّر فیه عن عملیة فعل. إن عملیة التحویل إلی اسم، إذ تحذف علامات الشخص، و الزمن، و الصیغة التی ترافق الفعل، تحوّل الجملة الفعلیة إلی جملة اسمیة، أی إلی عبارة تأكیدیة، لا زمنیة و خبریة ذات صلاحیة عامة و دائمة. و بدلا من تأكید خاضع لشروط تدخل فاعل ما، فی زمن ما و طبقا لصیغة محددة، فإننا نجد أنفسنا أمام حالة تمارس دورها كمحاجّة قائمة علی الهیبة التی تفرض نفسها من فوق.
و هذه هی حالة الاسم الملی‌ء بالحمیّا: الحمد. و هو الفعل الوارد فی التركیب اللغوی الذی حلّلناه آنفا. كما تنطبق علی اسم الفاعل مالك التی یفضّلها المفسّرون المسلمون علی التنویعة الأخری ملك التی تمثّل اسماء مستقرا أو ساكنا، هذا فی حین أن كلمة مالك تعبّر عن الإرادة المؤثّرة لفاعل یعتمد علیه استحقاق یوم الحساب و القرارات التی ستتخذ فی ذلك الیوم.
و هناك اسم فاعل آخر یتطلّب تفسیرا مشابها هو: الضالّین. فالتركیب الاسمی هنا یساوی التركیب الفعلی مع فاعل اسمی نسبی هو: الذین یضلّون الصراط. نلاحظ أن اختیار الاسم الفعلی یتیح تصنیفا أكثر وضوحا، و توفیرا فی الوسائل المستخدمة، و نبذا أكثر رادیكالیة للفئة التی تقف خارج الطریق القویم أو الصراط المستقیم.
و ینطبق الأمر ذاته علی الفئة المدلول علیها عن طریق اسم مفعول به: المغضوب علیهم. و لكن أعضاء هذه الفئة یحافظون علی علاقة مع فاعل خارجی لم یسمّ. و بالتالی، یمكنهم أن یعودوا إلی التحالف المعاش فی الحمد للّه عن طریق إیقاف العملیة التی تؤدی إلی الضلال الفعّال، أی إلی الدمار الكامل للفاعل الذی ظل مضمرا فی عبارة: المغضوب علیهم.

البنیات النحویة فی سورة الفاتحة:

كنا قد اكتشفنا فیما سبق بعض العلاقات و الوظائف النحویة أو التركیبیة اللغویة عن طریق التركیز فقط علی صائغات الخطاب أو مشكّلاته. و یمكننا أن نبیّن كیف أن هذه الملحوظات تتراكم و تتجمّع لكی تتیح لنا تقطیعا منتظما للنص.
یمكن أن نمیز بسهولة بین أربع لفظات، أو أربع وحدات للقراءة القاعدیة، ثم سبع لفظات إخباریة، و ذلك طبقا للتوزیع التالی:
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 133
1- بِسْمِ اللَّهِ 1- الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ 2- الْحَمْدُ لِلَّهِ 1- رَبِّ الْعالَمِینَ 2- الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ 3- مالِكِ یَوْمِ الدِّینِ 3- إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ 4- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ 1- صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ 2- غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ 3- وَ لَا الضَّالِّینَ إن هذا التقطیع للسورة یرتكز علی التمییز النحوی المقام عادة بین العبارة- النواة/ و العبارة- التوسّع «1». و هذا التقطیع یتیح لنا أن نوضّح بشكل أفضل ذلك الدور النحوی المركزی للفاعل المقصود بكلمة اللّه (أو بعملیة القول: اللّه). و كذلك یتیح لنا أن نفهم كیفیة التوسّع المعنوی لهذا الفاعل نفسه. إن الممارسة الدینیة الإسلامیة تؤكّد علی الصحة الألسنیة أو اللغویة لهذا التقطیع لأن العبارتین- النواتین الأولیین تتم تلاوتهما فی مناسبات كثیرة من دون توسّعهما المعنوی. فمثلا، یلفظ المسلم العبارة الأولی فی بدایة الأكل، و العبارة الثانیة فی نهایته (بسم اللّه، الحمد للّه). و من السهل أن نری أن العبارات- النویات الأربع تحتوی فی آن معا علی النموذج العاملی «*»، و علی البنیة المركزیة للتحالف المقدس، و علی الانعكاسات المعنویة المتضمّنة فی التوسّعات. و نأمل أن نبرهن فی مكان آخر علی أن هذا التقطیع ینطبق علی مجمل النصّ القرآنی و یتیح لنا أن نمركز التحلیل علی ما سندعوه بالنواة التبشیریة القرآنیة «**».
______________________________
(1) حول هذین المفهومین انظر: 275.op .p ،langage du sciences des encyclopedique Dictionnaires
* النموذج العاملی‌astantiel lemodele ، أی النموذج الذی یحتوی علی العاملین (أو الفاعلین) الأساسیین الموجودین فی كل سرد لغوی أو حكایة. و هم: الفاعل، الموضوع، المرسل، المرسل إلیه، المعارضون، الأنصار أو المساعدون.
** بالفرنسیة:kerigmatique noyaux .le بمعنی أن كل التبشیر القرآنی یتمحور حول العاملین (أو الشخصیات الأساسیة) المذكورین أعلاه. فهناك المرسل- و المرسل إلیه، و هناك الرسالة، و هناك أهل مكة الذین انقسموا حولها بین مؤید و معارض. هذا النمط الحركی بكل شخصیاته المتعارضة أو المتعاضدة یسیطر علی كل أنحاء النصّ القرآنی. و إذن فهناك نواة تبشیریة مصغّرة و لكنها تتوسع معنویا لكی تشمل النصّ ككل و تحوّله إلی نصّ تبشیری یهدف إلی توصیل رسالة معینة و إقناع الناس بها. و مصطلح «النواة التبشیریة» مأخوذ من اللاهوت المسیحی حیث یعنی التبشیر بالنبإ الجدید أو بالخبر الطیب، أی بالإنجیل.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 134

النظم و الإیقاع:

هل هناك من داع للتذكیر بأهمیة الدور الذی یلعبه التشدید، و الإیقاع، و النغم، و المدّة، و ارتفاع الصوت، و الكثافة فی عملیة القول؟ بل إن نظریة النظم الألسنیة تلحّ علی العلاقة الأساسیة الكائنة بین علم النحو و النبرة (أداء الصوت، النغم). و فی ما یخصّ اللغة العربیة، و بالأخص النصّ القرآنی، نحن نمتلك أدبیات غنیّة و غزیرة خاصة بالنظم و الإیقاع «*». و لا تزال تنتظر من یدرسها طبقا للمناهج الحدیثة فی التحلیل العلمی. و لكن، فی الحالة الراهنة لمعرفتنا، فإنه من غیر الممكن أن نخاطر بتفسیر مرض لنصّ قصیر كنص الفاتحة. إن بروتوكول القراءة الشعائریة و تقنین التجوید یقدّمان لنا بعض التعلیمات التی لم یدرس تأویلها الصوتی و الفونیمی و النظمی- الإیقاعی بشكل جاد حتی الآن.
و لهذا السبب فإننا سنكتفی فقط بالتنبیه إلی الملاحظة البسیطة التالیة، و هی وجود قافیة (إیم) متناوبة مع قافیة (إین) فی سورة الفاتحة «**». أما فی ما یخصّ الوحدات الصوتیة الصغری (الفونیمات)، فإننا نلاحظ هیمنة الوحدات التالیة: میم (15 مرة)، لام (12 مرة)، نون (12 مرة)، عین (5 مرات)، ها (5 مرات). نحن نعلم أن التفسیر التقلیدی یضفی قیمة رمزیة علی كل وحدة صوتیة و علی عدد التكرارات. و بالتالی، فإن الدراسة النظمیة أو الإیقاعیة للعلامات أو للكلمات ینبغی أن تتلوها الدراسة الرمزیة «1» (أو ینبغی أن تستطیل عن طریق الدراسة الرمزیة).

-III العلاقة النقدیة: الفاتحة كمنطوقة أو كعبارة

اشارة

إن التحلیل المجهری الذی انتهینا منه للتو و الذی طبّقناه علی سورة الفاتحة، فتح لنا
______________________________
* انظر نظریة النظم لعبد القاهر الجرجانی مثلا. و لكن هناك نصوصا أخری عدیدة فی النقد العربی القدیم غیرها، و هی جدیرة بأن تدرس دراسة علمیة دقیقة علی ضوء أحدث المناهج المعاصرة. فالنقد العربی الكلاسیكی كان متطورا و غنیا جدا، و كان یعرف كیف یكشف عن جمال الأدب العربی بشعره و نثره و عن جمال النصّ القرآنی أیضا.
** القافیة (ایم) ترد فی الآیات التالیة: بِسْمِ اللَّهِ. الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ. أما القافیة (إین) فترد فی الآیات التالیة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ. الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ مالِكِ یَوْمِ الدِّینِ. إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ. غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لَا الضَّالِّینَ.
(1) ینبغی أن نقوم بردّ فعل ضد ممارسة كانت شائعة لدی الفقهاء و لكنها أكثر شیوعا الآن لدی المسلمین المعاصرین. و هی تتمثّل فی انتزاع الآیات التشریعیة، و الأخلاقیة، و «التاریخیة» .. إلخ من نواتها التبشیریة الشعائریة. فی الواقع إن الأمر یتعلق ببنی تابعة، و لا یمكن معالجتها لوحدها أو بمعزل عن سیاقها إلّا بقرار اعتباطی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 135
بعض المنافذ علی معان و دلالات متعددة. و لكن الصرامة التقشفیة للقراءة الألسنیة أجبرتنا علی ترك هذه المنافذ مباشرة بمجرد أن كنا قد فتحناها. و لهذا السبب، فإنه یتعین علینا الآن أن نعود إلی العبارة أو المنطوقة، أی إلی النصّ المعتبر هذه المرة كلّا ناجزا مكتملا.
یقول الناقد جان ستاروبنسكی واصفا النصّ بأنه عبارة عن «مادة علائقیة» تترك نفسها «تسكن من قبل القراءة. إنه- أی النصّ- یحرّض علی احتفال الرغبة؛ إنه انطلاقة صور، و عمل إجباری للفكر و الأحلام» «1».
و لكن هذا لا یعنی أننا سوف نترك «أنا» القارئ تنتقم لنفسها بعد أن كنا قد لجمناها أو حجزناها بواسطة علم الألسنیات و مصطلحاته المتقشفة الصارمة. ف «العلاقة النقدیة» «*» تظل عبارة عن تقشف صارم أیضا. إنها تأمر بالعودة النقدیة المستمرة إلی العلاقات التی یعتقد القارئ أنه قادر علی تعاطیها مع «الذاتیة المحایثة أو الملازمة للعمل الأدبی أو الفكری». و هذا یعنی أننی، هنا أیضا، لن أستطیع تقدیم أی مقترح لیست له قاعدة دقیقة فی العبارة المنطوقة (أو فی النصّ).
و لكن هناك شرطا أولیا منهجیا ینبغی أن یرفع أو یزال فی حالة الفاتحة. نقصد بذلك ما یلی: هناك طریق طویل یتمثّل فی استعادة جمیع التفاسیر أو القراءات السابقة التی أثارتها سورة الفاتحة. و هی كثیرة جدا فی التراث التفسیری الإسلامی. و الهدف من ذلك هو تحدید نقاط الخلاف و الاتفاق الكائنة بینها و بین القراءة الحدیثة (أو بالأحری إعادة القراءة).
و هناك طریق قصیر اختاره «علماء السیمیائیات و الدلالات» المعاصرون، و هو یتمثّل فی إعادة قراءة الكتابات المقدّسة من أجل البرهنة علی الصلاحیة المنهجیة و الخصوبة
______________________________
(1) انظر جان ستاروبنسكی: «اعتبارات (أو ملاحظات) حول الحالة الراهنة للنقد الأدبی»::J .Starobinski 18.p ، 74.No ،Diogene :in ، ( (litterairecritique la de present letat sur Considerations ((. أما مصطلح «العلاقة النقدیة» الذی نستخدمه هنا، فعائد أیضا إلی المؤلّف نفسه.
* العلاقة النقدیة هو عنوان كتاب للناقة السویسری الكبیر جان ستاروبنسكی::Starobinski Jean 0791،Gallimard ،Paris ،critique relation .La یقول هذا الناقد محدّدا العلاقة النقدیة التی تربط بین القارئ و العمل الأدبی: «عند ما أقرأ نصّا ما و یثیر فیّ مشاعر قویة، فإنی أشعر بالفرح و الاستمتاع الشدید. و بعد أن تمر مرحلة الاهتزاز الأوّلی، فإنّی أعود إلی النصّ لكی أعرف ما هو السبب الذی ولّد فیّ كل هذا الطرب و الاهتزاز. و عندئذ، و بدون أن ألغی مشاعری، ینبغی أن أعامل النصّ كشی‌ء من الأشیاء لكی أستطیع أن أدرسه بشكل موضوعی. عندئذ ینبغی علیّ أن أنظر إلیه فی مادّیته اللغویة البحتة. فهو مؤلّف من حروف، و كلمات، و عبارات. و ینبغی أن أدرس نسیجه اللغوی من الداخل و بشكل محایث أو لاصق به قدر الإمكان. و حتی الفاصلة و النقطة فیه لم توضع عبثا، و إنما هی تساهم فی تشكیل المعنی. فالكاتب الكبیر لا یوظّف أی كلمة أو أی حرف جر إلّا من أجل خدمة المعنی و صیاغته بطریقة جذابة، ساحرة» (الترجمة منی بتصرّف شدید، ص 16- 17).
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 136
الإبستمولوجیة لعلم الدلالات السیمیائیة (أو علم العلامات و الرموز). و نحن نختار من دون أی تردد الطریق الطویل. لما ذا؟ لأن الطریقة الوحیدة لتحاشی النزعة الاصطناعیة و الاعتباطیة للموضات العلمیة العابرة التی تمثّل إحدی السمات الصارخة لعصرنا، هی أن ننصف القدماء. من الممكن ألا یؤدی اختراق طبقات المعنی المتراكمة فوق بعضها البعض و التی تشكّل التراث التفسیری إلّا إلی العثور علی بعض القطع النادرة، تماما كما یحصل لعملیات الحفر و التنقیب الأركیولوجیة. و قد نتوصل إلی تشكّلات جدیدة إنما متبعثرة؛ تشكّلات یمكن للهواة أن یذهبوا لتأمّلها فی المتاحف السیمیائیة. و لكن من الممكن أیضا أن نكتسب معرفة مضمومة الأجزاء (أو موحّدة الأجزاء) عن الإنسان. و بالتالی یمكن أن نتوصل إلی تفكیر أكثر توازنا، و أفضل ارتكازا علی المشكلة الحیویة للمعنی الأخیر. و ذلك لأن النصوص الدینیة تتمیز عن جمیع النصوص الأخری من حیث مزعمها، إن لم یكن فی تسلیم المعنی الأخیر، فعلی الأقل تسلیم المفتاح- الوحید- الذی یوصل إلی هذا المعنی الأخیر. و إنها لحقیقة واقعة أن جمیع التراثات الدینیة قد أخذت هذا المزعم علی محمل الجدّ حتی یومنا هذا.
و لهذا السبب نقول بأن الاهتمام بالبعد التاریخی العمیق و الطویل للمسألة ینبغی أن یتمثّل لیس فی مجرد التجمیع المتراكم و المتبحّر للنصوص و الأوصاف و المعلومات، و إنما فی بذل الجهد من أجل الإجابة علی السؤالین التالیین:
1- ما هو مضمون، و وظیفة، و أهمیة المعنی الأخیر طبقا للتراث التفسیری الإسلامی؟
2- هل نستطیع نحن الیوم أن نطلق حكما حول درجة المطابقة بین المعنی الأخیر الذی یفترضه النصّ التأسیسی الأول، و بین المعنی الأخیر المتلقّی أو المتجمع فی التفسیر التقلیدی؟
هل نستطیع؟ أقصد هل نستطیع الإجابة عن السؤالین السابقین فی الحالة الراهنة للدراسات العربیة و الإسلامیة؟
من دون أن ندفع بروح التواضع العلمی إلی حد تجمید البحث أو شلّه، أو من دون أن نكتفی بالتكرار الكسول لما قاله المعلمون القدماء، لنقل بأن الإجابة عن هذین السؤالین سوف تتشكّل تدریجیا من خلال المحاولات أو الدراسات الصارمة، المخلصة و الجریئة.
و بعد اللحظة الألسنیة (أو اللغویة)، ینبغی علینا الآن أن نعبر اللحظة التاریخیة، و اللحظة الأنتربولوجیة.

اللّحظة التاریخیة:

اشارة

یلزمنا إعداد مؤلّف ضخم لكی نذكر جمیع القراءات التی أثارتها سورة الفاتحة منذ بدایات التفسیر الإسلامی و حتی الیوم. و یلزمنا أیضا عمل طویل من الجرد و الفرز، و لا
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 137
یمكن أن یقوم به شخص واحد، و إنما فریق كامل من فرق البحوث.
و لكی ندشّن هذا البحث أو التحرّی الواسع، فإننا اخترنا ذلك التفسیر الكبیر لفخر الدین الرازی «*» (ت 606 ه/ 1209 م). فهو یقدّم لنا امتیازات استراتیجیة واضحة إذا ما اعتمدناه كنقطة انطلاق. كان هذا المفكّر یتمتع بقدرة هائلة علی بلورة التولیفات أو التركیبات أو المحصّلات الجامعة. و كان أیضا یتمتع ببصیرة نادرة و نافذة. و قد جمع فی تفسیره أهم ما أنتجه الجهد التفسیری خلال القرون الهجریة الستة الأولی السابقة له. لكی نوضح للقارئ مدی ضخامة الجهد الذی بذله هذا المفسّر یكفی أن نقول بأنه خصّص للآیة الأولی من سورة الفاتحة 37 صفحة مكثّفة و كبیرة من صفحات طبعة القاهرة. أما مجمل سورة الفاتحة فقد استغرق منه 99 صفحة! ...
إنّ هذا النصّ الثانی الذی یلتقط و یجمع بین حنایاه تراثا تفسیریا غنیّا و طویلا ینبغی أن یقرأ لذاته و بذاته بصفته كلیّانیة شغّالة. و نزمع أن نقدّم عنه طبعة محقّقة مصحوبة بقراءة تهدف للإجابة عن السؤالین المطروحین سابقا. و لكننا سوف نكتفی هنا بتعداد المبادئ التی ستوجّه قراءتنا.
و الهدف من كل ذلك هو أن نقیس حجم المطابقة بین النصّ الأول (أو النص الوصیّ، النصّ المؤسّس)، و بین النصّ الثانی (نصّ التفسیر، هو هنا نصّ الرازی). و من ثم سنبحث عن مختلف الشیفرات (أو القوانین) التی تتحكّم بقراءة الرازی أو بتفسیره. و قد أتاحت لنا القراءة الأولی لنصّه أن نستكشف القوانین التالیة:

النسق اللغوی (أو الشیفرة اللغویة) «**»:

نحن نذكر هذا القانون قبل غیره لأن الرازی، و جمیع الأصولیین بشكل عام، یبتدئون مؤلّفاتهم بمقدمات لغویة مسهبة و غزیرة. و لا ریب فی أن هذه المقدمات تشكّل الجزء الأكثر صلابة، أو علی أی حال، الأكثر حضورا من مؤلّفات التفسیر و الأصول (أصول الدین، و أصول الفقه). و المقصود بالأكثر حضورا أنها لم تبطل حتی الآن علی العكس من
______________________________
* المعروف أیضا ب مفاتیح الغیب. یقول المستشرق روجیه أرنالدیز فی الموسوعة الكونیة الفرنسیة ما یلی: «إنّ تفسیر فخر الدین الرازی یبیّن لنا حجم المعارف النحویة و الفقهیة، و اللاهوتیة (الكلامیة) و الفلسفیة، و الصوفیة، و العلمیة التی حصّلها. هذا بالإضافة إلی معرفته الواسعة بالحدیث النبوی. و هذا ما یجعل من تفسیره موسوعة حقیقة تضم جمیع المعارف التی كانت متوافرة فی عصره». انظر::R .Arnaldez . 907.p ، 1997،Paris ،Civilisation et lIslam .Religion de Dictionnaire
** ترددت كثیرا فی ترجمة كلمةCode الفرنسیة. فأحیانا أقول «القانون»، و أحیانا أقول «النسق»، و أحیانا أقول «الشیفرة». و المعنی واحد فی نهایة المطاف. فی الواقع، إن الكلمة تعنی «المدونة»:
أی مجموعة قوانین. كما و تعنی «الدستور»: أی مجموعة مبادئ أو قواعد. و تعنی الشیفرة أو النظام الشیفری.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 138
مضامین هذه الكتب. و هنا بالضبط یمكننا أن نری بأم أعیننا البلورة العربیة المحضة للفكر الإسلامی. فمفهوم القانون (أو الشیفرة) یتیح لنا أن نفرز المعطیات اللغویة المختلطة غالبا بالآراء المختلفة أو المتعددة للتفسیر. نقول ذلك و نحن نعلم أن الخلط بین المستویات یصبح خطرا جدا ما إن تتدخل نظریة الإعجاز.

النسق الدینی (أو الشیفرة الدینیة):

و هو مشكّل من مجمل المبادئ اللاهوتیة، و العقائد الإیمانیة، و الطقوس و الشعائر التی تتحكّم بالفكر، و بالتالی بالخطاب، و توجهه فی وجهة معیّنة. و من المهمّ أن نمیّز هنا بین مجال التقدیس المشمول بهذا النسق، و بین المجالات التی سنتحدث عنها تحت اسم النسق الرمزی، و النسق الثقافی، و النسق التأویلی الباطنی. فالشی‌ء المهم هنا هو أن نبیّن كیف أن الدین كان یلحق بذاته (فی خطاب المفسّرین) كل محلّات المعنی و الدلالة.Topoi

النسق الرمزی (أو الشیفرة الرمزیة):

إنّ توسّع مجال الخیال أو المخیال انطلاقا من النصّ القرآنی لم یحظ حتی الآن باهتمام علماء الإسلامیات المعاصرین. فی الواقع، إنّ القرآن یحفّز علی الفكر كما یحفّز علی الخیال. و لكن للأسف، فإن عمل الخیال كان قد سفّه فی الإسلام، كما فی الیونان الكلاسیكیة، و كما فی الغرب، عن طریق العقل المعقلن. و مع ذلك فنحن نعلم أن النخبة تشاطر الجماهیر حب الذكریات الأخرویة، و المقاربات و التفسیرات الرمزیة، و الحدوسات و التنسیقات التی تنقل الروح إلی عالم من الرموز الشدیدة القوة و الكثافة. و إن تفسیر الرازی الذی یفسح المجال أولا للعقل المهیمن لدی الفلاسفة، یتیح علی الرغم من ذلك أن نتتبّع إلی حد بعید الخط الرمزی بما فیه الكفایة.

النسق الثقافی (أو الشیفرة الثقافیة):

إنّ هذا النسق غنی جدا لدی الرازی. فهو یجمع بین دفّتی كتابه خلاصة العلم العربی لكی یصل إلی المعنی بكل الوسائل الممكنة (أو المتاحة) فی زمنه. و لكنه یوجّه هذه الوسائل باتجاه یخدم مصلحة المذهب الدینی الذی ینتمی إلیه، و بالتالی یخدم سیاسة هذا المذهب «*». و بالتالی، ینبغی الكشف عن جمیع مستویات و لحظات خطابه، أی المستویات
______________________________
* فخر الدین الرازی (1149- 1209 م). ولد فی الریّ و تلقّی فیها علومه الأولی. ثم سافر فی الأمصار حتی وصل إلی الهند. و فی كل مدینة مرّ بها كان یخوض مجادلات عنیفة مع المعتزلة و مع اتباع المذاهب الفقهیة و الكلامیة الأخری. كان أشعریا مقتنعا بأشعریته، و إن كان متأثرا بعمق بفكر ابن سینا. و و قد اتخذ مواقف متوسطة بین الفلاسفة الذین یتبعون ابن سینا، و بین الغزالی الذی هاجمهم بعنف شدید. و كانت مواقفه بین كلا الطرفین بارعة جدا و تشكّل تولیفة حقیقة. یقول روجیه أرنالدیز إن فخر الدین الرازی-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 139
و اللحظات التی یتحوّل فیها النسق الثقافی إلی نسق إیدیولوجی. و لا یمكننا التوصل إلی تحدید أهمیة كل من هذین النسقین إلّا بعد أن ننتهی كلیا من قراءة النصّ.

النسق التأویلی أو الباطنی:

و هو الأهمّ. و ذلك لأنه من وجهة نظر المفسّر، فإن جمیع الإنسان السابقة تسیر باتجاهه و تتلاقی حوله لكی تتوصل إلی المعنی الأخیر للنصّ القرآنی. و أهمیة هذا النسق تكمن فی ما یلی: بالنسبة للرازی كما بالنسبة للوعی الإسلامی كله، فإن وجود المعنی الأخیر فی القرآن شی‌ء مؤكد و لا یرقی إلیه الشك. یضاف إلی ذلك، أنه من الممكن، ضمن بعض الشروط المعینة و الدقیقة، أن نعیّن أو نسمّی هذا المعنی الأخیر. و هكذا تصطدم قراءتنا الخاصة بمشكلتین أساسیتین: 1) هل نستطیع، نحن بدورنا، أن نطلق حكمنا علی المعنی الأخیر فی القرآن؟ 2) علی أی مستوی یمكن أن نموضع المعنی الأخیر المكتشف أو المحدّد من قبل الرازی، أو أی مفسّر إسلامی كلاسیكی؟ هل نموضعه علی المستوی الدینی، أم الرمزی، أم الثقافی، أم الأنطولوجی؟ بمعنی آخر: ما الذی یفرّق، ثم ما الذی لا یزال یجمع بین بحثنا عن المعنی، و بین بحث الفكر الإسلامی الموروث؟
و هكذا یری القارئ أن الأمر لا یتعلق بمجرد ترتیب للنصّ الثانی عن طریق تصنیف الأنساق أتی تتحكّم به، و إنما الهدف هو أن نشكّل تیبولوجیا للمعنی عن طریق معارضة الأصلی بالثقافی، و الرمز بالعلامة، و التربیة الفكریة بالإیدیولوجیا، و اللغة المثالیة أو المجازیة باللغة العقلانیة المركزیة المغلقة علی ذاتها.
إلیكم علی سبیل المثال أحد المقاطع الذی تتجلی فیه هذه المتضادات عن طریق الإیحاء أو التسمیة الصریحة:
«الفائدة الثانیة عشرة: الحمد للّه كلمة شریفة جلیلة لكن لا بد من ذكرها فی موضعها، و إلّا لم یحصل المقصود منها. قیل لسری السقطی: كیف یجب الإتیان بالطاعة؟ قال: أنا منذ ثلاثین سنة أستغفر اللّه عن قولی مرة واحدة الحمد للّه. فقیل: كیف ذلك؟ قال: وقع الحریق فی بغداد و احترقت الدكاكین و الدور فأخبرونی أن دكانی لم یحترق، فقلت الحمد للّه. و كان معناه أنی فرحت ببقاء دكانی حال احتراق دكاكین الناس. و كان حق الدین و المروءة ألا أفرح بذلك. فأنا فی الاستغفار منذ ثلاثین سنة عن قولی الحمد للّه. فثبت بهذا أن هذه الكلمة و إن كانت جلیلة القدر إلّا أنه یجب رعایة موضعها. ثم إن نعم اللّه علی العبد
______________________________
- هو الذی شكّل فلسفة قادرة علی طرح مشاكل الإیمان و اللاهوت الإسلامی. هذا فی حین أن الغزالی علی الرغم من أنه كان یفسح بعض المجال للفكر الفلسفی، إلّا أنه كان یشتبه به و یراقبه بشدة. كان یقف علی مفترق الطرق الذی یجمع بین التیارات الفكریة الكبری فی عصره، أی: الأشعریة الغزالیة، و المعتزلیة، و الفلسفیة التابعة السینویة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 140
كثیرة، إلّا أنها بحسب القسمة الأولی محصورة فی نوعین: نعم الدنیا، و نعم الدین. و نعم الدین أفضل من نعم الدنیا لوجوه. كثیرة. و قولنا الحمد للّه كلمة جلیلة شریفة فیجب علی العاقل إجلال هذه الكلمة من أن یذكرها فی مقابلة نعم الدنیا. بل یجب أن لا یذكرها إلّا عند الفوز بنعم الدین. ثم نعم الدین قسمان: أعمال الجوارح، و أعمال القلوب. و القسم الثانی أشرف. ثم نعم الدنیا قسمان: تارة تعتبر تلك النعم من حیث هی نعم، و تارة تعتبر من حیث إنها عطیة المنعم. و القسم الثانی أشرف. فهذه مقامات یجب اعتبارها حتی یكون ذكر قولنا الحمد للّه موافقا لموضعه لائقا لسببه» (ص 119).
من السهل أن نكتشف فی هذا المقطع بعض نقاط انطلاق أنساق المعنی و أماكنه.Topoi و سوف نترك للقارئ حریة القیام بذلك لئلا نثقل دراستنا أكثر مما یجب.
فیجب أن نلاحظ المكانة اللغویة لهذه النادرة و الدور الذی تلعبه فی إسباغ الروح علی الخطاب، و ذلك علی عكس الخطاب البرهانی الاستدلالی الذی یعتمد علی المفاهیم المنطقیة و المحاجّات العقلانیة.

اللحظة الأنتربولوجیة:

لم تنجح المقاربة الأنتربولوجیة فی فرض نفسها حتی الآن علی الأدیان التوحیدیة.
و سبب ذلك إیدیولوجی واضح جدا. فالبحث العلمی منذ قرنین من الزمن كان امتیازا محصورا بالغرب. و معلوم أن الغرب اهتمّ بالأدیان غیر المسیحیة ضمن المنظور الإثنوغرافی. و قد استطاع هذا المنظور مع نظریة العقلیة البدائیة أولا، ثم مع النظریة الفینومینولوجیة الحیادیة ظاهریا ثانیا، ثم أخیرا مع نظریة التشریح البنیویة أن یبرز تفوّق الدیانة الیهودیة- المسیحیة و خصوصیتها. و لا یزالون حتی الیوم یستخدمون علم الألسنیات، و التحلیل النفسی، و تاریخ الأدیان ... إلخ، من أجل إعادة التفكیر (أو تجدید التفكیر) فی الحقیقة المطلقة أو العلیا للعقیدة الیهودیة- المسیحیة. و یستخدمون لتحقیق هذه الغایة تبحّرا علمیا واسعا و خصوبة منهجیة ضخمة. و لا یزال الإسلام منبوذا أو مستبعدا من هذا المشروع العلمی و الفكری الكبیر. و هذا الاستبعاد هو الذی یسمح لنا بأن نستنكر أو حتی ندین التوجّه الإیدیولوجی لما یمارس فی الغرب تحت اسم العلوم الدینیة «1».
بالطبع، إننا نرید أن نستخلص الدرس من هذه الحالة لكیلا نستسلم للإغراء التالی:
أن نستعید بأی ثمن حقیقة إسلامیة علیا أو مطلقة، و ذلك بمساعدة المناهج و المسلّمات
______________________________
(1) انظر: التنبیهات و الملاحظات المرنة التی أوردها الباحث م. میسلان فی كتابه: من أجل علم جدید للأدیان، 1973،Seuil ،Paris ،religions des science nouvelle une pour :.M .Meslin و لكن المؤلّف علی الرغم من ذلك لا یحیل أبدا إلی المثال الإسلامی، أقصد لا یذكره كمثال من جملة أمثلة أخری.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 141
المستخدمة فی ما یخصّ المسیحیة أو المبلورة من أجلها. إنّ الحالة التی تعرّض لها الإسلام من قبل الفكر الیهودی- المسیحی و ذلك منذ نهایة الهیمنة السیاسیة للخلافة الإسلامیة بشكل خاص، تجبرنا علی أن نعید التفكیر بشروط تشكیل الأنتربولوجیا الدینیة «*» و كیفیة تحدید مهامها و أهدافها. و إعادة التفكیر هذه ینبغی أن تتمّ علی أسس أكثر علمیة، أو إذا شئنا، علی أسس أقلّ ما تكون إیدیولوجیة.
و علیه، سوف نطرح مثلا السؤال التالی: فی ما وراء الخصوصیات الدوغمائیة، و الشعائریة، و الثقافیة، و اللغویة ... إلخ. هل یحتوی نصّنا، و بشكل عام النصّ الكامل الذی یشكّل جزءا منه، علی مرجعیات بدئیة أو أصلیة بشكل كامل؟ و إذا كان الجواب نعم، فكیف یعبّر هذا الأصل البدئی عن نفسه؟ ما هی روابطه و علاقاته، أو ما هی فراداته بالقیاس إلی الأصل البدئی المعبّر عنه فی النصوص الدینیة الكبری الأخری (و أضیف: فی النصوص الشعریة)؟
إن الفاتحة تقدّم لنا الفرصة السانحة لكی نطرح مثل هذا السؤال، و لكن لا تقدّم لنا المادة الكافیة للإجابة علیه. بالأصل البدئی نحن نقصد الذری القصوی للوجود البشری مثل: الحیاة، و الموت، و الزمن، و الحب، و القیمة، و الامتلاك، و السلطة، و المقدس، و العنف. و هذه الذری تتداخل فی ما بینها، و تحیلنا كلها إلی مسألة الكینونة أو الوجود.
و فیها یتولّد المعنی، و یتشكّل، و ینبنی، و ینهدم، و یستحیل أو یتبدل، و یتقلّص، و یتسع، و تتجمع أوصاله المتبعثرة أو یتوحد ... إلخ. إن تحوّلات المعنی هذه تشكّل العدید من المعانی أو كما مماثلا من المعانی. و لا یمكن التوصل إلی الأصلی البدئی إلّا عن طریق الإیحاء، إیحاء اللغة الرمزیة. و لا یمكن التعبیر عنه مرة واحدة و إلی الأبد عن طریق اللغة الحرفیة و المنطقیة.
أن نقول الیوم بأن اللغة القرآنیة رمزیة أكثر مما هی حرفیة أو منطقیة، فهذا لا یعنی إنكار أو جحود كل التفسیر التقلیدی الموروث (و بخاصة السنّی). و من المعلوم أن هذا التفسیر استمات فی البحث عن التحدیدات الواقعیة المقصودة بلغة القرآن. و كذلك استنفد جهده فی إیجاد البراهین الدقیقة التی تبرهن علی صحة كل ما ورد فی القرآن. و أن نقول هذا الكلام لا یعنی أننا نتحمّل مسئولیة جمیع التركیبات المجازیة أو الرمزیة، و تلك الأحلام
______________________________
* یقصد أركون بالأنتربولوجیا الدینیة دراسة جمیع التراثات الدینیة بنفس الطریقة و تطبیق نفس المنهجیة علیها. بمعنی آخر: ینبغی أن نطبّق المنهجیة الحدیثة لیس فقط علی التراث الیهودی- المسیحی و إنما أیضا علی التراث الإسلامی لكی نعرف مدی صلاحیة هذه المنهجیة أو عدم صلاحیتها. فتطبیق المنهجیة الحدیثة علی تراث آخر غیر التراث الأوروبی یعطیها فرصة إضافیة لامتحان نفسها بشكل أكثر و معرفة مدی فعالیتها أو عدم فعالیتها، بل و ینبغی تطبیق المنهجیة ذاتها علی جمیع التراثات الدینیة الأخری غیر التوحیدیة. و عندئذ نفهم الإنسان بشكل أفضل من خلال دراسة كیفیة تعلّقة بظاهرة التقدیس.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 142
الجامحة و الهواجس الفضفاضة للمفسّرین الصوفیین و الباطنیین. و إنما یعنی ذلك بكل بساطة الاعتراف بإحدی الوظائف الأساسیة للّغة. و هذه الوظیفة كانت قد طمست أو عطّلت طیلة قرون عدیدة من قبل الممارسة العقلانیة المركزیة المغلقة علی ذاتها. و هذه الممارسة حبّذت انتشار الخیالات الشعبیة فی الوقت الذی احتقرتها و سفّهتها.
إنّ التفسیر الرمزی للغة الدینیة یتیح لنا أن نكتشف إحدی السمات الخصوصیة أو الخاصة بالفكر الأسطوری (أو المجازی الخیالی). فاللغة الدینیة بالنسبة لهذا الفكر هی عبارة عن قوة تحقیقیة أو تنفیذیة. كان التحلیل الألسنی السابق قد قادنا للتحدث عن لغة أدائیة أو تحقیقیة، بمعنی أنّی أحقّق ما أقول، و قولی یؤدّی إلی التحقیق الفعلی لوجودی. لا أستطیع أن أتخلّص من رمزانیة الخیر و الشرّ المعبّر عنها فی الكلمات التالیة: إیّاك نعبد ...
صراط مستقیم، أنعمت/ مغضوب علیهم، ضالّین. و لا أستطیع أن أتخلّص من مسألة الكینونة المدشّنة من قبل كلمات من قبیل: اللّه، رب العالمین. و لا أستطیع أن أتخلّص (أو أن أنجو) من ذروتی الزمن و الموت المثارتین ضمنیا و كأنهما عبور أو ممر. لا أستطیع أن أتجاهل كل ذلك إلّا إذا حصرت نفسی بقراءة فیلولوجیة للفاتحة. الفیلولوجیا تتفنّن فی معاملة كل كلمة و كأنها علامة خطّیة أو مكتوبة، و تعتقد بإمكانیة تثبیت معناها عن طریق الإیتیمولوجیا (علم أصول الكلمات)، و عن طریق المعطیات التاریخیة و الاجتماعیة و الثقافیة.
و هكذا تقول لنا الفیلولوجیا مثلا بأن كلمة اللّه لیست إلّا تفریدا أو تمییزا عن طریق كلمة إله. و هكذا تعامل بالطریقة نفسها كل الصفات المذكورة فی القرآن لكی نعارض المفهوم القرآنی «اللّه» بالآلهة التی كانت سائدة قبل الإسلام.
إذا ما اقتصرنا علی نص الفاتحة، فإنه لمن السهل أن نلحظ بأن أیا من هذه الكلمات لیس مرتبطا بعائد محدد أو معروف بدقة. علی العكس، فإن كل واحدة منها تحیلنا إلی ذروة أو عدّة ذری مذكورة آنفا. كان القدماء قد لاحظوا تماما هذا الانفتاح الذی تتمتع به هذه الكلمات و التعابیر علی الذری الواسعة جدا، و ذلك عند ما أشاروا قائلین:
- الحمد للّه ... الرحیم: هذا التعبیر یحیلنا إلی علم الأصول الأنطولوجیة «*» و المنهجیة للمعرفة (یدعی علم الأصول فی اللغة الإسلامیة الكلاسیكیة).
- مالك یوم الدین: یحیلنا إلی علم الأخرویات (أی مجموع العقائد المتعلّقة بالعالم الآخر كالبعث و الحساب).
______________________________
* الأنطولوجیا:ontologie كلمة تعنی علم الكینونة أو الوجود. و لكنها تعنی أیضا المبادئ الأولی و التأسیسیة التی لا مبادئ بعدها، أو قبلها. و القرآن بالنسبة للوعی الإسلامی هو وحده الذی یحتوی علی هذه المبادئ الأولیة. و لذا فإن علم أصول الدین و علم أصول الفقه تشكّلا من خلال استخراج الأحكام منه و بالاعتماد علیه. و بالتالی فنظریة المعرفة فی الإسلام هی قرآنیة أساسا.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 143
- إیّاك نعبد: یحیلنا إلی الطقوس و الشعائر.
- اهدنا الصراط المستقیم: یحیلنا إلی علم الأخلاق.
- الذین أنعمت علیهم: یحیلنا إلی علم النبوّة.
- غیر المغضوب علیهم: یحیلنا إلی التاریخ الروحی للبشریة: موضوعات رمزانیة الشرّ المعالجة فی القصص المتعلقة بالشعوب أو الأقوام القدیمة (و هی الشعوب التی عصت أنبیاءها فعاقبها اللّه علی ذلك).
و هكذا نری كیف أن كلیّة المعرفة الإسلامیة متمركزة أو متكثفة فی بعض التعابیر البسیطة. و لكن ربما قال بعضهم: لقد أسقط المفسّرون القدامی علی نصّ الفاتحة، و بعد فوات الأوان، معرفة معیّنة و ممارسة معرفیة كانتا قد رسّختا من قبل أجیال عدیدة متلاحقة.
و لكن هذا «الاعتراض» لا یفعل إلّا أن یقوّی البعد الأنتربولوجی الذی نرید الإشارة إلیه أو التركیز علیه «*». فالواقع أن مفردات الفاتحة و بناها النحویة عامة جدا، و منفتحة جدا علی كافة ممكنات المعنی، إلی درجة أنهما تمارسان دورهما كحقل رمزی تنبثق منه و تسقط علیه مختلف أنواع التحدیدات و المعانی. و لكن لا توجد أی معرفة و لا أی نظام معرفی یمكنه أن یستنفد معناها أو أن یثبّته نهائیا. و هكذا نجد أننا حتی الیوم یمكننا أن نسجّل فی مواجهة كل علم من العلوم المشكّلة من قبل المسلمین برامج بحوث متعددة الاختصاصات و العلوم. و هذا یعنی أننا إذا ما أعدنا قراءة نص الفاتحة أو جدّدناه كما فعلنا آنفا، فإن ذلك یجبرنا علی إعادة العلاقة مع الأسئلة الأصلیة أو البدئیة. و سوف نعیدها فی ما وراء (أو فی ما فوق) التعالیم التی كان التراث الإسلامی عبر القرون قد اعتقد بضرورة فرضها بصفتها تحدیدات أرثوذكسیة و مقدّسة للحقیقة الموحی بها.
لننظر، علی سبیل المثال، إلی ذلك التعارض الكائن بین الذین أنعمت علیهم/ غیر المغضوب علیهم ... كان التفسیر التقلیدی قد اعتمد علی المقولات اللاهوتیة و المیتافیزیقیة و الأخلاقیة و النفسانیة و المنطقیة لكی یشكّل نمطین متضادین من أنماط الإنسان أو الإنسانیة. أما النمط الأول فیخصّ الإنسان الكامل (كالنبی، أو الحكیم، أو الإمام، أو الأولیاء الصالحین). و هذا النمط یتمتع بفضل اللّه و عنایته. و أما النمط الثانی فیخصّ الإنسان المكرّس للشرّ، و الضلال، و الذی هو عرضة للغضب و اللعنة الإلهیة.
و كلما استسلم التفسیر الموروث للمقولات و القوالب الثنویة، و الأفلاطونیة المحدثة،
______________________________
* المقصود بالبعد الأنتربولوجی البعد الإنسانی العام، أی الذی ینطبق علی الإنسان فی كل الأزمنة و فی مختلف المجتمعات الإنسانیة. فمسألة الحیاة، و الموت، و ما بعد الموت، كلها أشیاء تخصّ البشر أو تؤرقهم فی أی مجتمع وجدوا، و فی أی عصر عاشوا. بالطبع، إنهم یقدمون أجوبة مختلفة علی هذه التساؤلات بحسب الثقافة المتوافرة فی المجتمع، و بحسب التراث الدینی السائد. و لكن الأسئلة تظل هی هی لأنها أسئلة كونیة، أی أنتربولوجیة خاصة بالإنسان فی كل زمان و مكان.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 144
و الأرسطوطالیسیة، كلما حوّل إلی تناقض صلب أو متصلّب، و إلی معانی مرتكزة علی براهین، ما كان قد ظهر فی القرآن علی هیئة مجموعة من الملامح، و الإثارات، و القصص، و المقاربات، و التوترات، و المتضادات، و النداءات، و التذكیرات ... إلخ. و القرآن یهدف عن طریق هذه الأشیاء إلی تأجیج الإحساس بالخطیئة و الذنب، و لكن لیس إلی تحدید هذا الإحساس أو تثبیته.
و هكذا نجد أنه من المغری أن نجد فی التضاد المذكور سابقا بین الذین أنعمت علیهم/ و المغضوب علیهم تمییزا حاصلا منذ الأزل و لا حیلة لنا فیه. و أقصد بذلك قضاء اللّه و قدره الذی یقدّر جزءا من البشر للخیر، و جزءا آخر للشرّ. و لكن الصلاة المرفوعة إلی اللّه أو الابتهال لن یكون له أی معنی إذا لم یكن هناك أمل للمبتهل فی أن یكون من عداد الأخیار، أو خوف من أن یرمی مع الملعونین و الأشرار. و عن هذا التوتر الكائن بین الأمل و الخوف یتولّد الإحساس بالذنب، و عن طریقة یتبلور أكثر فأكثر. و بالتالی، فإن القائل (أو المتكلم) محال إلی شرطه الخاص ككائن منخرط فی وجود مصنوع من الخیر و الشرّ. و هو یعی بأن النهایة غیر مؤكّدة أو غیر مضمونة، و أنها تعتمد علی هیبة علیا تحكم، فإما أن ترضی علی الشخص أو تدینه بشكل لا مرجوع عنه.
إذا كان هذا هو معنی النصّ الذی یهمنا هنا، أو إذا كانت هذه هی أبعاده، فإنه ینفتح أمامنا خطان طویلان من البحث:
1- إنّ اللغة القرآنیة التی توصلت بسرعة إلی مستوی عال من التعبیر الرمزی، تتیح لنا أن نسهم فی بلورة نظریة للّغة الرمزیة بالعلاقة مع سیاق الفكر المثالی أو المجازی الذی ظهرت فیه، و مع سیاق الفكر العلمی الحالی الذی یعید الآن اكتشاف اللّغة الرمزیة.
2- لما ذا، و كیف حوّر المفسّرون التقلیدیون، بمجملهم، هذه اللّغة الرمزیة؟ فإما أنهم حطّوا من قدرها و أنزلوها إلی مستوی خطاب النسق المقنّن و وظائفه، و إما أنهم حوّلوها إلی خطاب غنوصی أو باطنی.
نأمل أن نجیب لاحقا عن هذین السؤالین عن طریق تعمیق الإشكالیة و المنهجیة النقدیة اللتین وظّفناهما فی هذه الدراسة الأولی، و عن طریق توسیعهما من دون توقف أیضا.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 145

- 4- قراءة سورة الكهف‌

اشارة

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَیْنَكَ وَ بَیْنَ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [سورة الإسراء، الآیة 45].
وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة الأعراف، الآیة 204].
«اللغة هی أولا تصنیف أو تقسیم إلی أنواع و أصناف. إنها خلق للأشیاء و للعلاقات بین الأشیاء»de Problemes :E .Benveniste
. 83.p ،I tome ،generale linguistique
«إنّ الفعالیة العلمیة لیست عبارة عن تجمیع أعمی- أو تراكم أعمی- للحقائق. فالعلم، فی جوهره، انتقائی و یبحث عن الحقائق الأكثر أهمیة إمّا بسبب قیمتها الذاتیة الأزلیة، و إما بسبب أنها تشكّل أدوات لمواجهة العالم»de Methodes :O .Quine W .Van
. 11.p ،logique
إنّ هذه الاستشهادات الأربعة تحدّد بكل دقة معنی دراستنا، و كذلك المبادئ الإستمولوجیة الضروریة لإنجازها. فالآیة الأولی تتحدث عن «حجاب مستور»- و بالتالی عن فصل- بین النبی الذی یتلو التبشیر (أو الكلام الموحی) و أولئك الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. أما الآیة الثانیة فتعلّمنا أن القرآن متلو تلاوة (و لیس قراءة صامتة)، و أنه ینبغی أن «نستمع له و ننصت» بكل اهتمام و صمت.
إنّ الأبعاد الدینیة لهذه التوضیحات لا تهمّنا هنا. و إنما یهمّنا أن نلفت الانتباه منذ البدایة إلی العملیات الاعتباطیة الناتجة عن كل قرار یتّخذ بقراءة عادیة لعبارة لغویة تقدّم نفسها صراحة بصفتها كلاما موجّها لكی تصغی إلیه جماعة متجمعة فی ظروف خارجیة معیّنة و استعدادات داخلیة محدّدة بكل دقة.
و لكن سواء أ كان الأمر یتعلق بقراءة كلام شفهی أم نصّ مكتوب، فإنه یتوجب علینا، فی كل الحالات، أن نتلقّی لغة ما، أی أن نفك رموز «تصنیف ما، و خلق للأشیاء
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 146
و للعلاقات بین الأشیاء» كما یقول عالم الألسنیات الحدیثة إمیل بنقینیست. و هذا هو الشی‌ء الذی ما انفك التفسیر الإسلامی یفعله منذ أن كانت الدعوة التبشیریة قد أودعت أو ثبّتت كتابة فی نص قانونی أو رسمی یدعی «المصحف». و لكن الفعالیة التفسیریة الإسلامیة ظلّت منغلقة داخل الفضاء الإبستمولوجی القروسطی حتی فی فترتها الأكثر إنتاجا و إبداعیة (أی بین القرنین الثانی و السادس للهجرة/ الثامن- الثانی عشر للمیلاد). بل و حتی فی الفترة المعاصرة، فإن التفسیر الإسلامی یظلّ محكوما تماما بالأسبقیة اللاهوتیة (أو المسلّمة اللاهوتیة) التی تقول بأن القرآن غیر مخلوق.
یضاف إلی ذلك، أنه سواء أ كان الأمر یتعلّق بالماضی أم بالحاضر، فإن هذه المسلّمة اللاهوتیة المسبقة تنطوی أیضا علی بعد سیاسی ملزم. فالواقع أن الطبقات السیاسیة القائدة كانت دائما تبحث فی الهیبة المتعالیة للقرآن عن مشروعیة لا یؤمّنها مبدأ السلالة المالكة، و لا الانتخابات الشعبیة المتلاعب بها و بنتائجها أكثر من اللزوم.
هذا یعنی أن القیام بقراءة جدیدة للقرآن الیوم لا یمكن أن یكون تمرینا ذهنیا مهتما فقط بالتركیبات الشكلانیة أو «بتجمیع الحقائق و تراكمها»، و إنما ینبغی أن یكون توضیحا لحالة ثقافیة تهیمن علیها الإیدیولوجیات المسیّسة و الحامیة فی شتی أنحاء العالم الإسلامی.
سوف نحاول فی هذه الدراسة تحقیق هدف مزدوج بشكل متزامن: فمن جهة نرید تحقیق هدف نظری عن طریق الإسهام فی تشكیل تیبولوجیا للخطاب الدینی. و نرید من جهة ثانیة تحقیق هدف عملی عن طریق تولید أدوات جدیدة و فعّالة لخدمة الفكر الإسلامی المعاصر.
و هی علی كل حال أكثر فعالیة من تلك الأدوات القدیمة التی لا یزال یعتقد أنه یتعیّن علیه أن یبحث عنها فی تراثه الكلاسیكی.
سوف نبتدئ باستكشاف و تجمیع الخصائص الأزلیة الملازمة أو الملاصقة للنصّ.
و من خلال ذلك یمكننا أن نفرز و نموضع بشكل أفضل منهجیة التفسیر التقلیدی و معطیاته.
و بعد أن نكتشف نواقص هذا التفسیر، نأمل بإمكانیة فتح الطریق أمام القراءة التعدّدیة التی سنقترحها علی القرّاء.

النصّ‌

نحن نعلم أنه نادرا ما تشكّل السور القرآنیة وحدات نصّیة منسجمة. و إنما تتشكّل، فی الغالب، من نوع من التجاوز بین الآیات التی قد تختلف قلیلا أو كثیرا فی تواریخها، أو من حیث ظروف الخطاب الذی لفظت فیه لأول مرة، أو من حیث مضامینها، أو صیاغاتها التعبیریة. لكن هذا لا ینفی إمكانیة العثور علی فكرة مركزیة حتی فی «وحدة نصّیة» طویلة جدا كسورة البقرة (و هی السورة الثانیة بحسب الترتیب الوارد فی القرآن و لكن لیس بحسب
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 147
الترتیب التاریخی). ثم تتعقّد الحالة عند ما تحصل زحزحات لبعض الآیات عن مواقعها، أو عند ما یجری دمجها فی وحدة سردیة أو قصصیة أخری كما هی الحال فی ما یخصّ السورة التی سندرسها «*» إن أول تفحّص لسورة الكهف یتیح لنا أن نكشف فیها عن العناصر التكوینیة التالیة:
1- تستهلّ السورة بوحدة نصّیة مؤلفة من 8 آیات، و لكن لا یمكن اعتبارها بمثابة «مقدمة» «1». لما ذا؟ لأنها تتحدث عن بواعث مختلفة لطالما تكررت فی القرآن فی مواضع أخری متعدّدة. و علی هذا الصعید، فإنها تقوی وحدة النص الكلّی للقرآن أكثر مما تتمفصل مع النصّ الجزئی الذی هو سورتنا. و أما من ناحیة التسلسل الزمنی، فنلاحظ أن هذه الآیات تنتمی إلی الفترة المدنیة، هذا فی حین أن مجمل السورة ملحق بنهایة الفترة المكّیة «2» (ما
______________________________
* كلام أركون هذا یلخّص ضمنیا بعض النتائج التی توصلت إلیها المدرسة الاستشراقیة الألمانیة، أی مدرسة العالم نولدكه و جماعته. و قد حاولت هذه المدرسة ترتیب سور القرآن بشكل تاریخی متسلسل، لأن القرآن لیس مرتبا بشكل تاریخی كما هو معلوم. و اكتشفت هذه المدرسة عدة مراحل مكّیة متسلسلة، و عدة مراحل مدنیة متسلسلة أیضا. و اكتشفت بعدئذ أن بعض الآیات قد دمجت فی سور لا تنتمی إلیها فی الواقع، كما هی الحال فی ما یخصّ سورة الكهف التی یتصدی أركون لدراستها هنا. إن كل هذه الإضاءات للنص القرآنی قدمتها لنا المنهجیة الفیلولوجیة و التاریخیة الألمانیة المشهورة بدقتها و صرامتها.
(1) ریجیس بلاشیر یتحدث غالبا عن المقدمة و الخاتمة. و هذا یعنی إسقاط المعاییر البلاغیة الأرسطوطالیسیة علی خطاب لا یزال یتطلّب أن تحدّد بلاغیّته (المقصود الخطاب القرآنی).
فالخطاب القرآنی لیس خطابا منطقیا أو فلسفیا لكی تطبّق علیه المعاییر البلاغیة الأرسطوطالیسیة. و إنما ینبغی أن ندرسه من خلال معاییر بلاغیة أخری تستنبط منه.
إن نصّ السورة طویل جدا، و لا یمكن أن نستشهد به كلیا هنا. و لكن ینبغی علی القارئ أن یطلع علیه قبل كل شی‌ء لكی یستطیع متابعة دراستنا هذه. و یفضّل أن یطلع علیه فی نصه الأصلی، أی العربی. أما بالنسبة لأولئك الذین یجهلون العربیة، فنحیلهم إلی ترجمة بلاشیر، الجزء الأول، ص 327 و ما تلاها. و یجد القارئ هناك ملحوظات مفیدة عن التسلسل الزمنی للسور القرآنیة، أی عن الترتیب التاریخی لهذه السور.
فبلاشیر هو الذی نقل إلی الفرنسیة النتائج التی توصلت إلیها مدرسة العالم الألمانی نولدكه بهذا الخصوص.
(2) فی ما یخصّ مسألة التسلسل الزمنی أو التاریخی للسور القرآنیة، انظر كتاب ریجیس بلاشیر: مقدمة للقرآن: 1959،.ed e 2،Paris ،Coran au .Introduction ثم انظر كتابه: الترجمة طبقا لمحاولة إعادة ترتیب السور، الجزآن الأول و الثانی:t .I ،Sourates des reclassement de essai un selon Traduction . 9491،Paris ،II et ثم صدر بعدئذ كتابان جدیدان یستعیدان مناقشة هذه المسائل القرآنیة و یضیفان إلیها معلومات جدیدة، و هما: كتاب الباحث المستشرق ج. وانسبرو بعنوان: الدراسات القرآنیة- مصادر و مناهج تأویل الكتابات المقدسة:Interpretation Scriptural of Methods and Studies .Sources Quranic :J .Wansbrough 7991،Press University Oxford ؛ أما الكتاب الثانی فهو للباحث ج. بورتون بعنوان: جمع القرآن:
. 1997،Press University Cambridge ،Quran the of Collection The :J .Burton
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 148
عدا الآیات من 26 إلی 31، و من 83 إلی 101).
2- نلاحظ أن الآیات من 9 إلی 25 تشكّل الوحدة السردیة الأولی. و هی الحكایة الشهیرة للسبعة النائمین و المدعوة هنا باسم «أهل الكهف».
نلاحظ أن أداة الانفصال «أم» «*» توحی بوجود علاقة مع الجزء السابق من البدیل التناوبی المعدوم فی الواقع. و كان مترجمو القرآن إلی اللغات الأجنبیة قد أهملوا عموما أداة الانفصال هذه و لم یأخذوها بعین الاعتبار. أمّا المفسّر فخر الدین الرازی فیقترح وجود تمفصل مع الآیة السابقة، و لكنه یبدو غیر واثق تماما فیضیف قائلا: و اللّه أعلم ...
و كما نقل إلینا، یبدو إن نصّ الحكایة هذه قد تعرّض لتحویرات أو لتغییرات، كان ریجیس بلاشیر قد كشف بوضوح بواسطة التنضید الطباعی عن نسختین متوازیتین للآیات من 9 إلی 16. یضاف إلی ذلك أن الآیة 25 تجد مكانتها بالأحری بعد الآیة 11 لو لا أنها تنتهی بالقافیة «عا»، هذا فی حین أن مجمل الحكایة تشتمل علی آیات مقفّاة ب «دا». و قد كشفوا فی هذه الآیة ذاتها عن شذوذ لغوی هو كلمة «سنین» الواردة بعد عبارة «ثلاث مائة» بدلا من سنة (و لبثوا فی الكهف ثلاث مائة سنین و ازدادوا تسعا). و هذا ما یجعلنا «نفترض العدید من الفرضیات حول شروط أو ظروف تثبیت النصّ» كما یقول بلاشیر «**».
3- إنّ الآیات من 27 إلی 59 لم تلحق بالحكایة السابقة و لا بالحكایة اللاحقة (من 60 إلی 98) إلّا عن طریق علامات القول أو التعبیر المشتركة علی مدار الخطاب القرآنی (انظر فیما بعد). أما الآیات من 1 إلی 8، فإنها تستعید أو تكرر الموضوعات المشتركة للتبشیر الموجّه تارة إلی النبی شخصیا، و تارة أخری إلی البشر من مؤمنین/ و كفّار، و ذلك
______________________________
* لكی نفهم كلام أركون هذا ینبغی أن تكون أمام أعیننا سورة الكهف أو علی الأقل الآیات الأولی منها.
فالواقع أن الآیات الأولی من السورة تتطرق إلی موضوعات لا علاقة لها بقصة أهل الكهف. و إنما هی موضوعات عامة نجدها مبثوثة علی مدار القرآن كله. فهی تبتدئ بحمد اللّه و شكره لأنه أنزل علی عبده (محمد) الكتاب. و هذا الكتاب ینذر الجاحدین بالبأس الشدید و یبشّر المؤمنین الذین یعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا. ثم ینذر الذین یدعون بأن اللّه ولدا. و یتهمهم بالجهل هم و آباءهم، كما و یتهمهم بالكذب. ثم یوجّه الكلام إلی محمد قائلا: فلعلك حزین و تلوم نفسك لأنهم لم یؤمنوا بما نقلته إلیهم.
و لا ینبغی أن تحزن أبدا. ثم یضیف هاتین الآیتین قبل أن ینتقل فجأة إلی صلب الموضوع: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَی الْأَرْضِ زِینَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَیُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَیْها صَعِیداً جُرُزاً ثم یقول: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِیمِ كانُوا مِنْ آیاتِنا عَجَباً ... فإلی أی شی‌ء تشیر «أم» هذه؟ هی عادة تشیر إلی التناوب- أو التفضیل- بین شیئین. و لكن لا یوجد هنا إلّا شی‌ء واحد. لا یوجد بدیل تناوبی.
فما معنی هذه ال «أم» إذن؟ أ لا یعنی ذلك أن الآیات الأولی مقحمة علی السورة و لا علاقة لها بها كما تقول نظریة نولدكه؟ فما لحق من آیات لا علاقة له بما سبق.
** المقصود جمع النص فی المصحف أیام عثمان. فالنقد الفیلولوجی یكشف عن أشیاء مذهلة، و یطرح تساؤلات عدیدة، و لكن من دون أن یستطیع القطع بأی شی‌ء.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 149
عن طریق النبی «*». و فی مجموعة الآیات المعینة نكتشف نواة مؤلّفة من 13 آیة (الآیات 32- 44). و هی آیات تتحدث عن قصة ذلك الرجل الذی له جنّتان من أعناب. و عزّزت القصة بصورة الحیاة الدنیا السریعة الزوال كزوال المطر النازل من السماء (الآیتان 45- 46).
4- ثم نعود لكی نلتقی من جدید بالخطاب السردی أو القصصی فی الآیات من 60 إلی 98. و هنا توجد حكایتان تستمدّان عناصرهما من مصدر مشترك هو: قصة الإسكندر المقدونی. و تعبّر عنهما الآیة 83 و ما بعدها حیث تقول: وَ یَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِی الْقَرْنَیْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَیْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. و هذه الوحدة السردیة الطویلة نسبیا مستقلة عن بقیة النصّ (أو بقیة السورة). وحده السجع المنتهی بحرف «ا» و بعض علامات التعبیر تصلها به.
5- ثم تنتهی السورة بالآیات 99- 110 التی تعیدنا إلی ما سندعوه بالخطاب التبشیری «**».
إذا ما وصفنا كل ما سبق بأنه عبارة عن مجرد تجاوز بین عبارات لغویة و معنویة متبعثرة، فإن ذلك یعنی أننا نؤكّد ضمنیا علی أولویة المعاییر البلاغیة و المنطقیة. و هی معاییر خاصة بتراث الكتابة المتفرّع عن أرسطو، و كانت معروفة جیدا من قبل العرب المسلمین.
و قد هیمنت هذه المعاییر علی كل تألیف أو تركیبة نصوصیة. و لكننا سنحرص علی عدم تأبید هذا الحكم المسبق. و سنحاول بالأحری أن نسدّ نواقص التحلیل الفیلولوجی (أی اللغوی- التاریخی) علی الطریقة الوضعیة للقرن التاسع عشر. نقول ذلك علی الرغم من أنه كانت لهذا التحلیل الفیلولوجی میزة فتح حقل كامل من حقول البحث و التحرّی. و هو حقل كان مرفوضا أو مجهولا من قبل روح الأرثوذكسیة.
سوف نركّز علی المعطیات الخصوصیة للخطاب القرآنی من أجل طرح مسائل مطموسة من قبل المنهجیات الألسنیة و السیمیائیة التی ظهرت حدیثا. فقبل أن نطبّق هذه المنهجیات الحدیثة علی مقاطع مختارة من الآیات أو النصوص لكی نشغّل الآلیّة التحلیلیة و الجهاز المفهومی لهذه المدرسة الألسنیة أو تلك، فإنه ینبغی علینا أن نفكر بالرهانات
______________________________
* نلاحظ أن أركون یفرز سورة الكهف إلی عدّة أجزاء متماسكة، و كل جزء یتحدّث عن موضوع معیّن و تربطه بالتالی وحدة معنویة. فالآیات الثمانی الأولی تعتبر مقدمة عامة، و لكن لا علاقة لها بقصة أهل الكهف. و الآیات التی تلتها (من 9 إلی 26) هی التی تتحدث فعلا عن الموضوع المركزی للسورة، أی قصة أهل الكهف. ثم تجی‌ء مجموعة آیات (من 27 إلی 59) لا علاقة لها بالقصة. و هی تعود للتحدث عن موضوعات عامة لا یملّ القرآن من تكرارها. و هی موضوعات عبادیة، و وعظیة، ملیئة بالوعد للمؤمنین، و الوعید للكافرین وَ اتْلُ ما أُوحِیَ إِلَیْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ... إلخ [سورة الكهف، الآیة 27].
** أی الخطاب الذی یبشّر بالدعوة و یتحدّث عن نفس الموضوعات باستمرار: المؤمنون، الكافرون، الجنة، النار ... إلخ.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 150
المعرفیة المرتبطة بالقرارات العدیدة التی تنطوی علیها قراءة خطاب غیر واضح المكانة.
و لكی نحضّر القارئ لاستقبال مثل هذا التفكیر، فإنه من الضروری أن نقیّم أولا مجریات التفسیر التقلیدی و معطیاته. ما الذی ینبغی أن نحتفظ منه؟ و ما الذی ینبغی إهماله و تركه باعتبار أنه ینتمی إلی ممارسة ثقافیة عفا علیها الزمن؟

التفسیر الإسلامی التقلیدی‌

هناك ثلاثة اتجاهات فی ما یخصّ تفسیر سورة الكهف. هناك أولا التفسیر النحوی و التاریخی- الأسطوری الذی اتبعه المفسّرون القدماء؛ و هناك ثانیا «التفسیر التحلیلی و السكونی للاستشراق» علی حد تعبیر لویس ماسینیون؛ و هناك ثالثا التوسّع الرمزی للموضوعات الروحیة و النموذجیة المثالیة للسورة فی المخیال الجماعی و بخاصة فی الأوساط الشیعیة و الصوفیة.
سوف نتوقف هنا عند الاتجاه الأول فی التفسیر، و هو الاتجاه الذی تلقّی و جمع حكایات التراث الأكثر قدما. كما أنه هو الذی ثبّت الإطار، و المجریات، و الإیضاحات الأساسیة لكل الفعالیة التفسیریة حتی یومنا هذا. هكذا نجد أن التبحّر الأكادیمی، الاستشراقی و عمل المخیال الجماعی قد بقیا معتمدین علی المعطیات المجموعة من قبل المفسّرین الكبار. لنوضح هنا قائلین بأن الأمر لا یتعلّق فقط بالتبعیة قیاسا إلی الوثائق المقدّمة لنا من قبل المصادر القدیمة التی نصّبت غالبا عن خطأ- كما سنری فیما بعد- بصفتها مصادر الدرجة الأولی «*». فی الواقع إن الاتجاهات التفسیریة الثلاثة یمكن نعتها بالكلاسیكیة ضمن مقیاس أنها نجحت فی فرض نماذجها المعرفیة حتی الآن، و ضمن مقیاس أن هذه النماذج القسریة أو الإلزامیة تنتمی إما إلی الموضوعاتیة التاریخیة- المتعالیة للمعرفة داخل الحدود المعترف بها من قبل جمیع «أهل الكتاب» كما یقول القرآن «1»، و إما إلی المنهجیة التاریخویة و الفیلولوجیة التی تهیمن علیها المسلّمات الوضعیة قلیلا أو كثیرا.
______________________________
* نحن لا نستطیع أن نصل إلی مصادر الدرجة الأولی فی ما یخصّ التراث الإسلامی. لما ذا؟ لأنه علی عكس ما یتوهم جمهور المسلمین، فإن التراث الإسلامی لم یثبّت كتابة (أو لم یدوّن) قبل منتصف القرن الثانی للهجرة. بمعنی أن المسلمین ابتدءوا یدونون التراث بدءا من عام 150 ه فقط. أما الكتابات التی وجدت قبل هذا التاریخ فقد ضاعت أو اندثرت و لم تصلنا إلّا عبر التجمیعات اللاحقة. و الكتاب الوحید الذی وصلنا عن تلك الفترة هو القرآن. لذلك فلا نستطیع أن نقارنه بأی نص معاصر له ... فالقرآن هو النص الوحید الموثوق.
(1) إننا نستعید هذا المصطلح الناجح (أهل الكتاب) لیس بمعناه اللاهوتی الذی لم یعترف به قط یوما ما لا الیهود و لا المسیحیون، و إنما بصفته مفهوما اجتماعیا- ثقافیا.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 151
إنّ تدخلنا الشخصی فی العملیة التفسیریة یختلف عن التیارات الثلاثة المذكورة من حیث إنه یرید تحقیق هدف مزدوج. فنحن أولا نرید أن نشتغل كمؤرخین محترفین من أجل بلورة تاریخ شمولی أو كلیّاتی للمجتمعات المتولّدة تحت الضغط المباشر قلیلا أو كثیرا للمعاییر التوجیهیة للخطاب القرآنی «1». و نقصد بالتاریخ الشمولی هنا التاریخ العمیق للنظام الفكری (الإبستمیة) و التاریخ السطحی للأعمال و المؤلّفات. ثم نهدف من جهة ثانیة إلی إخضاع نتائج «أنتربولوجیا الماضی» «2» هذه إلی الفكر الفلسفی النقدی الذی یتأمل فی المشاكل المطروحة فی الحیاة الیومیة للمجتمعات التی لا تزال مجبولة أو متأثرة حتی الآن بظاهرة الكتاب الموحی.
و قد حصل أن سورة الكهف التی تشتمل علی ثلاث قصص مغروسة عمیقا فی الذاكرة الجماعیة العتیقة للشرق الأوسط تتیح لنا أن نلخّص السمات الأساسیة للتفسیر التقلیدی.
و من بین التفاسیر العدیدة التی ألفت منذ القرن الثالث الهجری/ التاسع المیلادی، نلاحظ أن تفسیر الطبری (ت 311 ه/ 923 م) و تفسیر فخر الدین الرازی (ت 606 ه/ 1209 م) یتمتعان بهیبة كبیرة لا تضاهی سواء لدی المسلمین أم لدی علماء الإسلامیات الغربیین (أی المستشرقین). فالأول- أی الطبری- جمع عددا ضخما من الأخبار فی كتاب عملاق موزّع علی ثلاثین جزءا. و نقصد بالأخبار هنا الحكایات أو القصص، ثم الأحادیث النبویة، ثم المعلومات. و هی الأخبار التی كانت قد نشرت فی النطاق الذی تمت أسلمته من منطقة الشرق الأوسط طیلة القرون الهجریة الثلاثة الأولی.
إن كتاب الطبری یشكّل وثیقة من الدرجة الأولی بالنسبة لعلم التاریخ. و لم یتعرّض حتی الآن لدراسة أكادیمیة موثّقة لكی تشرح لنا مضامینه و أبعاده، و لكی تضع حدا لتلك الصورة الشائعة عن الطبری و القائلة بأنه مجرد جمّاع «شره»، و «موضوعی» بسبب اللامبالاة التی یبدیها تجاه الأخبار المنقولة «3». فی الواقع إنه انتقی و انتخب و حذف و نظّم معلوماته طبقا لمواقفه السیاسیة و الدینیة. و قد هدف إلی المصالحة بین المسلمین علی أساس زیدیّته
______________________________
(1) نقول هذا الكلام و نحن نفكّر لیس فقط بالمعاییر الأخلاقیة- الفقهیة و الشعائریة، و إنما أیضا بكل الإنجازات الثقافیة التی تمیّز بها مناخ الحیاة الإسلامیة.
(2) هذا المصطلح «أنتربولوجیا الماضی»passe du lanthropologie ، استعرناه من المؤرّخ الفرنسی جورج دوبی. و هو یعنی دراسة التاریخ الماضی كما یدرس علماء الأنتربولوجیا المجتمعات المعاصرة، أی من كل جوانبها المادیة و الفكریة.
(3) هناك طبعة ثانیة من تفسیر الطبری فی طور التحقیق و النشر حالیا فی القاهرة، و هی من إعداد محمود محمد شاكر. و قد صدر منها منذ عام 1954 و حتی الآن 25 جزءا. و قد أعلن المحقّق فی الجزء السادس عشر عن إصدار مؤلّف جامع عن تاریخ المصحف. و سوف یتمّ تألیفه اعتمادا علی الدراسة الدقیقة لسلاسل الإسناد التی استخدمها الطبری. انظر بهذا الصدد الجزء السادس عشر، ص 452- 454. و عند ما نراقب الشروحات الغزیرة التی رافقت النصّ فی الأجزاء الستة عشر المنشورة حتی الآن،
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 152
المعتدلة التی تتجسّد من خلال بذل الجهد من أجل إضفاء المشروعیة علی السلطة العباسیة و تسفیه موقف الأمویین و التشیّع السیاسی أو المسیّس فی آن معا. و هذا ما یفسّر لنا سبب إلحاحه علی التوفیق بین مختلف نسخ النص القرآنی (أی القراءات)، ثم تفسیر الآیات بعبارات تشبهها و بلغة سهلة و واضحة، ثم حسم المسائل المختلف علیها بحذر مدروس أو محسوب. و بفضل هذه المجریات التوضیحیة و التوفیقیة فی آن معا، فرضت شروحات الطبری نفسها علی التراث التفسیری بكل قوة و دیمومة إلی حد أنها كسفت التیارات و المواقف الأخری التی لم تكرّس فی الأصل- النموذج إلّا قلیلا، أو حتی لم تكرّس علی الإطلاق.
و هذا التأثیر المؤكّد و المسلّم به نجده حتی لدی عالم كبیر كفخر الدین الرازی. فهو أیضا ألّف تفسیرا ضخما للقرآن. و تفسیر الرازی یشهد علی عمق دینی و ثقافة علمیة و فلسفیة قلّ نظیرها. و هكذا یضیف إلی التفسیرات «الأرثوذكسیة» لسلفه الطبری حرصه علی إقامة التماسك و التوافق بین الخطاب القرآنی و تعالیم العلوم الفلسفیة و العلمیة التی كانت تحتلّ مكانة كبیرة فی الثقافة العربیة فی القرن السادس الهجری/ الثانی عشر المیلادی. و بهذا المعنی، فإن الرازی أصبح مؤسّسا لتیار آخر فی التفسیر غیر التی ذكرناها سابقا. و هو التیار الذی عرف منذ القرن التاسع عشر انتعاشا تحت اسم التوفیقیة «1».
و الآن دعونا نطرح هذا السؤال: كیف «قرأ» هذان المؤلّفان- أی الطبری و فخر الدین الرازی- سورة الكهف؟ كیف فهماها و شرحاها؟ و ما هی المبادئ النظریة التی تتحكّم بتفسیر كلّ منهما، و المجریات التی اتبعاها لعرض موقفیهما، و النتائج التی توصلا إلیها؟

المبادئ‌

إنّ المبادئ التی سنتحدث عنها لیست مسلّمات تعسفیة مفروضة من الخارج علی الخطاب القرآنی، و إنما تشكّل الهیكلیة المنطقیة- المعنویة المسجلة داخل الصیغة اللغویة لهذا الخطاب. لا ریب فی أن هذه الهیكلیة تمارس فعلها كمجموعة من المسلّمات
______________________________
- فإننا نستطیع أن نكوّن فكرة ما عن منهجیة الطبری. أما شرح سورة الكهف فیجده القارئ فی الجزءین الخامس عشر و السادس عشر من طبعة بولاق العتیقة التی تعود إلی عام 1905.
(1) من عبد الرحمن الكواكبی (1849- 1902) إلی معاصرنا الدكتور مصطفی محمود نجد أن لائحة الكتّاب العرب أو المسلمین طویلة جدا. أقصد لائحة الكتّاب الذین «یبرهنون» علی أن الاكتشافات العلمیة الحدیثة موجودة كلها فی القرآن! و مؤخرا حظی طبیب فرنسی بنجاح كبیر فی المكتبات عند ما لعب علی هذا الوتر الحسّاس جدا لدی الجمهور المسلم. انظر كتابه: التوراة و الإنجیل و القرآن و العلم:
. 1976،Seghers ،Paris ،science la et Coran le ،Bible La :M .Busaille
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 153
اللاهوتیة. و هذه المسلمات سوف تؤدی إلی عمل هائل من تضخیم العبارات القرآنیة، و أسطرتها «*»، و التعالی بها. و لكن یبقی صحیحا القول إن كل واحد من هذه المبادئ الأربعة التی سوف نستعرضها له قاعدة لغویة واضحة و صریحة فی القرآن ذاته.
ینصّ المبدأ الأول علی ما یلی: إنّ كلّیة النصّ القرآنی المجموع بین دفتی المصحف هی كلام اللّه الموجّه إلی النبی شخصیا أو إلی المخلوقات المتعدّدة عن طریق النبی- الناقل.
تبتدئ سورة الكهف بالآیة التالیة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی أَنْزَلَ عَلی عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. و یقول الطبری معلّقا:
«القول فی تأویل قوله عزّ ذكره الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی أَنْزَلَ عَلی عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَیِّماً. قال أبو جعفر: یقول تعالی ذكره الحمد للّه الذی خصّ برسالته محمدا و انتخبه لبلاغها عنه فابتعثه إلی خلقه نبیا مرسلا و أنزل علیه كتابه قیما و لم یجعل له عوجا و عنی بقوله عز ذكره قیما، معتدلا، مستقیما. و قیل عنی به أنه قیّم علی سائر الكتب یصدّقها و یحفظها» (تفسیر الطبری، الجزء الخامس عشر، ص 117).
ینبغی أن نعلم أن آلیّة اشتغال الخطاب القرآنی حتی فی وحداته السردیة أو القصصیة محكومة ببنیة ثابتة للعلاقات بین الأشخاص أو الضمائر. فهناك أولا الناطق- المرسل هو:
اللّه. و هو یوجّه رسالة إلی مرسل له أول هو: محمد. و هو نفسه مبلّغ، و لكنه لیس ناطقا- مؤلّفا. إنه مبلّغ للرسالة إلی مرسل له ثان هو: الكائنات البشریة أو البشر. و هذه الشبكة التواصلیة یذكّرنا بها المفسّر الذی یقدّم لتفسیر كل آیة بالعبارة التالیة: قال تعالی لنبیّه محمد ...
إنّ الإكراه البنیوی لعلاقات الضمائر أو الأشخاص یمارس فعله بقوة هائلة إلی درجة أن مكانة الراوی بالقیاس إلی مكانة المتكلّم- المؤلّف قد تعرّضت للنقاش غالبا. تقول الآیة 25 من سورة الكهف: وَ لَبِثُوا فِی كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِینَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً. و یعلّق الطبری علی هذه الآیة قائلا:
«اختلف أهل التأویل فی معنی قوله: و لبثوا فی كهفهم ثلاثمائة سنین و ازدادوا تسعا.
فقال بعضهم ذلك خبر من اللّه تعالی ذكره عن أهل الكتاب أنهم یقولون ذلك كذلك.
و استشهدوا علی صحة قولهم ذلك بقوله قل اللّه أعلم بما لبثوا. و قالوا لو كان ذلك خبرا من اللّه عن قدر لبثهم فی الكهف لم یكن لقوله قل اللّه أعلم بما لبثوا وجه مفهوم» (تفسیر الطبری، الجزء الخامس عشر، ص 141).
و أما المبدأ الثانی الناتج عن السابق فیقول بأن القرآن لیس وثیقة كبقیة الوثائق التی
______________________________
* المقصود بالأسطرة: تضخیم العبارات القرآنیة علی ید المفسّرین الأوائل و رفعها إلی مرتبة التعالی المقدس لكی تفقد كل صفة تاریخیة أو كل علاقة بالظروف التاریخیة التی ظهرت فیها.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 154
یدرسها المؤرّخ، و إنما هو كلام للحیاة، أی یعاش علیه یومیا. فالعبارات القرآنیة هی التی تحدّد التصرفات الشعائریة، و الأخلاقیة، و القانونیة للمؤمنین. كما أنها هی التی تحصر نطاق فعالیتهم الفكریة و الخیالیة أو التخیلیة. و هی التی تولّد و تغذّی أشكال حساسیتهم.
و لهذا السبب، فإن تفسیر الخطاب القانونی الذی أتاح بلورة الشریعة (أی القانون الدینی) كانت له الأولویة. و قد فرض مناهجه فی تحلیل أنماط الخطاب الأخری (انظر علم الأصول المؤسّسة للقانون، أعنی: علم أصول الفقه).
إن المكانة التی اتخذتها سورة الكهف فی التأملات الشعبیة، و النشر الاستثنائی لموضوعاتها الروحیة الموضّحة من قبل التفسیر، كل ذلك یبیّن القوة الانبنائیة و التحفیزیة للخطاب القرآنی بصفته كلام حیاة (أو كلاما حیّا). و هذا ما یدعی بالوظیفة الوجودیة المحرّكة «*» للخطاب القرآنی. و لا ینبغی علینا أن نحذف هذه الوظیفة أو أن نقلّصها عند ما یتركّز اهتمامنا علی الخطاب السردی بشكل خاص «1».
سوف نتساءل فی ما إذا كانت الوظیفة المحرّكة للوجود مؤمّنة من قبل التنظیم السردی للخطاب القرآنی أو من قبل الإطار السردی المبلور علی مدار القرنین الأول و الثانی للهجرة «2» من أجل إضفاء تماسك شكلانی علی النصوص المتبعثرة التی هی آیات فی معظمها. ثم لكی یقدّم قاعدة وجودیة محسوسة (كسیرة النبی مثلا) إلی الآیات التلمیحیة أكثر من اللازم، أو العمومیة أكثر من اللازم «**». سوف نقدم مثلا دقیقا و محسوسا عن هذه الطریقة التعبیریة فی الفقرة التالیة.
أما المبدأ الثالث الذی یتحكّم بالتفسیر التقلیدی فینصّ علی ما یلی: كل العبارات أو
______________________________
* هذه هی الترجمة التی اخترتها للمصطلح الفرنسی:existentiale fonction .la فلم أقل وظیفة وجودیة و إنما قلت وظیفة محرّكة للوجود، أی تؤثر فی الوجود إلی درجة أنها تحرّكه و توجّهه و تكاد توجده. و الواقع أن الخطاب القرآنی- ككل خطاب دینی رفیع المستوی- یتمتع بهذه الصفة: صفة التأثیر الشدید علی السامع.
(1) لنذكر هنا سمتین من السمات التی تحافظ علی الوظیفة الكاشفة للوجود و التی یتمتع بها الخطاب السردی. فالناطق المؤلّف یظهر ثانیة بشكل صریح بصفته راویا أو ساردا من أجل إثبات صحة الأشیاء المرویة و نموذجیتها. و لذا، فإن الأحداث المختارة لیست عبارة عن مجرد أحداث و تقلبات مرتّبة بواسطة المنطق الداخلی للقصة أو للحكایة. و إنما هی تكشف عن التعالی، أو عن أثر اللّه فی تاریخ النجاة الأخروی، و هذا مؤكد علیه من قبل التعالیم التی یستمدها المفسّرون من الأحداث المختارة من أجل بلورة أخلاقیة السلوك، أو تنظیم الشعائر، أو سنّ القوانین.
(2) حول أهمیة هذا الإطار السردی، انظر: كتاب الباحث ج. وانسبرو:.p ،.op .cit ، ...Studies Quranic .ff 911
** نادرا ما تكون لغة القرآن تصریحیة، و إنما هی تلمیحیة فی معظم الأحیان، و لذلك فإنها قابلة للتعمیم علی حالات عدیدة، و لیس فقط علی حالة قریش و مكّة و المدینة ... إلخ.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 155
الآیات المجموعة فی النصّ الرسمی القانونی (أی المصحف) صحیحة كلّیا، و لا یختلط بها أی كلام غیر إلهی. كان الطبری لا یزال قریبا من عهد الاختلاف فی ما یخصّ نقل النصوص القرآنیة (أو الصیاغات النصّیة). و لذلك نجد لدیه إشارات متكررة إلی «قراءات» مختلفة، و لكن مع الحرص المستمر علی شیئین اثنین: الأول هو أنه یرفض القراءات المختلفة أكثر من اللازم و التی تصعب مصالحتها مع المعاییر اللاهوتیة «الأرثوذكسیة». أما القراءات الأخری التی لا تختلف كثیرا فإنه یهضمها و یدمجها داخل البنیة العامّة للخطاب القرآنی.
بتعبیر آخر، إنّ عمل الطبری یفرض نفسه كجهد مبذول من أجل تحقیق الانسجام و التوفیق و العقلنة و التثبیت اللغوی و الأدبی لنصّ نقل شفهیا و كتابیا فی آن معا طیلة ثلاثة قرون «1». أما بعد الطبری فقد أصبحت الروایات المختلفة «مندمجة» جدا إلی درجة أنها نقلت بشكل مغفل عن طریق استخدام صیغة الفعل المبنی للمجهول، فیقولون: قرئ.
و هذا المبدأ الثالث یولّد رابعا. و قد أبقی المبدأ الرابع التفسیر التقلیدی و هو یتخبط فی صعوبات لم یستطع أن یتجاوزها. یقول هذا المبدأ: إنّ العبارات أو الآیات المجموعة فی المدوّنة الرسمیة تشكّل فضاء لغویا لا یختزل إلی أی فضاء آخر علی الرغم من أن هذه المدوّنة تجسّدت فی لغة بشریة هی هنا: اللغة العربیة. و كل هذه العبارات أو الآیات معیاریة ملزمة سواء علی مستوی الشكل أم علی مستوی مضمون التعبیر «*».
و ینتج عن ذلك أن علم اللغویات قد أصبح مستعبدا كلّیا من الناحیة النظریة لشهادة إیمانیة، و لكنه منفتح عملیا علی تعالیم أو دروس الإنجازات الدنیویة لنظام اللغة العربیة.
ففی ما یخصّ كل المسائل المعنویة نلاحظ أن الطبری یستعین صراحة بهیبة «الاختصاصیین باللغة العربیة» أو ما یدعوهم بأهل العلم بالكلام العربی، أو أهل العربیة. ثم یفرّق بینهم و بین الاختصاصیین بالتفسیر أو أهل التأویل علی حد تعبیره.
و طبقا للأدبیات اللغویة و المعجمیة التی كانت سائدة طیلة القرون الهجریة الثلاثة
______________________________
(1) إنّ الاستخدام الطقسی أو الشعائری للنص القرآنی ساهم بالتأكید و بشكل مبكر فی تثبیته. و لكن لهذا الاستخدام بالذات تاریخ لا نعرف. بمعنی أننا لا نعرف متی ابتدأ المسلمون یستخدمون النصّ القرآنی كنصّ عبادی فی الصلوات و الطقوس، و لا كیف تطوّر ذلك علی مدار التاریخ.
* بمعنی أن النص القرآنی معصوم لیس فقط فی مضمونه و معانیه، و إنما أیضا فی لفظه و صیاغته اللغویة.
و هو لا یشبه أی كلام آخر فی العربیة، و لا یشبهه أی نصّ آخر، شعرا كان أم نثرا. نقول ذلك علی الرغم من أنه مكتوب بحروف اللغة العربیة، و من خلال نحوها و صرفها، تماما كأی نصّ عربی آخر. و هذا ما یدعی بنظریة الإعجاز، أی إعجاز القرآن، و عدم قدرة البشر علی الإتیان بمثله أو محاكاته. و هذه النظریة تشكّل مسلّمة لاهوتیة أساسیة بالنسبة للاعتقاد الإیمانی. و قد بناها الباقلانی علی ثلاث ركائز: القرآن یعلمنا بأسرار الغیب. جهل النبی الأمی بالقراءة و الكتابة. النظم الرائع للقرآن. و الركیزة الثالثة، كما نری، هی وحدها ذات علاقة باللغة أو البلاغة اللغویة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 156
الأولی، فإن عددا كبیرا من ألفاظ الخطاب الإلهی كانت قد أضیئت أو ثبّتت معانیها و فسّرت بمعونة الأبیات المستمدة من الشعر العربی القدیم. و كانوا یرفقون ذلك بالإشارة البسیطة التالیة: «و كما قال الشاعر». هذا یعنی أنهم لكی یثبّتوا شكل الوحی و مضمونه المعیاریین، فإن المفسّرین القدماء قد استمدوا معلوماتهم من دون تمحیص من ذلك الخضمّ المعقّد من المعطیات اللغویة، و الأدبیة، و التاریخیة، و التبجیلیة، و الأسطوریة المتراكمة طیلة ثلاثة قرون من الفعالیة المتعددة الجوانب و العلوم (شارك فیها علم النحو، و فقه اللغة، و علم المعاجم و الألفاظ، و علم السیر، و علم تاریخ المناطق، و التشریع، و المنتخبات ... إلخ.).
و لحسن الحظ، فإن البحث العلمی الحالی یتجه نحو التوضیح التاریخی لتلك الفترة القدیمة من التاریخ. و هی فترة معقّدة و مشوشة جدا. إنها الفترة التی كان فیها القرآن یمثّل الرهان الأقصی، و الهیبة العلیا المطلقة، و سلاح الكفاح، و مصدر الأمل، و الملجأ الذی لا یعوّض فی الأوقات الحرجة.

المجریات‌

هناك علاقة تبعیة و وظائفیة وثیقة بین المبادئ المعرفیة التی انتهینا من تحدیدها للتوّ، و بین مجمل مجریات العرض المشتركة لكل الأدبیات التفسیریة. فالمبادئ تولّد منهجیة معیّنة، ثم تتلقی من هذه المنهجیة فی خط الرجعة نوعا من التماسك و الرسوخ. و المجریات «*» الأكثر تمایزا و خصوصیة هی تلك التی ستبدو بوضوح فی مقطعین لدی الطبری و الرازی.
المقطع الأول هو عبارة عن حكایة تأطیریة رویت داخلها قصة الظروف المباشرة التی أدّت إلی نزول سورة الكهف كلها. و الطبریّ یقدّم هذه الحكایة الكلاسیكیة منذ بدایة تفسیره للآیة الأولی. و قبله كان مقاتل بن سلیمان «1» (ت 150 ه/ 767 م) المعاصر لابن إسحاق (ت 151 ه/ 768 م) قد نقل الحكایة نفسها و لكن بخصوص تفسیر الآیة التاسعة من السورة ذاتها. و نلاحظ أن فخر الدین الرازی یتبع مثال مقاتل و ینقل، كالطبری، روایة ابن إسحاق.
یقول الطبری فی تفسیره: القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی 156 المجریات ..... ص : 156
____________________________________________________________
* المقصود بها المجریات المنهجیة التی یستخدمها المفسّرون القدماء لتفسیر سور القرآن. و هی مجریات تتحكّم بها المبادئ المعرفیة الخمسة (أو المسلمات المعرفیة) المذكورة آنفا. فهناك علاقة بین المسلمات البدهیة و بین المنهج، لأن المنهج لیس إلّا تطبیقا عملیا للمسلّمات. و لكنه إذ یطبّقها یؤكّدها و یرسّخها و یثبّت مصداقیتها فی خط الرجعة. أما الحكایة التأطیریة فهی فی الواقع أسباب النزول. و معلوم أن المفسّرین القدماء كانوا یسبقون تفسیر كل سورة بإیراد أسباب نزولها علی هیئة قصّة أو حكایة تؤطّر لها و تموضعها ضمن سیاقها.
(1) انظر نص مقاتل الذی استشهد به وانسبرو فی كتابه: 122.p ،.op .cit ، ...Studies Quranic
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 157
( (حدّثنا أبو كریب قال ثنی یونس بن بكیر عن محمد بن إسحاق قال ثنی شیخ من أهل مصر قدم منذ بضع و أربعین سنة عن عكرمة عن ابن عباس فیما یروی أبو جعفر الطبری «1»، قال: بعثت قریش النضر بن الحارث و عقبة بن أبی معیط إلی أحبار یهود بالمدینة فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته و أخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول و عندهم علم ما لیس عندنا من علم الأنبیاء. فخرجا حتی قدما المدینة فسألوا أحبار یهود عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، و وصفوا لهم أمره و بعض قوله. و قالا: إنكم أهل التوراة، و قد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهم أحبار یهود سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبی مرسل، و إنّ لم یفعل فالرجل متقوّل، فرأوا فیه رأیكم. سلوه عن فتیة ذهبوا فی الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حدیث عجیب. و سلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان بناؤه. و سلوه عن الروح ما هو، فإن أخبركم بذلك فإنه نبی فاتبعوه. و إن هو لم یخبركم فهو رجل متقوّل فاصنعوا فی أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر و عقبة حتی قدما مكة علی قریش فقالا: یا معشر قریش قد جئناكم بفصل ما بینكم و بین محمد. قد أخبرنا أحبار یهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها.
فجاءوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم فقالوا: یا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به. فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم: أخبركم غدا بما سألتم عنه و لم یستثن. فانصرفوا عنه. فمكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم خمس عشرة لیلة لا یحدث اللّه إلیه فی ذلك وحیا و لا یأتیه جبرائیل علیه السّلام حتی أرجف أهل مكة. و قالوا وعدنا محمد غدا و الیوم خمس عشرة قد أصبحنا فیها لا یخبرنا بشی‌ء مما سألناه عنه. و حتی أحزن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم مكث الوحی عنه و شقّ علیه ما یتكلم به أهل مكّة. ثم جاءه جبرائیل علیه السّلام من اللّه عز و جل بسورة أصحاب الكهف فیها معاتبته إیّاه علی حزنه علیهم و خبر ما سألوه عنه من أمر الفتیة و الرجل الطوّاف و قول اللّه عز و جل: وَ یَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی وَ ما أُوتِیتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِیلًا [سورة الإسراء، الآیة 85]. ثم یضیف ابن إسحاق قائلا: فبلغنی أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم افتتح السورة فقال: «الحمد للّه الذی أنزل علی عبده الكتاب». یعنی محمدا إنك رسولی فی تحقیق ما سألوا عنه من نبوته. و لم یجعل له عوجا قیما، أی معتدلا لا اختلاف فیه)) (تفسیر الطبری، الجزء الخامس عشر، ص 118- 119).
أما المثل الثانی فیتعلّق بالمعنی المقترح لكلمتی «رقیم» و «كهف» الواردتین فی الآیة التاسعة من السورة. یقول الطبری: «و أما الرقیم فإن أهل التأویل اختلفوا فی المعنی به فقال بعضهم هو اسم قریة أو واد علی اختلاف بینهم فی ذلك ... قال الرقیم واد بین عسفان و أیلة دون فلسطین و هو قریب من أیلة ... و قال آخرون الرقیم هو الكتاب ... إنه لوح من
______________________________
(1) هذه الإشارة إنّ لم تكن من عمل الناسخ فهی تدل علی تدخل المؤلّف.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 158
حجر كتب فیه أسماء أصحاب الكهف و جعل علی باب الكهف ... إنه كتاب و لذلك الكتاب خبر فلم یخبر اللّه عن ذلك الكتاب و عمّا فیه. و قرءوا: و ما أدراك ما علیّون، كتاب مرقوم، یشهده المقربون. و ما أدراك ما سجّین، كتاب مرقوم ... و قال آخرون بل هو اسم جبل أصحاب الكهف، و قیل إن اسم ذلك الجبل بنجلوس، و اسم الكهف حیزم، و الكلب حمران ... و أولی هذه الأقوال بالصواب فی الرقیم أن یكون معنیا به لوح أو حجر أو شی‌ء كتب فیه كتاب. و قد قال أهل الأخبار إن ذلك لوح كتب فیه أسماء أصحاب الكهف و خبرهم حین أووا إلی الكهف. ثم قال بعضهم رفع ذلك اللوح فی خزانة الملك. و قال بعضهم: بل جعل علی باب كهفهم. و قال بعضهم: بل كان ذلك محفوظا عند بعض أهل بلدهم ...». و یتلو ذلك شرح نحوی- صرفی- معنوی لكلمة الرقیم (انظر: تفسیر الطبری، الجزء الخامس عشر، ص 122).
و الآن إلیكم كیف یعالج فخر الدین الرازی مشكلة موسی فی القصة الثانیة (أی فی الآیة 60 و ما تلاها): «أكثر العلماء علی أن موسی المذكور فی هذه الآیة هو موسی بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة و صاحب التوراة. و عن سعید بن جبیر أنه قال لابن عباس إن نوفا ابن امرأة كعب یزعم أن الخضر لیس صاحب موسی بن عمران، و إنما هو صاحب موسی بن میشا بن یوسف بن یعقوب. و قیل هو كان نبیا قبل موسی بن عمران.
فقال ابن عباس كذب عدو اللّه. و اعلم أنه كان لیوسف علیه السّلام ولدان أفرائیم و میشا فولد أفرائیم نون و ولد نون یوشع بن نون و هو صاحب موسی و ولی عهده بعد وفاته. و أما ولد میشا فقیل إنه جاءته النبوة قبل موسی بن عمران. و یزعم أهل التوراة أنه هو الذی طلب هذا العلم لیتعلم و الخضر هو الذی خرق السفینة، و قتل الغلام، و أقام الجدار، و موسی بن میشا معه. هذا هو قول جمهور الیهود. و احتجّ القفّال علی صحة قولنا إن موسی هذا هو صاحب التوراة. قال إن اللّه تعالی ما ذكر موسی فی كتابه إلا و أراد به صاحب التوراة، فإطلاق هذا الاسم یوجب الانصراف إلیه. و لو كان المراد شخصا آخر مسمّی بموسی غیره لوجب تعریفه بصفة توجب الامتیاز و إزالة الشبهة ... و حجة الذین قالوا موسی هذا غیر صاحب التوراة أنه تعالی بعد أن أنزل التوراة علیه و كلمه بلا واسطة و حجّ خصمه بالمعجزات القاهرة العظیمة التی لم یتفق مثلها لأكابر الأنبیاء یبعد أن یبعثه بعد ذلك لتعلّم الاستفادة ... و اختلفوا فی فتی موسی. فالأكثرون علی أنه یوشع بن نون. و قال آخرون بأنه أخ یوشع ... و قیل إن موسی علیه السّلام لما أعطی الألواح و كلّمه اللّه تعالی قال: من الذی أفضل منی و أعلم؟ فقیل عبد یسكن جزائر البحر و هو الخضر» (تفسیر الرازی، الجزء الخامس، ص 492).
نلاحظ أن الطریقة الإجرائیة أو الأسلوبیة المستخدمة فی التفسیر الإسلامی القدیم، هی القصة أو الحكایة. إنها الطریقة الأكثر انتظاما و استمراریة، و الأكثر غنی بالنتائج (أی
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 159
التی تؤدی إلی نتائج ملموسة فعلا). لما ذا كانوا یستخدمونها بمثل هذه الكثرة؟ لأنها كانت تتناسب بشكل ممتاز مع الأطر الاجتماعیة للمعرفة. أقصد الأطر التی كانت سائدة طیلة القرون الثلاثة الأولی للهجرة، حیث كان ینبغی علیهم أن ینقلوا شفهیا أولا، ثم تدریجیا ثانیا عن طریق الكتابة، تلك الشهادات الحیّة عن الزمن التدشینی المثالی و الفضاء المقدّس للبعثة النبویة. یكفی أن نذكّر هنا بانتشار المصطلح التقنی «الأخبار» و بمدلولالته. و الأخبار جمع خبر، أی الأحادیث المنقولة، أو القصص و الحكایات، أو المعلومات، أو المعارف «1».
أقول یكفی أن نذكّر بذلك لكی نقیس حجم أهمیة القصة و الدور الذی تلعبه فی تشكیل الرؤیة التاریخیة- الأسطوریة. و هی الرؤیة التی شكّلتها أجیال المسلمین الأوائل عن نفسها ثم ورّثتها للوعی الإسلامی اللاحق حتی یومنا هذا «2».
لقد تراكمت كمیة كبیرة من الأخبار التی سجّلت كتابة بشكل متأخر عن التواریخ الحقیقیة لظهورها و انتشارها لأول مرة «3». و قد وجد التبحّر العلمی الحدیث (أو الاستشراق الأكادیمی) نفسه أمام هذا الكمّ الهائل من الأخبار. و لذلك راح یهتمّ فقط بجانبها الوثائقی لكی یكتب التاریخ «الوضعی»، أو الوقائعی، أو «الموضوعی» للتراث الإسلامی. ضمن هذا السیاق نلاحظ أن الفصل بین الصحیح و الموضوع (أو المختلق) یشكّل أول عملیة من العملیات التی ینبغی أن یقوم بها العالم المتبحّر فی العلم (أی المستشرق الأكادیمی). و لكن القیمة الوثائقیة ل «المختلق» أو ل «المزوّر» و التی یمكن الاستفادة منها لكتابة تاریخ الوعی الإسلامی كانت قد أهملت عملیا من قبل هذا الباحث المتبحّر فی العلم «4». و لهذا السبب، فإننا نحاول أن نفرض مفهوم الحكایة التأطیریة كمحل لانبثاق هذا الوعی لأول مرة و توسّعه «*».
______________________________
(1) إن مؤلّفات الجاحظ (ت 256 ه/ 869 م) تمثّل إحدی أوائل التدخلات النقدیة لأدبیات الأخبار. انظر أطروحة ل. سوامی غیر المطبوعة: نقد الأخبار لدی الجاحظ:traditions des critique La :L .Souami . 7791،IV Paris ،inedite cycle e 3de these ،Jahiz chez )akhbar(
(2) انظر مقالتنا: «المظهر العام للوعی الإسلامی»، المنشورة فی كتاب نقد العقل الإسلامی (بالفرنسیة) مرجع مذكور سابقا، ص 151 و ما تلاها. (و كنا قد ترجمناها و نشرناها فی كتاب تاریخیة الفكر العربی الإسلامی بعنوان: «ملامح الوعی الإسلامی»).
(3) لنكرر هنا مرة أخری: أن التسجیل كتابة لا یعنی نهایة الانتقال (أی انتقال النصّ) عن طریق المشافهة (انظر ما قلناه فی الهامش ص 157). فالنقل الشفاهی (أو عن طریق الذاكرة) ظل مستمرا و متوازیا مع النقل الكتابی.
(4) إن الأمر یتعلق بكل «النطاق» الذی أخذ المؤرّخون یستكشفونه تحت اسم: علم النفس التاریخی.
و الوثائق المتوافرة بالنسبة لهذا العلم أضخم و أكثر غزارة بما لا یقارن من تلك المتوافرة بالنسبة للتاریخ الاجتماعی و الاقتصادی.
* بمعنی أن الوعی الإسلامی انبثق أو تشكّل لأول مرة من خلال القصة و بواسطتها، و لیس من خلال الفكر المنطقی الاستدلالی.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 160
ما الذی نقصده بالحكایة التأطیریة؟ إنها تعنی السرد المزیّن و المنمّق أدبیا قلیلا أو كثیرا، أقصد سرد إحدی المراحل المعاشة أو المتخیّلة من حیاة النبی. و هذا السرد یشكّل الإطار المكانی- الزمانی لتجلّیات الظاهرة القرآنیة. و كل حكایة أو قصة مسرودة تشكّل نوعا من الإخراج المسرحی الوجودی لأحد أقوال أو أعمال محمد بصفته نبیا ملهما، أو لإحدی الآیات أو مجموعة آیات من سورة معیّنة كانت قد لفظت من قبله بصفته نبیا مرسلا. و یمثّل محمد و الظاهرة القرآنیة (أو الحدث القرآنی كظاهرة) الفاعلین الأساسیین أو الأعظمین لكل حكایة تأطیریة. فهما اللذان یؤمّنان لهذه الحكایة قاعدة تاریخیة محسوسة لا تمتلكها الحكایات الشعبیة و الإنتاج الروائی الخاضعین للتحلیل البنیوی منذ فلادیمیر پروپ «*».
و لكن الحكایة التأطیریة تلعب إلی حد كبیر الوظیفة نفسها التی یلعبها كل خطاب سردی، و هی الوظیفة المتمثّلة بتنظیم معطیات الفعالیة البشریة من أجل فرض معناها أو معانیها.
إنّ الحكایة التأطیریة التی نقلها لنا الطبری و التی أثبتناها آنفا تشكّل بمفردها وحدة سردیة مستقلّة ذاتیا. و هی فی الوقت ذاته تؤطر أو تحیط بجمیع العبارات المتجاورة مع بعضها البعض فی سورة الكهف، عن طریق عرضها أو تقدیمها كجواب شامل للّه علی التحدّی الذی یمثله الطرفان المضادان لمحمد، أی الیهود و المكّیون المؤمنون بتعددیة الآلهة (أو المشركون بحسب التعبیر القرآنی). و هما یظهران علی مدار الخطاب القرآنی بصفتهما فاعلین معارضین فی مواجهة الفاعل المساعد «1» لمحمد، أی جماعة المؤمنین. فبالإضافة إلی الحكایات الثلاث التی ترد علی السؤالین الأولین اللذین طرحهما حاخامات الیهود، هناك الآیات التی یدعم بها اللّه نبیه الذی كان یشعر بتأنیب الضمیر كما تقول الآیة 6:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلی آثارِهِمْ إِنْ لَمْ یُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِیثِ أَسَفاً. و هناك الآیتان 23- 24 حیث كرّر علیه اللّه التعالیم المنسیة، و النسیان یؤدی إلی توقف الوحی. تقول الآیتان: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَیْ‌ءٍ إِنِّی فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ یَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِیتَ وَ قُلْ عَسی أَنْ یَهْدِیَنِ رَبِّی لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً. و هناك أیضا الإسهابات المتضادة أو الشروحات الطویلة المتضادة حیث عرضت مواقف المعارضین و الأنصار و الجزاء الذی سوف یطبّق علیهم یوم الحساب.
______________________________
* الحكایة الشعبیة التی حلّلها العالم الروسی فلادیمیر پروپ مختلفة كلیا، و ذلك علی عكس الحكایات التأطیریة التی شكّلها التراث الإسلامی و التی تحتوی دائما علی نواة من الصحة أو بعض العناصر التاریخیة الأولیة. ثم تلبّس بعدئذ و تزیّن، أو تضخّم و یبالغ فیها. و لذلك یصفها أركون بأنها تاریخیة- أسطوریة.
و لكن النظریة التحلیلیة التی اكتشفها پروپ تنطبق أیضا علی تحلیل قصص التراث الإسلامی. انظر:.V . 0691،Seuil ،Paris ،conte du Morphologie :Propp
(1) هذا التضادّ الذی تمّ إیضاحه عن طریق تحلیل القصة كان قد سبق التعبیر عنه بواسطة المصطلحات العربیة المستخدمة من قبل تراث عتیق، أو طویل عریض. فأتباع محمد فی المدینة دعوا بالأنصار، و المضادون له من المكّیین دعوا بالأعداء.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 161
علی هذا النحو تجد العبارات القرآنیة بواعثها (أو دوافعها) الوجودیة المباشرة و تكشف عن أهدافها داخل إطار الحكایة التأطیریة. و بالمقابل، فإن هذه الحكایة التأطیریة تتلقی من هذه العبارات أو الآیات قیمة فریدة من نوعها. و هی قیمة تضعها فوق كل الحكایات الدنیویة. لما ذا؟ لأنها أعدیت من قبل التعالی «*». و عن طریق العمل المتضافر لكلا الخطابین، یتمفصل التاریخ البشری و التعالی الإلهی مع بعضهما البعض داخل روح السامع (أو القارئ). و هذا ما یفسّر لنا سبب الهیبة الكبیرة التی یولیها المؤمنون للتفسیر الإسلامی الموروث «**»، ثم علی العكس اشتباههم بالتحلیلات أو التأویلات الفكریة التی یقدّمها المحدّثون.
نقول ذلك علی الرغم من أنه یمكن الاعتقاد بأن التفسیر القدیم یحوّل النصّ التلمیحی، الإیحائی، المجازی، الرمزی، إلی شی‌ء عادی جدا. كیف؟ عن طریق تفسیره بشكل واقعی صرف أو تحویله إلی خطاب عادی حیث تتراكم أسماء الأعلام و الأشخاص و الأماكن، و حیث تكثر روایات الأحداث المهووسة بالتفاصیل الصغیرة، و حیث یحرصون علی تحدید هویة الكائنات و الحالات المختلفة بما فیها الحالات فوق الطبیعیة. فمثلا یری الطبری أن تسمیة «أهل الكهف» تطلق علی جماعة محدّدة بعینها. یقول: «و كانوا فتیة أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم. و كانوا ثمانیة نفر مكسلمینا و كان أكبرهم و هو الذی كلّم الملك عنهم ...» تلی ذلك أسماء إغریقیة منقولة بشكل سیّئ إلی العربیة (انظر: تفسیر الطبری، الجزء الخامس عشر، ص 125).
و حتی الكهف، و الكلب، و سكان القریة، و الملك ... إلخ، فقد حدّدت هویاتهم جمیعا بدقة، و وصفوا بعنایة. و أما الأمثال، و الحكم، و المجازات الواردة فی القرآن، فقد تم تسطیحها و تحویلها إلی لغة وعظیة تقویة أو تهذیبیة. و أما التصویرات الأخرویة الواردة فی القرآن، فقد اختزلت إلی مجرد وقائع معهودة للملذات أو للعذابات.
نلاحظ أن روح ثقافة بأسرها و آلیّات اشتغالها تتجلی فی هذه القراءة للّغة الدینیة. إن الروح هی تلك التی تتطلّبها الآیة التالیة التی طالما تكررت فی القرآن بخصوص كل
______________________________
* بمعنی أن الحكایات التی یوردها المفسّرون لتفسیر آیات القرآن أو سورة تصبح متعالیة عن طریق العدوی لأنها استخدمت فی تفسیر الكلام المقدس أو المتعالی. و علی هذا النحو یتقاطع الدینی مع الدنیوی، أو السماوی مع الأرضی. و هكذا یخلع التقدیس علی كل شی‌ء تقریبا. و لكن هذه الحكایات التأطیریة تكشف لنا أیضا عن الهموم الأرضیة أو الوجودیة للكلام المتعالی، أی للقرآن. و هكذا یتمفصل الإلهی مع التاریخی.
** بالنسبة للمسلمین المعاصرین، فإن التفاسیر القدیمة تتمتع بهیبة كبری تكاد تعادل هیبة القرآن ذاته ...
لما ذا؟ لأنها قدیمة أولا، و لأنها صادرة عن شخصیات دینیة كبیرة و قریبة من زمن الوحی. ثم لأنها ملیئة بالقصص و الحكایات العذبة التی یستسیغها الوعی الدینی كثیرا.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 162
الحكایات و كل القصص. تقول الآیة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَیْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْیَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدیً [سورة الكهف، الآیة 13].
لنتوقف أولا عند الملاحظة الإحصائیة التالیة: و هی أن مفهوم «الحق» یتكرر 287 مرة فی القرآن مع أغلبیة واضحة للصیغة اللغویة «حق». أما المفهوم المضاد، أی مفهوم «الباطل» فیرد 60 مرة بالمعنی الذی تحتویه الآیة التالیة: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَی الْباطِلِ فَیَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَیْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [سورة الأنبیاء، الآیة 18].
إن الحقّ هو اللّه ذاته و كل ما یندرج داخل إرادته الخلاقة و قدرته التنظیمیة. و كل ما یحاول أو من یحاول أن یفلت من هذه الإرادة أو یعارضها فهو باطل، و خادع، و عابر.
و بالتالی، فإن سرد قصة بشكل حقیقی یعنی بالضرورة إدراجها أو دمجها داخل الفضاء الأنطولوجی للحق: بمعنی أن شخصیات القصة، و تصرفاتهم، و الأماكن الوارد ذكرها، و الأقوال المتبادلة، كلها أشیاء صحیحة بحرفیتها. فاللّه لا یمكنه أن یستخدم الخرافات أو القصص الخیالیة «1» لكی یكشف عن أسراره و یبلّغ أوامره و إراداته للبشر. و بالتالی، فإن المفسّر الخاضع لمطلق الحق لا یستطیع إلّا أن ینفتح علی المعطیات «التاریخیة»، و «الجغرافیة» الشائعة فی تراث الشرق الأوسط «*».
و لكن كلما راحت واقعیة العلم الأرسطوطالیسی و الممارسة الاقتصادیة و الإداریة تدفعان بالثقافة العربیة الإسلامیة باتجاه العقلنة، و تمحیص الوقائع، و المعرفة المباشرة أو العیان، راحوا یشعرون بالحاجة الماسة إلی الفرز الدقیق و الصارم لهذه المواد المنقولة إلینا
______________________________
(1) إنّ التمییز بین الأساطیر أو الخرافات و الحكایات المجانیة و بین القصص الصحیحة أو النماذج العلیا للقدوة فی السلوك موجود فی القرآن. فنحن نجد المكّیین یدعون بأساطیر الأولین حكایات كتلك الواردة فی سورة الكهف. و أیا یكن أصل و معنی كلمة أساطیر الواردة بصیغة الجمع، فإننا نجد أن مصطلح «أساطیر الأولین» یتكرر تسع مرات من أجل الحطّ من قیمة النبی و الوحی. و هذا الموقف یفسّر سبب إلحاح القرآن علی صحة و نموذجیة القصص الواردة فیه، و كذلك صحة و نموذجیة الأمثال. انظر دراستنا التی تحمل العنوان التالی: ( (؟Peut -on parler de merveilleux dans le Coran (( أی: «هل نستطیع أن نتحدث عن وجود العجیب المدهش (أو الساحر الخلّاب) فی القرآن؟». و هذا البحث یشكّل الفصل الخامس من كتابنا: قراءات فی القرآن،.Lectures du Coran ,op .cit .
* ینبغی أن نعلم أن قصة أهل الكهف لا تنتمی فقط إلی التراث الإسلامی، و إنما تنتمی من قبله إلی التراث المسیحی. فهم السبعة النائمون فی أفس بمنطقة آسیا الصغری (تقع الآن فی تركیا، فی منطقة الأناضول و تدعی سیلسوك، و فی الماضی كانت تدعی أیاسولوك). و یری التراث المسیحی أنه أثناء اضطهاد الإمبراطور الرومانی دیسیوس للمسیحیین فی القرن الثالث المیلادی، التجأ سبعة شباب إلی كهف مجاور لمدینة أفس. و هناك ناموا لمدة قرنین من الزمن لكی یستیقظوا فی عهد الإمبراطور تپودوسوس حیث كانت المسیحیة قد أصبحت الدین الرسمی للامبراطوریة و لم تعد مضطهدة. و لكنهم ماتوا بعد استیقاظهم بفترة قصیرة. و قد شاعت قصتهم و انتشرت حتی جاء القرآن و كرّس لها سورة كاملة.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 163
عن طریق ذاكرة جماعیة غزیرة و فوّارة بالمعطیات مما هبّ و دبّ. ففی غضون القرنین الأول و الثانی للهجرة، كان الشی‌ء المهیمن هو تبعثر هذه الذاكرة الجماعیة و انبجاساتها أو تدفقاتها المعزولة. و أخذ یضاد ذلك فیما بعد عمل العقلنة، و التوفیق التناغمی، و الانتخاب بعد الحذف و الغربلة. و قد ابتدأ هذا العمل فی الثقافة العربیة الإسلامیة مع الطبری، و لكنه بلغ ذروته مع السیوطی (ت 911 ه/ 1505 م) أثناء المرحلة المدرسانیة الاتباعیة (السكولاستیكیة).
لن نقترف مغالطة تاریخیة إذا ما وصفنا التفسیر الإسلامی التقلیدی بأنه تاریخوی، علموی، بل و حتی مادی، بمعنی أن كل كلمة من كلمات الخطاب القرآنی تمتلك بالضرورة عائدا موضوعیا (أو مرجعیة موضوعیة موجودة فی الخارج أو فی الواقع الخارجی). إنه لصحیح القول بأنهم یلجئون إلی الحكایات الأسطوریة من أجل البرهنة علی صحة كل كلمة أو كل آیة من آیات القرآن (أو من أجل إثبات حقها)، و هم یعتبرون الحكایات الأسطوریة بمثابة معطیات تاریخیة، أو جغرافیة، أو كوزمولوجیة (أی متعلقة بعلم الكونیات). فالأبطال الملحمیون من أمثال غلغامیش ینظر إلیهم و كأنهم شخصیات واقعیة، حقیقیة (انظر بهذا الصدد المناقشات التی دارت حول موسی) «*». أما الكائنات غیر المرئیة (كالجن و الملائكة)، فقد خلعت علیها الصفة المادیة الواقعیة من خلال التحدّث عن تصرفاتها و أقوالها العادیة التی تشبه تصرفات و أقوال البشر. و مع فخر الدین الرازی یجی‌ء المسار العلموی لكی یكمل مسار «المؤرّخ» «1». و نقصد بمساره العلموی هنا محاولته التحقّق من الصلاحیة الموضوعیة للآیات عن طریق التعالیم التی تقدّمها العلوم الفلسفیة و التجریبیة فی عصره «**».
______________________________
* ینبغی أن نشیر إلی أن عقلیة الناس فی القرون الوسطی كانت میّالة إلی تصدیق الحكایات الأسطوریة بسهولة، و لم تكن تستطیع أن تمیّز بین ما هو حقیقی و ما هو أسطوری كما نفعل نحن الیوم. فینبغی ألا نسقط علیهم عقلیتنا المعاصرة، و إلا فلن نفهمهم. و لذلك نری الطبری یستشهد بالحكایات الأسطوریة الرومانیة للبرهنة علی صحة ما ورد فی القرآن من قصص! و لا یشعر بأی تناقض إذ یفعل ذلك ... و حتی الحكایات التی رواها عن النبی موسی معظمها أسطوری و لا علاقة له بالحقیقة التاریخیة. و أما غلغامیش، الذی هو بطل الملحمة الآشوریة- البابلیة الشهیرة بنفس الاسم، فإنهم ینظرون إلیه و كأنه شخصیة واقعیة أو تاریخیة. ینبغی إلا ننسی أن الأدیان التوحیدیة ظهرت فی منطقة غنیة بالأساطیر و الأدیان القدیمة من مصریة، و بابلیة، و آشوریة، إلخ.
(1) و لكن یختلف الأمر فی ما یخصّ التأویل الذی یتخذ لدی الشیعة منحی خاصا و یصل إلی مرحلة المعرفة الروحیة الباطنیة. انظر بهذا الصدد كتاب هنری كوربان: ابن سینا و الحكایة الرؤیویة، الجزء الأول:.H . 4591،Corbin :Avicenne et le recit visionnaire ,t .lTeheran -Paris
** و هذا مسار غیر علمی بالطبع و لكنه علموی. و هو یشبه أقوال المسلمین المعاصرین الذین یعتقدون بأنه حتی علم الذرة موجود فی القرآن!
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 164
ما نكتشفه فی نهایة المطاف بعد دراسة مجریات التفسیر التقلیدی و وظائفه هو عملیة تشكیل الممكن التفكیر فیه تحت ضغط خطاب نموذجی أعلی متلقّی و معامل و كأنه یتعالی علی كل الخطابات البشریة. و كل ما لا یندرج داخل هذا الخطاب المثالی الأعلی أو كل ما لیس متطلبا من قبله، إما أنه یقبل و یعترف به بصفته ممارسة مفیدة، و إما أنه یرفض و یرمی فی دائرة المستحیل التفكیر فیه. و یؤدی ذلك (داخل تراث فكری مدید) إلی تراكم اللامفكّر فیه داخل هذا التراث (فی ما یخصّ الممارسة المفیدة هنا انظر المناقشات التی جرت بین الفقهاء حول المهن أو الحرف، و حول العلوم، أو المبتكرات و البدع المستجدة ... إلخ).
أرید أن أضیف هنا ما یلی: إن المصطلحات التالیة: الممكن التفكیر فیه/ المستحیل التفكیر فیه/ المفكّر فیه/ اللامفكّر فیه، ینبغی أن تبلور بشكل تاریخی و سوسیولوجی، و لیس فقط من قبل بعض الفلاسفة كما هو حاصل حتی الآن. فنحن إذا ما بلورنا هذه المصطلحات بطریقة عملیة محسوسة، فإننا نستطیع أن نبرهن علی نواقص التاریخ السردی للأفكار. و إذا ما طبّقناها علی التراث الإسلامی، فإنها تساهم فی تعریة أو فضح الاستخدامات الأسطوریة و الإیدیولوجیة العدیدة لهذا التراث بالذات. و یقوم بهذه الاستخدامات الفكر المعاصر السائد فی العالم العربی أو الإسلامی «1».
و ما سنقوله لا حقا عن سورة الكهف سوف یتیح لنا أن نقیس حجم اللامفكّر فیه، هذا الحجم الضخم الناتج عن الحصر الصارم لما یمكن التفكیر فیه، كما برهن علی ذلك مثال فخر الدین الرازی الذی كان یأنف من الاعتراف بأن موسی الوارد فی الحكایة الثانیة هو النبی المشهور الذی نعرفه.

النتائج‌

من الشروحات المسهبة و المطوّلة التی كرّسها الطبری و فخر الدین الرازی و مفسّرون آخرون عدیدون لسورة الكهف یمكن أن نستنتج بعض النتائج التی غذّت تأملات المسلمین و مخیالهم عبر القرون. و لن نعدّد هنا سوی السمات الأساسیة المشتركة التی ستتیح لنا لاحقا إیضاح مخطط قراءتنا و أهدافها بشكل أفضل. و یمكن إجمال هذه السمات فی النقاط التالیة:
______________________________
(1) من أجل الاطلاع علی البلورة الأولی لهذه المفاهیم انظر دراستنا المنشورة بالفرنسیة: «الفكر العربی و أسالیب حضوره فی الغرب الإسلامی»:en arabe pensee la de presence de Eodes ((:M .Arkoun .op .cit ،islamique raison la de critique une Pour :In ؛ ( (musulman.Occident من البدهی أن الخطاب القرآنی لیس العامل الوحید الذی یضغط علی العلاقة بین الممكن التفكیر فیه/ و المستحیل التفكیر فیه/ و اللامفكّر فیه. و إنما تدخل فی اللعبة المعقدة عوامل أخری ساهمت فی تولید المجتمعات المدعوة إسلامیة، كالعوامل الاقتصادیة و الاجتماعیة و غیرها.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 165
1- إنّ مجمل السورة كان قد أوحی ضمن الظروف الملخّصة فی الحكایة التأطیریة و للأسباب الواردة هناك أیضا.
2- إنّ قصة أهل الكهف قصة جرت بالفعل فی زمن اضطهاد المسیحیین من قبل الإمبراطور دیسیوس (249- 251 م). و كانوا ثلاثة شبّان أو خمسة أو ثمانیة (أو سبعة بحسب الروایة المسیحیة). «و كانوا یعبدون اللّه فی دین عیسی ابن مریم». و قد التجئوا إلی كهف بالقرب من إیلات لكی یتهرّبوا من عبادة الصنم الذی فرضه دیسیوس. و قد أمر دیسیوس بإقفال مدخل الكهف. و لكن «اللّه شاء أن یمیت نفوس هؤلاء الشباب عن طریق موت النعاس، و بقی كلبهم علی عتبة الكهف» (تفسیر الطبری، الجزء الخامس عشر، ص 126). و هناك روایة أخری تقول بأن القصة- أی قصة أهل الكهف- حصلت قبل المسیحیة. ثم أوقظوا بعد ثلاثمائة و تسع سنوات. و قد اكتشفهم راع، و عن طریقه عرفت القریة بالقصة.
3- فی الحكایة الثانیة نلاحظ أنهم ماثلوا بین موسی و النبی، و بین فتی موسی و یوشع. أما كلا البحرین الواردین فی عبارة «مجمع البحرین»، فهما بحر فارس فی الشرق، و بحر الروم فی الغرب «1». و أما السمك (أو الحوت) الذی بعث بعد الموت و الذی وجد طریقة إلی البحر، فقد حاكوا حوله قصصا خارقة للطبیعة و مبالغا فیها. و ساعد علی هذا التهویل استخدام القرآن للفظة «عجبا» حیث یقول: وَ اتَّخَذَ سَبِیلَهُ فِی الْبَحْرِ عَجَباً [سورة الكهف، الآیة 63]. و «عجبا» هنا تعنی: بطریقة مدهشة، أو خارقة، أو رائعة، أو حتی معجزة «2». و لما عادا علی آثارهما نحو الصخرة الموجودة «قبل وادی الذئب»، و المقصود بذلك موسی و فتاه، التقیا بعبد من عباد اللّه. و قد اكتشف المفسّرون هویته و قالوا بأنه الخضر. و قد أراد اللّه أن یبرهن لموسی بأن هناك من هو أعلم منه عن طریق وضع أحد أصفیائه (أی الخضر) علی طریقه. ینبغی أن ننتبه هنا إلی الاعتقاد الذی كان سائدا آنذاك و القائل بوجود علم لا نهائی للّه، و لم یكشف إلّا جزئیا للأنبیاء بمن فیهم موسی. و هذا الموضوع عرض علی هیئة الإخراج المسرحی داخل قصة تأطیریة حیث یزعم موسی أمام شعب إسرائیل بأنه الأكثر علما بین البشر بعد اللّه! إن تقلبات و مراحل رحلة موسی و الخضر ولّدت لدی الطبری مناقشات من نوع فیلولوجی أو لغوی بشكل خاص.
______________________________
(1) انظر كتاب أندریه میكیل: الجغرافیا البشریة للعالم الإسلامی حتی أواسط القرن الثانی الهجری (الجزء الثانی):،t .II ،siecle IIe du milieu jusquau musulman monde du humaine geographie La :A .Miquel . ) )mer((.s .v index ، 1975،Haye Paris -La
(2) فی ما یخصّ المفردات المتعلقة بالعجیب المدهش أو الساحر الخلاب، انظر دراستنا المذكورة آنفا:
«هل نستطیع أن نتحدث عن وجود العجیب المدهش (أو الساحر الخلاب) فی القرآن؟» بحث منشور فی كتابنا: قراءات فی القرآن. 87.p ،.cit ،.op ،Coran du .Lectures
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 166
أما فخر الدین الرازی فیسهب فی المناقشات الفلسفیة و اللاهوتیة حول نماذج المعرفة و درجاتها و أنماطها و ذلك انطلاقا من الموضوع المركزی للقصة أو للحكایة الواردة فی الآیة التالیة: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [سورة الكهف، الآیة 65]. نلاحظ هنا أن النزعة الواقعیة تحافظ علی أولویتها لدی المفسّرین القدامی.
فمثلا، ما ذا یقولون عن القریة التی أبت أن تستضیف موسی و الخضر؟ إنهم یحدّدونها فورا بالاسم و یقولون إنها إما أنطاكیة و إما إیلات. و یمكن أن نقول الشی‌ء ذاته عن مراحل الحكایة المتمثّلة بخرق السفینة و إغراق أهلها، ثم قتل الغلام، ثم الضیافة الممنوعة، ثم الجدار الذی أقامه بدون أجر (سورة الكهف، الآیات 71- 77). فهنا أیضا نلاحظ أن المفسّرین المسلمین القدامی لا یقرءونها بصفتها مجرد «مقاطع سردیة»، و إنما ینظرون إلیها أو یفسّرونها كحالات معاشة یستمد منها عالم اللاهوت و الفقیه الأحكام التی ینبغی أن یتقیّد بها المسلمون فی الحیاة الأرضیة. فمثلا یطرح فخر الدین الرازی هذا التساؤل فی ما یخصّ خرق السفینة و یقول بما معناه: هل یحقّ للأجنبی أن یتدخل فی أملاك الآخرین لتحقیق غرض مشابه؟ ثم یجیب الرازی: ربما كان مثل هذا السلوك مقبولا فی الشرع الذی تتضمنه الحكایة. و مثل هذا الرأی لیس عصیا علی التصوّر أو القبول فی شرعنا الدینی.
4- لكی یحدّد من هو ذو القرنین «*»، بطل الحكایة الثالثة الواردة فی سورة الكهف، نلاحظ أن الطبری یشیر إلی حكایة تأطیریة مستقلة عن السابقة. و طبقا لها فإن بعض «أهل الكتاب» جاءوا لكی یسألوا النبی عمّا یقوله الكتاب المقدس عن ذی القرنین. و قد استقبلهم النبی بحضور بعض الصحابة و قال لهم: «إنه فتی من أصل رومی جاء لكی یبنی مدینة الإسكندریة ...» (تفسیر الطبری، الجزء السادس عشر، ص 6- 7). و قد استشهدوا بأحادیث نبویة عدیدة لتفسیر هذه التسمیة: ذو القرنین. نلاحظ أن الرازی یقتصر علی القصة التأطیریة الأولی و یقول بأن الأمر یتعلق بالإسكندر، ابن فیلیب الإغریقی. و یضرب علی ذلك كبراهین الآیات 85- 86 ثم 94، حیث یقول القرآن بأن البطل وصل إلی مغرب الشمس و مشرقها، أو بالأحری مطلعها بحسب التعبیر القرآنی، ثم وصل إلی بین السدّین، أی إلی الشمال الأقصی حیث یعیش الشعب التركی المدعو بیأجوج و مأجوج «**». و یقال
______________________________
* فی كتابه القاموس التاریخی للإسلام یری دومینیك سوردیل أن ذا القرنین المذكور فی القرآن ما هو إلا الإسكندر الأكبر أو الإسكندر المقدونی. و أما یأجوج و مأجوج فهما اسمان لشعبین كان قد ذكرا فی التوراة فی سفر التكوین، و سفر حزقیال. انظر:Dictionnaire :Sourdel Janine Dominiqueet . 713et 16- 06.pp ، 1996،.P .U .F ،Paris ،lIslam de historique
** فی الأسطورة التوراتیة یقال لنا بأن شعبی یأجوج و مأجوج سوف ینزلان من جهة الشمال فی نهایة الأزمان لكی یهاجما شعب إسرائیل. و لكن «یهوه»، أی رب إسرائیل، سوف یدافع عن شعبه. و قد استعاد القرآن هذه القصة فی مقطعین من مقاطعه، الأول من سورة الكهف: قالُوا یا ذَا الْقَرْنَیْنِ إِنَ-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 167
أیضا إنّ كلا السدین هما جبلان یقعان بین أرمینیا و أذربیجان. و بعض اللغویین العرب المولعین بالفانتازیا أو بالخیال المجنّح الذی لا ضابط له راحوا یعتقدون بأن یأجوج و مأجوج اسمان مشتقّان من أجّج: أی توهّج أو توقد، و موج: أی موجة، أو من أجّ: أی سار بسرعة .. إلخ، أما المصطلحات الأخری التی تشكّل صیغا نادرة فی القرآن من قبیل:
صدفین، قطر، زبر الحدید .. إلخ، فقد فسّرت طبقا للمجریات المعتادة لعلم المعاجم العربیة «1».
إنّ كل هذه النتائج الحاصلة عن التفسیر الإسلامی القدیم تمثّل مجمل المعرفة التی شكّلها المسلمون عن القصص الواردة و عن المعنی الشمولی لسورة الكهف. و هذه النتائج لیست إلّا تكریسا عن طریق الكتابة و عن طریق رأی «العلماء» لتلك الثقافة الشعبیة العتیقة التی ظلّت حیّة فی منطقة الشرق الأوسط بفضل النقل الشفهی الذی كان الطبری لا یزال یعكس صیغته و مجریاته. و عند ما نقول الكتابة، فإننا نقصد بها هنا الرسم الخطّی بالمعنی
______________________________
- یَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلی أَنْ تَجْعَلَ بَیْنَنا وَ بَیْنَهُمْ سَدًّا. و الثانی من سورة الأنبیاء: حَتَّی إِذا فُتِحَتْ یَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ یَنْسِلُونَ. هكذا نجد أن القرآن یتحدث عن مجیئهم و الخراب الحاصل بسببهم. ثم یربط بینهم و بین القصة الأسطوریة للإسكندر المقدونی الذی یعتقد بأنه بنی سدا لاحتوائهم.
(1) كانت القراءة الفیلولوجیة و التاریخویة قد صحّحت المماثلات أو الشروحات «الخاطئة» للتفسیر الإسلامی القدیم. و قد فعلت ذلك بشكل خاص عن طریق الإحالة إلی ملحمة غلغامیش و روایة الإسكندر التی كانت تحقیقاتها المختلفة قد دعیت بال-.p seudocallisthene انظر بهذا الصدد كتاب أ.
آبیل: روایة الإسكندر: 1955،Bruxelles ،dAlexandre Roman Le :A .Abel ؛ و انظر أیضا الموسوعة الإسلامیة، الطبعة الثانیة، مادة «خضر»: ( (Khadir((.s .v ،.ed e 2،Islam de .Encyclopedie فی الواقع، إنّ القرآن لا یستمد قصصه أو حكایاته بشكل مباشر من ذلك المركّب المعقّد و العتیق لأساطیر وادی الرافدین، و الأساطیر الحثّیة، و الأناضولیة، و الأوغاریتیة، و الكنعانیة، و المصریة، كما هی الحال بالنسبة للعهد القدیم (التوراة). فكما كتبت لی الباحثة فرانسواز سمیث- فلورنتان، فإنه ینبغی بالأحری أن تفكّر «باستعادة صیغة أخری من صیغ تراث الشرق الأوسط القدیم. و یمثّل هذه الصیغة تزاوج بین تراثین: الأول یهودی نزوی أو أهوائی یعبّر عن نفسه من خلال الخط المدراشی «المنفلت» لإعادة القراءات الشعبیة للشریعة الیهودیة المتخذة كتراث، و الثانی یتمثّل بذلك المعجم المسیحی الغریب السائد فی أدیرة الرهبان و نزعتها التقویة إلی الورع و العبادة. و هذا الخط أیضا سوف یصبح بدوره «مدرسانیا» عما قریب ...» (المقصود بالمدراش هنا التفسیر الیهودی التقلیدی للتوراة). ینبغی أن نضیف إلی كل ذلك ما یلی: حتی لو توصلنا بشكل دقیق إلی الكشف عن جمیع التراثات الثقافیة القدیمة التی «أثّرت» فی القرآن، فإننا لن نستطیع أن نفسّر آلیّة الاشتغال الدلالیة أو السیمیائیة للخطاب القرآنی الذی یستخدم أسماء الأعلام، و القصص، و الكلمات النادرة من أجل تدشین انطلاقة جدیدة للشیفرة المنطقیة- المعنویة فی اللغة العربیة.
سوف نعود إلی هذه المسألة فی وقت لاحق.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 168
الحرفی للكلمة ثم مفصلة المعنی أو تركیبه عن طریق هذا الرسم بالذات. و هكذا نجد أن عمل المفسّر لم یفعل إلّا أن قوّی، بفضل الإنتاجیة الدلالیة للخطاب القرآنی، بعض التصوّرات، و الصیاغات، و الشروحات التی كانت سائدة من قبل أو مبثوثة هنا و هناك.
و لكن هذه الأشیاء لن تمنع القصّاصین الشعبیین (أو الحكواتیین) من قدح زناد قرائحهم الحماسیة و الاشتغال علی نفس الشبكة التطریزیة.
لما ذا نقول ذلك؟ لأن الثقافة الشعبیة استمرت فی كل النطاق الإسلامی فی صیاغة الحساسیة و الهویة الجماعیة فی الوقت الذی تركت نفسها لكی تقاد من قبل الثقافة الدینیة العالمة (أو الفصحی أو الرسمیة). و هذه الثقافة الرسمیة هی بدورها مصاغة لكی تلبی الحاجات الشعبیة «1».
و فی ختام هذه الفقرة بمقدورنا أن نعلن ما یلی: لقد شكّل التفسیر الإسلامی فضاء متناغما أو منسجما من التصوّر، و الإسقاط، و التعبیر اللغوی و الوجود، و ذلك بمعونة خطاب وصیّ علیه هو القرآن، و بمعونة «خطاب اجتماعی قدیم» «2». و هذا الأخیر یظل یشكّل التراث الحیّ المعمّم علی الشعوب التی مسّتها ظاهرة الكتاب الموحی به. و یبدو أن الحكایة (أو القصة) لعبت دورا مهیمنا فی عملیة تنظیم هذا الفضاء و إعادة إنتاجه أو تكراره.
و باستثناء التفسیرات النحویة، و المعجمیة، و الأخلاقیة- الفقهیة «3»، فإن الخطاب التفسیری كله یمارس دوره و كأنه حكایة متواصلة و مستمرة. إنه خطاب مدعوم من قبل منطق داخلی، مستوعب و مكرّر من قبل السامع- القارئ.
سوف نكتفی هنا بالقول بأن هذا المنطق ذاته یرتكز علی ما یلی: 1) البنیة السردیة- أو التمفصل السردی- للخطاب القرآنی؛ 2) منطق فوق نصّی داخل الخطاب القرآنی؛ 3) منطق متداخل نصّیا، و هو الذی ینظّم العلاقات بین الخطاب القرآنی و «الخطاب الاجتماعی القدیم» الذی كان سائدا فی منطقة الشرق الأوسط؛ 4) منطق الشخصیات الرمزیة المثالیة (كالنبی و المصطفین من قبل اللّه)؛ 5) منطق العلاقات الكائنة بین المعانی القرآنیة، و المعانی المتغیّرة للعمل التاریخی أو الممارسة التاریخیة، أو لنقل ذلك التوتر
______________________________
(1) منذ بدایات التوسّع الإسلامی لعب القصّاص الشعبیون دورا أساسیا فی نشر العقائد و المعارف «الدینیة».
و بدءا من القرنین الحادی عشر و الثانی عشر، راح المرابطون المبشّرون، و رؤساء الزوایا الدینیة یقوّون من عمل القصّاص و یدعمونه. انظر بهذا الصدد مادة «قاص» فی: الموسوعة الإسلامیة:Encyclopedie . ) )Kass((.s .v ،.ed e 2،lIslam de
(2) یقول كلود لیفی- ستروس: «إن الفكر الأسطوری یبنی قصوره الإیدیولوجیة بواسطة حصی و انقاض خطاب اجتماعی قدیم». انظر كتابه: الفكر المتوحش: 32.p ، 1962،Plon ،Paris ،sauvage Pensee .La
(3) نلاحظ أنه حتی هذه التفسیرات كانت قد عرضت داخل الإطار السردی للإسناد.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 169
الكائن بین الوحی، و الحقیقة، و التاریخ «1».
لقد تحدّثنا كثیرا عن المراحل السابقة. و قد آن الأوان لكی نواجه المرحلة الأكثر خطورة من قراءتنا هذه.

القرارات‌

ما الذی ینبغی فعله؟ ما هی القرارات التی ینبغی علی المرء أن یتخذها بصفته مؤرّخا؟
أقصد القرارات الخاصة بهذا الفضاء المتناغم و المنسجم حیث لا یزال یعیش أو یسبح ملایین المسلمین حتی الیوم. هل یكفی أن نقطّع هذا الفضاء التفسیری إلی قطاع أدبی، و قطاع فلسفی، و قطاع لاهوتی، و قطاع اقتصادی، بل و حتی قطاع دلالی سیمیائی ... ثم ندرسه طبقا للمناهج و الإشكالیات المعترف بها من قبل العلماء و الاختصاصیین المعاصرین؟
إنی أعترف بفائدة و ضرورة الأطروحات الجامعیة أو الدراسات الأكادیمیة المتخصصة التی تركّز البحث علی موضوع محدّد بدقة. كما و أعرف محدودیة النظرة البشریة عند ما ترید أن تكون إجمالیة شمولیة. و لكنی علی الرغم من ذلك أجد أن البحث الجامعی یقوّی من النزعة التسویفیة أو التأجیلیة، و لا یشجع علی الجرأة الاقتحامیة أمام المشاریع المعرفیة التی یعتبرها دائما سابقة لأوانها، أو طموحة أكثر مما یجب، كمسألة تجمیع أوصال المعنی فی تراث ثقافی معین «2». و ربما كانت هذه النزعة التسویفیة أو التأجیلیة عائدة إلی الانتشار الغزیر لما ندعوه ب «أطروحات الدكتوراة». فالباحثون الذین یعتمدون علی دراسات أكادیمیة صلبة من أجل الكشف عن بعض العلاقات التی تربط بین مختلف ذری الوجود البشری و المفصولة عن بعضها البعض بسبب ضرورات التحلیل العلمی، لا یزالون نادرین.
و هنا بالضبط تكمن أهمیة التدخل الذی قام به لویس ماسینیون بخصوص سورة الكهف. فقد شكّل هذا التدخل أول محاولة حدیثة تهدف إلی جمع ثلاث ذری من الواقع عادة ما تفصل عن بعضها البعض. و قد تمّ هذا الجمع ضمن منظور «البنی الأنتربولوجیة للمخیال» «3». و هذه الذری التی تشكّل مختلف جوانب الواقع هی التالیة: 1) معطیات التاریخ المادی التی یتحقّق منها و یثبّتها المؤرّخ الوضعی؛ 2) القرآن الذی اختزله التفسیر
______________________________
(1) انظر بحثنا بعنوان: «الوحی، الحقیقة، و التاریخ طبقا لأعمال الغزالی»:،Revelation ((:M .Arkoun .ff 332.p ،.op .cit ،islamique pensee la sur Essais ؛In ، ( (Ghazalide loeuvre dapres histoire et verite
(2) انظر بحثنا: «من أجل توحید الوعی الإسلامی». دراسة منشورة فی كتاب نقد العقل الإسلامی:
raisonla de Critique :.In ) )islamiqueconscience la de remembrement un Pour ((:M .Arkoun .ff 921.p ،.op .cit ،islamique
(3) هذا هو عنوان أطروحة الباحث الفرنسی جیلبیر دیوران:anthropologiques structures Les :G .Durand . 8691،.ed e 2،.P .U .F ،Paris ،limaginaire de
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 170
الفیلولوجی و التاریخوی إلی مجرد تأثیرات النصوص السابقة علیه؛ 3) التوسّع الأسطوری المتولّد عن التأمل و التصرفات الشعبیة السائدة فی المجتمعات الإسلامیة. و هذا التوسّع الأسطوری تمّ علی أساس الشخصیات المثالیة العلیا، و الموضوعات و «الكلمات الاستقرائیة و التحریضیة» المذكورة فی القرآن.
نلاحظ أن ماسینیون ركّز علی قصد «نوّام أفس السبعة» لأنها تشكّل نقطة وصل قویة بین المسیحیة و العالم الإسلامی. و هو موضوع عزیز جدا علی قلب المستشرق الكبیر.
یقول مستشهدا برأی أحد الباحثین: «لقد تلقی العالم الروحی للمسیحیة البدائیة (أو الأولیة) فی مدینة أفس بنیة داخلیة لا تنكر، حیث إن مریم العذراء تجد نفسها مع یوحنا، و مریم المجدلیة، و النوّام السبعة، مرتبطین مع بعضهم البعض داخل نفس منظور النوم و البعث» «1». و بحسب التاریخ المحلّی لمدینة أفس، فإنهم وجدوا بالفعل سبعة أجسام.
و أفس هی مدینة هراقلیطس و أرتیمیدور الذی ألّف كتاب الأحلام. و هذا الكتاب یوحی بأهمیة الحلم من أجل معرفة المستقبل أو المصیر «2».
لقد انتشرت هذه الأسطورة فی الغرب اللاتینی المسیحی من خلال ثلاث وثائق:
وثیقة مكتوبة باللاتینیة، و وثیقة مكتوبة باللغة السلتیة، و وثیقة مكتوبة باللغة الإنكلیزیة القدیمة. ثم أمّنت لها سورة الكهف الواردة فی القرآن انتشارا أكثر اتساعا فی الإسلام، و ذلك لأن الشعائر الشعبیة حدّدت موضع الكهف فی نجران، و قوصون، و طلیطلة، و قرطبة، ولوجا، و تیبیسّا، و كاب ما تیغو (فی الجزائر)، و جبل المقطّم (فی مصر) ... و فی العصور الوسطی لم یعدم بعضهم إقامة المقارنة أو المماثلة بین أئمة الإسماعیلیة السبعة و النوّام السبعة فی الكهف. و ماثلوا أیضا بین السنین ال 309 المذكورة فی القرآن، و بین عام 309 ه، تاریخ ظهور المهدی الفاطمی عبید اللّه فی إفریقیا (أی فی تونس الحالیة). و قد أرسل الخلفاء العباسیون: السفّاح، و المعتصم، و الواثق، سفراء إلی تلك الأماكن لمعرفة علی أی جهة من أجسادهم راح النوّام السبعة فی الكهف ینقلبون، أو یتقلّبون «3» ...
إنّ لویس ماسینیون یؤكد علی وحدة هذه القصة الرمزیة المتكررة عن طریق ربطها
______________________________
(1) انظر كتاب ك. غشویند الذی استشهد به لویس ماسینیون فی بحثه التالی: «العبادة الشعائریة و الشعبیة للنوّام السبعة، شهداء أفس: صلة وصل شرق- غرب بین الإسلام و المسیحیة»:cite (K .Gschwind trait :dEphese martyrs ،Dormants VII des populaire et liturgique culte Le ((، (L .Massignonpar ،t .III ، 1963،Beyrouth ،Minora Opera :In ، ( (chretientela et lislam entre Orient -Occident dunion . 771.p
(2) انظر كتاب الأحلام بتحقیق توفیق فهد: 1964،Damas ،Songes des Livre ،.T .Fahd
(3) انظر بحث لویس ماسینیون: «النوّام السبعة، سفر الرؤیا الخاص بالإسلام»، فی:.op ،minora Opera . 211- 111.pp ،.cit
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 171
ب «خطوط القوة الروحیة» التی تحافظ علی «الموضع الدینامیكی المحرّك للخیال الخلاق» «1». فهذا الخیال تحرّكه الأحداث المحسوسة للحیاة الیومیة التی یحوّلها بدوره إلی «علامات داخلیة» أو «إشارات متبادلة»، و ذلك تحت ضغط «النماذج المثالیة النفسانیة»، كما حدّدها و بلورها كارل غوستاف یونغ. كان التبجیل المسیحی و المنهجیة التاریخویة المتطرفة فی وضعیتها قد اختزلا، لأسباب مختلفة بالطبع، سورة الكهف إلی مجرد تجمیع أو تكرار للحكایات القدیمة الواردة فی التراث المسیحی. و ضد هذا التوجه الاختزالی راح اویس ماسینیون یدعم الأطروحة المركزیة لفكره ألا و هی: أن المحل الدینامیكی للخیال الخلاق یفسّر لنا سبب ذلك الاستلهام المشترك للكتابات المقدسة بما فیها القرآن «2» (التشدید علی كلمة «مشترك» منی).
إن تدخل ماسینیون لا یمكن إلّا أن یتركنا فی حیرة. فهل ینبغی أن نری فیه میلا مسكونیا لأحد كبار الشاهدین علی الروح؟ أم أنه یمثّل فرضیات مغریة لعالم مشغوف بدین إبراهیم؟ أم أنه یمثّل نوعا من «التماسكات المغامرة» «*» لأحد المستكشفین الجریئین لأعماق النفس البشریة؟ أم أنه ینبغی أن نری فی موقف ماسینیون كل ذلك فی آن معا؟
مهما یكن من أمر، فإنه ینبغی أن نضیف موضّحین ما یلی: إن ماسینیون لم یكتف بتألیف الدراسات الأكادیمیة و البلورات النظریة عن هذا الموضوع، و إنما أضاف إلیها الانخراط الفعلی أو العملی. فطیلة أربعة و عشرین عاما ظلّ یحیی عبادة النوّام السبعة فی قریة صغیرة تدعی فیو- مارشیه «**». و هی قریة واقعة علی الشاطئ الشمالی من فرنسا فی
______________________________
(1) 115.p ،..Ibid
(2) انظر تأملاتنا حول النطاق الثقافی الإغریقی- السامی فی كتاب: الإسلام، بالأمس و غدا (بالفرنسیة):
.ff 021.p ، 1978،buchet -Chastel ،paris ،demain ،hier ،LIslam :M .Arkoun
* المقصود بالمیل المسكونی هنا نزعة حبّ المصالحة بین الأدیان. و كما قلنا فإن ماسینیون كان من كبار مؤیدی الحوار المسیحی- الإسلامی. و كلمة «مسكونیة» هی الترجمة العربیة للمصطلح الفرنسی.oecumenisme و هی الحركة التی ظهرت عام 1927 من أجل التقریب بین المذاهب المسیحیة المتعادیة علی مدار التاریخ (و بخاصة التقریب بین الكاثولیك و البروتستانت الذین شنّوا الحروب المذهبیة ضد بعضهم البعض طیلة عدّة قرون). و قد نجحت هذه الحركة خلال الخمسین سنة الماضیة فی إزالة الخصومات التاریخیة بین هذه المذاهب إلی درجة أنهم أصبحوا یصلّون مع بعضهم البعض أحیانا! و ماسینیون كان یرید توسیع حركة المصالحة لكی تشمل الأدیان التوحیدیة كلها. و هذا ما یسعی إلیه أیضا عالم اللاهوت الألمانی هانز كونغ‌Kung .Hans أما مصطلح «التماسكات المغامرة» فیقصد به أركون المشاریع الفكریة. فكل مشروع هو كلّ متماسك و یغامر من أجل المستقبل أو یراهن علیه.
** فیو- مارشیه‌Vieux -Marche : قریة تقع فی مقاطعة بریتانی بفرنسا. و كان ماسینیون یجمع فیها سنویا بعض المسیحیین و المسلمین لكی یزوروها بسبب الاعتقاد بوجود قبور السبعة القدیسین (أو-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 172
منطقة البریتانی. و هكذا مثّل شهادة علمیة و معاشة فی آن معا. و یستوقفنا فی هذه الشهادة ما یلی: ضرورة العثور علی الغایة المحوریة الأساسیة، أو المقصد الدالّ. و هما شیئان یؤكدان ذاتهما عبر تنوّع الأشخاص و الأماكن، و التقمّصات الدوریة للأبطال الحضاریین، و التكرّرات الرمزیة، و إعادة الاستخدامات السیمیائیة الدلالیة أو المنطقیة الاستدلالیة. و هذا هو قرارنا الأول الذی نتخذه بخصوص هذه المسألة التی شغلتنا حتی الآن. و هذا القرار یجنّبنا الوقوع فی خطأ تقلیص أو حذف الطرق البراغماتیة للمعرفة. و هی طرق كانت مفتوحة قبل انتصار العقلانیة التجریدیة و الاختزالیة «*».
و أما القرار الثانی فیدخلنا فی توتر تثقیفی أو تربوی مع الأول. نقصد بذلك ما یلی:
سوف نتراجع عن الاهتمام بالمسائل المفروضة من قبل النزعة السكولاستیكیة (أو المدرسانیة العتیقة) لكی نفسح فی المجال أمام نقد العقل الإسلامی. و بدلا من أن نبحث عن مصالحات وهمیة بین مقولات میتافیزیقیة من قبیل: الإیمان/ و العقل، أو الإیمان/ و الدین، أو الوحی/ و العلم .. إلخ، فإننا نبادر فورا إلی فتح المناقشات التالیة:
1- أول مبحث یشكّل جدة مطلقة بالنسبة للقرآن هو ذلك المتعلق بتحدید المكانة الدلالیة (أو السیمیائیة) للخطاب القرآنی. یقول قاموس روبیر الفرنسی محدّدا معنی كلمة علم الدلالات أو علم السیمیائیات: «إنه یمثّل نظریة العلامات و المعنی و سریانهما فی المجتمع». إذا كان معنی العلم الجدید هو هذا، فإننا نلمح مباشرة مدی ضخامة المهمة الملقاة علی عاتقنا، و مدی صعوبتها. و أول صعوبة تعترض طریقنا هی تلك الخاصة بالعقیدة اللاهوتیة القائلة بإعجاز القرآن، و مؤدّاها أن الخطاب القرآنی یستخدم العلامات اللغویة طبقا لمعاییر نحویة، و معنویة، و بلاغیة تولّد أنماطا معیّنة من الدلالة و المعنی. و هذه الأنماط المعنویة أو الدلالیة لا تختزل إلی أی تجلّیات دلالیة فی أی لغة طبیعیة كائنة ما كانت. فهل خصوصیات أنماط الدلالة هذه راجعة فعلیا إلی بنی المعانی الملازمة للخطاب القرآنی، أم إلی آثار المعرفة التی یولّدها هذا الخطاب أثناء سریانه (أو انتشاره) فی المجتمع؟
إنّ هذا السؤال یرتدی أهمیة حاسمة بالنسبة لنا. و هو یفرض علینا القیام بدراستین علمیتین
______________________________
- السبعة النائمین) فیها. و كان فی أواخر حیاته قد أسّس هذه الزیارة تبركا ب «أهل الكهف» المبجّلین فی المسیحیة كما فی الإسلام. و معلوم أن المتدینین یعتقدون بوجود قبور لأهل الكهف فی أماكن متعددة من الشرق أو الغرب. إنهم أصبحوا كالأولیاء الصالحین بالنسبة للمسلمین، و كالقدیسین بالنسبة للمسیحیین. انظر بهذا الصدد مقالة لویس غاردیة عن ماسینیون فی كتاب:Gardet Louis ،Paris ،temoignages et zzzmassignon .Hommages Louis de Presence :in ، ( (dabsoluhomme Un ((. 7891،Larose et Maisonneuve
* العقلانیة التجریدیة و الاختزالیة التی یقصدها أركون هنا هی العقلانیة الوضعیة و التكنولوجیة التی لا تعترف إلا بالمادیات. فكل شی‌ء یتجاوز المادیات تعتبره میتافیزیقا لا معنی لها.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 173
مترابطتین أو متضامنتین. ینبغی علینا أولا أن نقوم بتحدید تزامنی للبنی المثولیة أو الملازمة للدلالة و المعنی و الخاصّة بنظام اللّغة العربیة ما قبل القرآنیة. نقصد بذلك اللغة العربیة التی لم یؤثّر فیها بعد الحدث اللغوی القرآنی «1». و ینبغی علینا ثانیا أن نبلور تحدیدا بنیویا نشوئیا قادرا علی متابعة التوسّع الدلالی للخطاب القرآنی و انتشاره داخل الأنظمة الدلالیة الثانویة أو الثانیة بالأحری، ثم بالدرجة الأولی فی الخطابات التی تحتلّ المرتبة الثانیة. و هی أنظمة تطبع بطابعها و سماتها كل الثقافات الإسلامیة. و یمكن أن نقول منذ الآن ما یلی: فی ما یخصّ السیرورة التی تعبّر عن الجدلیة الخاصة بالمجتمعات المؤسلمة، فإن الخطاب القرآنی یمارس دوره كنظام أصبح مستقرا لغویا بدءا من القرن الرابع الهجری/ العاشر المیلادی، و لكنه ظلّ دینامیكیا من الناحیة السیمیائیة و الدلالیة. هذا فی حین أن الخطابات الثانویة (أو الثانیة) «2» تمارس فعلها بصفتها أنظمة متغیّرة لغویا، لا مستقرّة، و لكنها مسهبة أو مكرورة دلالیا و سیمیائیا.
2- أما المبحث الأساسی الثانی فینبغی أن یتركّز علی مسألة التعالی أو إضفاء التعالی علی الأشیاء. و نقصد التعالی بصفته ممارسة ثقافیة مشتركة لدی جمیع المجتمعات التی انتشرت فیها ظاهرة الكتاب المقدس. كان عالم اللاهوت و الفیلسوف الكلاسیكیّین قد شكّلا فضاء میتافیزیقیا بمعونة المقولات التجریدیة المعاملة كمزدوجات ثنائیة متضادة. و نقصد بالمتضادات الثنائیة هنا ما یلی: متعال/ مثولی، فوق طبیعی/ طبیعی، مقدّس/ دنیوی، سماوی/ أرضی، روحی/ زمنی أو مادی ... إلخ. و یتعیّن علی المؤرّخ أن ینبش عن العملیة التی أدّت إلی تولید هذه المقولات لأول مرة، و كیف تمّت بلورتها. و ذلك لأنه ما إن تترسخ فی نطاق اجتماعی- تاریخی معیّن حتی تمارس فعلها كنظام لإضفاء المشروعیة علی التصرفات الفردیة و الجماعیة.
ینبغی علی التحلیل النفسی- الاجتماعی- التاریخی أن یكشف فی كل عمل فكری و فی كل فترة عن مختلف مستویات التعالی الذی یمكنه أن یكون عبارة عن مجاز مثالی رائع، أو أسطرة، أو تزییف، أو تحریف، أو أدلجة «3». و فی سورة الكهف، ثم بشكل أعمّ
______________________________
(1) حول «أصول اللغة العربیة الكلاسیكیة»، انظر: المناقشة الجاریة حالیا فی كتاب الباحث ج. وانسبرو:
.ff 58.p ،.op .cit ،Interpretation Scriptural of methodes and Studies .Sources Quranic :J .Wansbrough
(2) أقصد هنا مختلف الخطابات المتجلّیة فی اللغات الإسلامیة العدیدة و بالدرجة الأولی العربیة الكلاسیكیة: الخطاب القانونی الفقهی، الخطاب اللاهوتی (علم الكلام)، الخطاب الأخلاقی، الخطاب الفلسفی، الخطاب الصوفی، الخطاب التأریخی (كتب المؤرّخین القدماء كالطبری، و ابن الأثیر و سواهما ...).
(3) سیكون من الممتع أن ندرس من هذه الزاویة كتب الجاحظ، و ابن قتیبة، و التوحیدی، و الغزالی، و ابن الجوزی، و السیوطی ... إلخ. بقی علینا أن نعمل الكثیر لكی نخرج من حالة الخلط و الإبهام هذه،-
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 174
فی مختلف القصص التوراتیة و الإنجیلیة و القرآنیة، یسهل علینا أن نبیّن كیف أن التنظیم السردی یتطوّر كمجاز ضخم یحمل فی طیاته شیئا من التعالی أو من الروحانیة بمساعدة نقاط ارتكاز مادیة أو فیزیائیة: كالكهف، و الكلب، و النوّام السبعة، و السنوات الثلاثمائة و تسع، و الحوت، و الصخرة، و مجمع البحرین، و مغرب الشمس و مطلعها، و السفینة، و الجدار، و القریة غیر المضیافة .. إلخ. و لكن العملیة مختلفة كما سنری فی الخطابات الثانیة (أو الثانویة). فكلما اهتمّت هذه الأخیرة بتقنین المراتبیات الاجتماعیة الهرمیة، أو بتثبیت الحالات الذاتیة (الصوفیة)، حوّلت القولبة الروحیة للمحیط الفیزیائی المادی و للزمنیة الطبیعیة إلی نظام معیاری إیدیولوجی، أو مؤسطر أو مزیّف «1».
3- فی ما وراء المثال القرآنی و الإسلامی، فإن هدف القراءة كلها هو المساهمة فی تحریر المعرفة التاریخیة من إطار القصة و مجریاتها من أجل جعلها تتوصل إلی وظیفة الكشف عن الرهانات الحقیقة للتاریخیة «*». حتی هذه اللحظة كان الانتقال من لحظة التاریخیة الخام المعاشة من قبل كل مجموعة أو طائفة، إلی لحظة التاریخ، قد حصل داخل
______________________________
- و لكی نجعل هذه المصطلحات الأربعة فعّالة أو قابلة للتطبیق بدرجة من الدرجات. و هی مصطلحات شائعة و مستخدمة جدا فی أیامنا هذه. إنّ التساؤلات و الدراسات التی أدخلها المفكّر الفرنسی جان بییر قیرنان فی ما یخصّ الفكر الإغریقی تساعدنا كثیرا علی تطبیق هذه المصطلحات علی الفكر الإسلامی أو معرفة كیفیة تطبیقها. للأسف، فإن «المستشرقین» یظلون عموما بعیدین عن مثل هذه المنهجیات المستجدة أو الفضول المعرفی التاریخی و الإبستمولوجی.
(1) و هنا بالذات یكمن كل الانتقال من مرحلة «المجاز الحیّ» إلی التسمیة الصارمة، أو من الرمز إلی العلامة فالإشارة. و ینبغی تتبّع هذا الانتقال عبر تطوّر الثقافة الإسلامیة و مسارها الطویل حتی یومنا هذا.
* ما ذا تعنی هذه العبارة الصعبة؟ كیف نفهمها؟ إنّ أركون یرید أن یتجاوز المثال الإسلامی لكی یتوصل إلی معرفة أكثر عمومیة. فالتراث الإسلامی لیس إلا مثالا واحدا من جملة أمثلة أخری علی التراث الدینی.
و هو یدرسه هنا لكی یتوصل من خلاله إلی معرفة تتجاوزه و تغنی المعرفة البشریة ككل. و لا ینبغی أن نتخذ التراث الإسلامی كمطلق، كما یفعل المؤمنون التقلیدیون المسجونون داخله، و إنما ینبغی أن نتكئ علیه- كما نتكئ علی غیره كالتراث المسیحی أو الیهودی أو الهندوسی. و من أجل التوصل إلی معرفة كونیة بالإنسان و التاریخ، و لكی نتوصل إلی هذه المعرفة، كی نكشف عن الرهانات الحقیقة لحركة التاریخ أو لما ندعوه بالتاریخیة، فإنه ینبغی علینا أن نحرّر المعرفة التاریخیة من الإطار القصصی أو السردی الذی كان سائدا فی العصور القدیمة. و الواقع أن هذا الإطار القصصی كان یتناسب مع عقلیة الناس فی ذلك الزمان، أی فی عصر الأسطورة، و الخیال المجنّح، و المیل إلی تصدیق كل ما هو غریب، عجیب، خارق للعادة. أما الآن فإن المعرفة التاریخیة ینبغی أن تتحرر من كل ذلك لكی تصبح أكثر دقة و علمیة، ثم لكی تصبح أكثر قدرة علی فهم الرهانات الحقیقة للتاریخ. و هذه الرهانات تتمثّل أساسا فی تصارع الناس من أجل السیطرة علی الأملاك الروحیة و المادیة، و لیس فقط المادیة. و نقصد بالأملاك الروحیة الرأسمال الرمزی الأعظم المتمثّل بالمنتوجات الفكریة و الثقافیة بما فیها الدین.
القرآن من التفسیر الموروث إلی تحلیل الخطاب الدینی، ص: 175
الإطار الإغریقی- السامی بمعونة أربعة مفاهیم منظمة علی هیئة «كتلة من العلاقات الدائریة» ... و هذه المفاهیم الأربعة هی التالیة: 1) مفهوم الزمن الكونی و العام أو العمومی الذی تربط به الأحداث، و المتغیّرات، و الثوابت الدائمة؛ 2) مفهوم سیر الأشیاء أو مجری الأشیاء، و هو عبارة عن نسق كثیف إن لم یكن متواصلا و مستمرا (أو متخیّلا كذلك)، لا ثقوب فیه، و لا نواقص؛ 3) مفهوم القاصّ أو السارد الذی یسجّل و ینصّ مالئا بكلامه (علی طریقة السجل المدنی) فجوات الذاكرة، و محتجزا مسرب الأصول؛ 4) مفهوم ما ندعوه ب «الآن أو الیوم»، أی ما یدعی بالحالة الراهنة لمسری الأشیاء، أو «الحاضر التاریخی» الذی نعرفه مباشرة و الذی یشكّل بالنسبة لنا العالم الذی نجد أنفسنا فیه نحیا و نشتغل بشكل مشترك، علی ما نعتقد «1».
علی هذا النحو یمكن أن نفهم بسهولة لما ذا تستغرق بلورة مثل هذا البرنامج البحثی أو إنجازه وقتا طویلا. فنحن لم نبتدئ إلّا بالكاد نلمح إمكانیة تحقیق هذه المسارات التی عدّدناها آنفا أو رسمنا خطوطها العریضة. و بعض المنافذ أو المسارات كبلورة تیبولوجیا للخطاب القرآنی، أو ما دعوته باللغة العربیة غیر القرآنیة، لا تزال مسدودة أو حتی مستعصیة. لهذا السبب نقول بعد أن وصلنا فی مسارنا إلی هذه النقطة بأنه من الضروری منهجیا أن نبقی قراءتنا لسورة الكهف معلّقة، و أن نعود إلی إجراء استكشافات أولیة أو تمهیدیة.
و هكذا نعلن منذ الآن بأن المرحلة التالیة من بحثنا سوف تتمثّل فی دراسة البنیة الرمزیة للخطاب القرآنی.
______________________________
(1) انظر بحث الفیلسوف الفرنسی جان توسان دیزانتی: «مفهوم الزمن و الزمن فی التاریخ». و هو بحث ألقی فی مؤتمر علمی عقد فی داكار حول الموضوع التالی: «طبیعة التاریخ و وظیفته بالعلاقة مع تعدّدیة الثقافات البشریة و تنوعها»:، ( (lhistoiredans temps le temps de concept Le ((:J .T .Desanti la avec relation en lhistoire de fonction et Nature ((sur colloque au inedite Communication . 8791،UNESCO ،Dakar ، ( (culturesdes diversite

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.